مفي الشعر سبيلاً أمثلَ لدفن الضغائن الدينية والقومية، وتحقيق حرية الإنسان في التعبير والتفكير والإيمان دون إكراه أو تحيُّز.
وتكاد تقوم فكرة الكتاب الرئيسة في فصوله الثلاثة على الدعوة إلى فضِّ الاشتباك بين الشعري، الذي يتجلى فيه الجمال والتخيُّل والانفعال، والديني بما فيه من اعتقاد وإيمان وطقوس وشعائر. وكل ذلك يجيء في صورة فيض شعوري وجداني، وحلم شاعري وتمنيات طوباوية في عالم أخذت فيه المركزية الأوروبية تفرض سلطانها وهيمنتها على دول الأطراف. لكن مضمونات الكتاب في الوقت نفسه تكشف عن انحياز مضاد إلى ما هو جمالي وتحييد ما هو معرفي في قضية التثاقف الإنساني، وهي دعوة نبيلة قادرة في مستواها الوجداني المحض على هدم حواجز التكاره والتعصُّب، وإحلال الرضا والتوافقية والتسامح بين الأفراد والشعوب.
وأحسب أن المؤلف قد أدرك أنَّ دعاوى التثاقف ما تزال تتوطَّن في بؤرة متوترة محكومة بتحديدات ضيِّقة، تختزل العلاقة مع الآخر في الحدود الخارجية للدين، وأنها علاقة أحادية تنحصر في الصراع الديني. ولهذا خصَّ الفصل الأول من كتابه بالتمهيد لموضوع الشعرية بما يكشف «فضاء التسامح الديني». ويشعر القارئ، بل المؤلف نفسه، وهو يتشابك مع هذا العنوان أنه يسير في «حقل ألغام» لا في «حديقة زهور» لما يمثله الدين والعلاقة به من التباس وإشكال -في فضاء التسامح، وليس في أصل رسالته- وتعقُّد سلطته وهيمنتها على الوجدان والشعور في منظور الغرب والشرق معاً؛ إذ لم يعد -من وجهة نظر المؤلف-عاملاً مسكِّناً للصراعات المذهبية والطائفية في أرجاء الأرض.
والمؤلف إذ يقرّ بوجود معالم تؤكِّد الاحترام المتبادل والحوار النزيه، والتواصل الحر بين الشرق والغرب، فإنه يأتي بشواهد تنمُّ عن المكبوتات التي تحتشد في ضمير الغربيين تجاه الشرق ودياناته وثقافاته، وهي مكبوتات عدائية تشرِّع لخطاب من طرف واحد تتجاهل فيه الطرف الآخر: «نحن»، ويبدو هذا الأمر في أقصى تجلياته حين يطرح المؤلف السؤال التالي خلاصةً لهذه القضية الشائكة: «في ضوء ذلك يبرز السؤال الاستراتيجي هل نؤجل فكرة التسامح الديني إلى الزمن الذي يطمئنّ فيه الشرق العربي إلى نوايا الغرب؟». والسؤال على هذا النحو وبهذه الصيغة التعبيرية يحيل على أمرين اثنين: الريبة التي تعتمل في نفوس الشرقيين تجاه نوايا الغرب، ما يعني أن جسور التثاقف مهدومة. وأن الشرقيين هم من يتأبّى على التفاعل مع الآخر. وكلا الفريقين: المرتاب، والمرتاب منه، لا يسهم في التثاقف كما يجب أن يكون، لأن روح التسامح غائبة.
ولأن المسألة الدينية شائكة وملتبسة، أو لأن المؤلف لا يريد أن يسلّط عليها الضوء بأكثر مما فعل، فإنه يغادرها قاصداً نحو المطلب الحقيقي والجوهري والمركزي من كتابه، فيُبرز أهداف المثاقفة العالمية في الأدب، ويُخصِّبها بالجوانب التاريخية والفكرية والمعرفية، بعيداً عن الشوفينية واقتراباً من الثقافة الجمالية التي تلغي القبح الإنساني من مظاهر الصراع. ويشكِّل العنوان الفرعي: «القوة الشعرية العالمية» مهاداً نظرياً على كيفية صلاح الشعر في كونه وسيطاً في التسامح الديني. فالمخيلة الشعرية قادرة على تجاوز مكانها وزمانها وتحقيق عالميتها، وبالتالي تحقيق كونيتها وإنسانيتها. وهنا يقدِّم المؤلف نماذج من شعراء عرب وغربيين أمثال أبو نواس وشاتوبريان وفاليري وشعر الهايكو، للبرهنة على ذوبان الفوارق الدينية لصالح التجربة الشعورية الجمالية، التي يتآلف حولها الشرقيون والغربيون.
ولم يكتفِ في الفصل الثاني الذي عَنْوَنه ب»التسامح الديني في الشعر العربي» بتأكيد حقيقة التواشج العضوي بين الفن والدين وصدورهما من منبع واحد، وصيرورتهما إلى غاية واحدة، وإنما أورد مرويَّات تاريخية أدبية تتصل بحياة امرئ القيس المسيحي مع السموأل اليهودي، وكذا تثاقف الشعراء العرب الجاهليين مع المسيحية معتقَداً وطقوساً، وتقع في السياق نفسه حكاية الشاعر المشرك-حينذاك- كعب بن زهير مع الرسول العربي عليه السلام.
هذه السلوكات الاجتماعية الإنسانية الجمالية فضلاً عن أنها شواهد حية في ضمير الأدب والتاريخ، بما تحمله من دلالة على تقبُّل الآخر، فإنها كذلك أنساقٌ نامية مطّردة في مضامينها القيمية، ودلالاتها التي هي أبعد من رمزيتها، وأبعد من كونها أمثلة وشواهد محدودة ومحصورة في عصر ومكان وشخص.
وزيادة في تأكيد هذه العلاقات القيمية الإنسانية بين الثقافات في بعديها الروحي والجمالي، يكشف المؤلف عن الرابط العرفاني الصوفي لدى شعراء التصوف الإسلامي وتأثرهم بالمسيحية. وهو في هذا يذهب مذهب عاطف نصر في كتابه «الرمز الشعري عند الصوفية» الذي يرى أن منابع الصوفية هي منابع يونانية، وإليه يعود في تمثيلاته الشعرية الششتري وابن عربي وابن الفارض، مستخلصاً أن مبدأ «الرحمة والتفاهم وتقبّل الآخر والاحترام المتبادل والعيش ضمن حرية الفكر والمعاش الآمن» مفاهيم جسّدها الشعر الصوفي، ينضاف إليها ذلك التطور الفني في استخدام الرموز الصوفية المسيحية لتكون عناصرَ تخصيبٍ جمالي للنص.
ولم يقف استثمار اللحظة المعرفية المتصلة بالمعنى الديني، واللحظة الجمالية المتصلة بالشعر عند هذا الحد، بل تجاوزها المؤلف في اشتباك جديد مستمر مثَّلته صور الحديث عن الشعر الأوروبي في علاقته بالإسلام، وأثر ظهور حركة التنوير المسيحي وما حملته من قيم جديدة ورؤيا مختلفة للتاريخ والفلسفة والأدب. فعلى الصعيد الأدبي اغتنى المشترك الإنساني وانفتح على ثقافة الشرق من خلال «غوته» الذي اندغم نفسياً بالثقافة الإسلامية بعد امتداد حركة الترجمة، خصوصاً ترجمة القرآن الكريم، فكان من ثمرات تعلُّقه الروحاني بالقيم الإسلامية وحياة الرسول عليه السلام، ذلك التجسّد الأدبي في ديوانه «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي»، وأدّى تأمله وطمأنينته إلى التسامي الكوني، محتجاً على التقوى الزائفة، ومنخرطاً في حرية فسيحة، فتحت آفاقه على أساليب تعبيرية ولغة جديدة جعلت منه رمزاً لتصالح الإبداع الأدبي مع اللذائذ الدينية الإيمانية.
وليس بعيداً عن هذه التجربة «بوشكين» الذي سحَره الشرقُ وتراثُه الديني والثقافي، فاختار في عصر مضطرب سياسياً ودينياً، استلهام أساطير الشرق وتاريخه، وتوظيفه على نحو فني مجازي اخترق تابوهات التعصب القومي والديني، فكان أن مهَّد إلى فضاء مفتوح من التسامح والعيش المشترك.
وفي الفصل الثالث والأخير ينتصر المؤلف إلى عبقرية الخيال الإنساني، ويؤكد إمكانية هذا الخيال في أن يكون وسيطاً يتجاوز حدوده المادية لتحقيق لذة الجمال. وهذه اللذة تتفسَّر مغازيها الوجدانية والمعرفية، عند الحديث عما أسماه المؤلف «التخاطر الأبيقوري في الشعريات العالمية». وتنشغل هذه الأبيقورية في حالة ثلاثية تقوم على الحب والخمر والعلاقة مع الزمن. لكن المؤلف ينحاز إلى الجانب الإجرائي الرغائبي من معنى الأبيقورية، فيكشف عن العلاقة التأثيرية التأثرية في مفهوم الزمن/ الليل بين امرئ القيس والشاعر الألماني «هيلدرلن»، ثم يُلحق بهما «غوته»، كاشفاً عن تأثير سيمياء الطبيعة في جعل إحساسهما بالزمن واحداً، من خلال النماذج الشعرية التي عالجها مضمونياً ومفهومياً. وكذلك فعل في مسألتي الحب والخمر، حتى بدت الأبيقورية دعوة إلى الحسّيّة بمغزاها المادي المجرد.
وعلى أيِّ حال من سحيل ومبرم -بتعبير زهير بن أبي سلمى- فإن في الكتاب انتصاراً للإنسان، ومحاولة لمداواة جراحات البشرية بالشعر والجمال والحب والتسامح، وكفى بهذا دعوة نبيلة المقصد، تجمع رعاة البقر ورعاة الإبل في معبد واحد، ليصْغوا معاً إلى ترتيلة شعرية تمسح من نفوسهم العداوة والبغضاء.
وإذا كنت قد نأيت عن الإلماح إلى ما ختم به المؤلف كتابه هذا، مما اقترحه من آليات مقترحة لتحقيق الوساطة الأدبية في التثاقف العالمي، وذلك تحفيزاً للقارئ المبدع على تلقيها مباشرة، فإن الخاطر يدعو إلى تأكيد السوانح التالية، التي استدعاها موضوع الكتاب:
- التسامح من حيث المبدأ مصطلح متداول منذ ولادته ونشأته واستقراره في البنية المعرفية للإنسان، لكنه الآن يتخذ سَمْتاً آخر وفق المرحلة التاريخية، والشروط الجديدة التي أملته، فلم يعد مجرد ظاهرة لغوية مجردة ومعزولة عن بنيتها المعرفية والتاريخية، بل أصبح مغايراً في معناه لإرادة الواضِعين الأوائل وتوافقهم، فاكتسب قوة ترسيمية مرتبطة بالهيمنة والنفوذ، وبهذا اكتسب معنىً نفسياً في حقله الدلالي الإنساني-الاجتماعي، ومرتبطاً بشروطه السياسية-الاقتصادية.
- من حيث الأصل ولد مبدأ التسامح في بيئة مسيحية بروتستنتية، وله علاقة بالمحبة والتعاطف، ونما هذا المفهوم زمن الثورة الفرنسية مقابلاً للعنف وبديلاً عنه، وبالتالي نشأ محملاً بخصائص البيئة التي نشأ فيها.
- المشكلة التي عانى منها العالم العربي والإسلامي هي القاعدة الرئيسة التي يؤسِّسُ فيها الفكرُ الغربيُّ مفهومَ الغيرية، وهي قاعدة لا تقوم على مطلق الاختلاف، بل الغيرية في الفكر الأوروبي مقولةٌ تؤسِّسُ فكرةَ السلب أو النفي، فالأنا الأوروبية لا تفهم نفسها إلا في ظل نفي الآخر، الذي ترى وجوده وجوداً وهمياً أو موضوعَ شكِّ على الأقل. ولهذا ربط الفكر الأوروبي مقولات العقل والحقيقة وطوَّرها إلى أداة للرأسمالية والليبرالية السياسية، وربط الحقيقة بالمعتقد وتحيّز لها، ف»نيتشه» جعل من الحب والحقد وجهين لعملة واحدة، فأقام في فلسفته جدلاً ديالكتيكياً ينتصر عبر التضحية على الضعيف أن يقدِّمها. ومع «شبنهور» تحولت الفكرة الدينية إلى إرادة القوة والهيمنة. ناهيك عن تصورات «جون لوك» الفلسفية ونظريات «آدم سميث» الاقتصادية وتفسيرات «ماكس فيبر» التي مهدت لفكر الإصلاح على الطريقة الأوروبية.
كل هذه الدعوات هي تنوُّع للمركز الأوروبي الغربي الذي لا يرى إلا نفسه، فالصراع الحضاري مستمر، وعلى القوي تحضير الضعيف وتحديثه ولو بالقوة والاحتلال. ومن هنا فإن المشكلة الرئيسة في هذا السياق أنَّ المركزية الغربية ترى أنَّ الغرب اليوناني/المسيحي هو مصدر العلم والمعرفة، وأنَّه أسبق حضارياً من الشرق، ولهذا يتجاهل الحضارات القديمة في الهند، وفارس، ومصر، وتبقى الحضارة اليونانية والدين المسيحي، بما نتج عنهما من علوم وفلسفات عند اليونان وعقائد وفرق وأخلاق في المسيحية، هما الأساس الذي يؤسِّس للحضارات والأديان الأخرى.
ويكفي أن نرى كيف أن المستشرق الألماني «فون كريمر» في كتابه «تاريخ الأفكار البارزة في الإسلام» الصادر العام 1868 يعرض تأريخ نشأة التصوف وتطور أهم مسائله، فأبان أثر زهّاد المسيحيين ونسّاكهم في نشأة التصوف الإسلامي.
ولم يستطع «جولد زيهر» التخفّف من مركزيته الأوروبية عند دراسته نزعة الزهد في التصوف الإسلامي، فأكد أن التصوف كان متأثراً إلى حد كبير بالرهبانية المسيحية. وهو ما يراه «نيكولسون» في بحثه «نظرة تاريخية في أصل التصوف وتطوره» عندما قال إن التصوف «وليد الفكر اليوناني والديانات الشرقية، نتيجة لاتحاد الفلسفة الأفلاطونية المحدثة والديانة المسيحية والمذهب الغنوصى»، وهو ينقل في دراسته هذه قول الجامي في «نفحات الأنس» إن أول «خانقاه» بُنيت للصوفية كانت بالرملة في فلسطين، وأن الذي أسسها كان أميراً مسيحياً. ويرى «بلاثيوس»، وهو باحث ورجل دين إسباني، أن مذهب ابن عربي في الإنسان الكامل، هو صدى بعيد للعقيدة المسيحية، وأنه بفضل ابن عربي نفذت الروح الأفلاطونية المحدثة والمسيحية في حياة الإسلام وأفكاره.
المصدر : الرأي