احتوى العدد الأخير، الثاني والتسعون، من المجلة الثقافية، التي تصدرها الجامعة الأردنية ملفًا عن وعد بلفور، الذي صدر في 2 تشرين الثاني عام 1917م على هيئة خطاب وجهه بلفور وزير خارجية بريطانيا إلى اللورد روثتشايلد الزعيم الصهيوني الإنجليزي مؤيدًا فيه إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
تواجهنا في هذا العدد الافتتاحية التي كتبها رئيس التحرير الأستاذ الدكتور محمد شاهين بعنوان «وعد بلفور: تداعيات ليست للنسيان» يبين فيها أن وعد بلفور ليس من بنات أفكار بلفور بل إن من أعد مسوداته هو حاييم وايزمان، الذي كان محاضرًا في الكيمياء في جامعة مانشستر وعضو المجلس الصهيوني، وتحتوي هذه المسودات على عبارات رئيسية، هي: الاعتراف بفلسطين وطنًا قوميًا لليهود، فلسطين دولة يهودية، فلسطين غير مجزأة. ولقد كان بلفور أداة للقيام بدور محدد، ولو لم يقم به لاختير غيره ليقوم بالدور؛ فالاستعمار مثل الصهيونية مؤسسة تحسن اختيار الأفراد وإعدادهم للرسالة المنشودة.
ويقدم المؤرخ إلان بابيه مساهمته في محور العدد بمقاله الموسوم بـ «من وعد بلفور إلى النكبة: تجربة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين...» ترجمة الدكتور محمد عصفور. ينطلق بابيه من مفهوم الباحث باترك وولف بأن الاستعمار الاستيطاني بنية والهدف منها التخلص من السكان الأصليين بإبادتهم، كما حدث لسكان أمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية، وسكان أستراليا الأصليين، أو بوضعهم في مناطق معزولة، كما حدث في جنوب إفريقيا.
ويوضح وليم كوك في مقاله «إعلان بلفور عام(1917-2017):100 عام من الخداع والتدمير والتطهير العرقي» الذي نقله إلى العربية علاء الدين أبو زينة أن إسرائيل تحتفل منذ عام 1948 باستقلالها كدولة وليس واضحًا ممن وعمن تعلن استقلالها. وكانت الصهيونية، في الحقيقة، خاضت من العام 1939 وحتى 1948 قتالًا شرسًا ضد سلطة الانتداب البريطانية، وكان الصهاينة ملتزمين بهدفهم منذ عام 1922 بإقامة وطن للشعب اليهودي. وتبدو الانتهازية بطريقة غرائبية بصدور وعد بلفور قبل أن يكون لبريطانيا تفويض للانتداب على فلسطين.
وتورد المجلة الثقافية ضمن محورها عن وعد بفور الفصل الأخير من كتاب « قدسنا» وهو سيرة تاريخية لعائلة أمريكية عاشت في مدينة القدس، وكانت شاهدة عيان على ما فعلته الصهيونية في فلسطين. وأبرز ما في هذا الفصل ما أكدته المؤلفة برثا سبافرد قستر بعدم وجود مشاكل حقيقية بين اليهود والعرب في فلسطين قبل ظهور المطامح القومية للصهيونية.
كما تضمن محور المجلة عرض غادة الكرمي لكتاب «فلسطين الواقع» ترجمة هند شاهين بوصفه أهم ما نشر من دراسات عن فلسطين. ومؤلفه جي إم أن جفريز الذي رأى فيه أن السياسة البريطانية سياسة مخادعة. ولولا بريطانيا لم تكن لتوجد مسألة فلسطين.
كما يرد ضمن محور العدد ترجمة جهاد حمدان وتسنيم التميمي لجزء من كتاب «دراسة استقصائية: الجدل حول فلسطين» لمؤلفه نيفل باربر وهو من رواد المستشرقين الذين كشفوا العلاقة بين الحركة الصهيونية والمؤسسة السياسية البريطانية التي تزعمها لويد جورج وآرثر بلفور، ومحاولاتها في إخفاء أهداف الحركة الصهيونية التي ترى أن لها الحق في أرض فلسطين.
احتوى العدد فضلًا عن المحور السابق حوارًا مع آفي شليم الذي يعد من أهم مؤرخي إسرائيل الجدد، وصاحب كتاب «الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي»2000. كما ورد ت في العدد دراسة نهض بها الدكتور علي الشرع بعنوان «مراحل متأخرة في شعر محمود درويش» وقصيدة لفدوى طوقان «لن أبكي» التي أبدعتها إثر هزيمة 1967، والتي نشرتها في مجلة الآداب 1968م. ثم ورد في العدد نص من سيرة جبرا إبراهيم جبرا « البئر الأولى» كما جاء في باب الفنون مسرحية «أوسلو « من تأليف ج. ت. روجرز والتي ما زالت تعرض على مسرح برودوي في نيويورك، كما عرضت مؤخرًا في المسرح الوطني في لندن. وورد حديث عن الفيلم الوثائقي «فلسطين الواقع» للمخرج كارل صباغ الذي قدم فيه القضية الفلسطينية مع التركيز على وعد بلفور، وفي العدد مراجعات لكتب إذ عرض المؤرخ الدكتور علي محافظة كتابين: «عشر أساطير عن إسرائيل» لإلان بابيه، و»دولة إسرائيل الزائلة» ليعقوب شاريت. وراجعت دينا سلمان كتاب «الاستياء العالمي: حوارات حول التهديدات المتزايدة للدمقراطية» وراجعت مها قصراوي رواية الدكتور إبراهيم السعافين «الطريق إلى سحماتا».
وفي النهاية، لعل قيمة هذا العدد تتأتى من الموضوع الذي تناوله وما زال حاضرًا وهو وعد بلفور، وكذلك اعتماد مواده على مصادر قيمة نادرة لمؤلفين من المؤسسة البريطانية نفسها ممن شهدوا على الجريمة التي ارتكبتها بريطانيا بحق فلسطين وشعبها.