|
عرار:
لا ريب في أن تتبع القصة القصيرة في الأردن عبر مدة غير قصيرة من الزمن يسفرُ عن رؤية تؤكد تنوع الاتجاهات، والأشكال السردية المستخدمة في الكتابة، وتنوع الطرائق التي تسهم في بناء القصة بناءً لا يخلو من التجريب تارة، ومن تجاوز السائد لما هو مخالفٌ للمألوف، والواقعي إلى ما هو غرائبي، أو عجائبي. وقد لاحظنا ذلك منذ بداية السبعينيات في القرن الماضي، إذ غلب على واحد من تلك الاتجاهات تشويه الواقع بصورة متعمّدة، ليقدم الكاتب عبر تلك الصورة المشوهة دعوته لتغيير ما هو مشوه، بطريقة تمكن القصة من تقديم هذا الانتقاد في بنية تحتفظ بجماليات الفنّ الأقصوصي، وإنقاذه من التسْطيح، والخطاب المباشر. وفي مقدمة الكتّاب الذين أجادوا هذا التوجُّه الشكلي، إذا جاز التعبير، جمال أبو حمدان في مجموعَتِه الأولى1970 وفخري قعوار في أنا البطريرك، والبرميل، ومحمد طملية في مجموعته القصصية المتحمسون الأوغاد، وبدر عبد الحق في بعض قصص المجموعة (الملعون) وفي بعض قصص هند أبو الشعر (الوشم) وفي بعض قصص محمود الريماوي في «ضرب بطيء على طبل صغير» وفي «سحابة من عصافير « وغيرها، وفي قصص سعود قبيلات (بعد خراب الحافلة) وفي بعض قصص سامية العطعوط (بيكاسو كافيه)، ومحمد خليل (فيما يشبه الطين). الخلخال يغلبُ هذا التوجُّه على قصة «الخلخال» في مجموعة جمال أبو حمدان الموسومة بـ»أمس الغد»، فعلى الرغم من أن القصة تستند في جانبها النصي على حكاية الراقصة الأسْطورية سالومي Salome، والفتى الغريب، الذي يعشق التجوال بين المقابر، والخرائب، والآثار، إلا أن القصة تقول ما لم تقله الحكاية عن سالومي. فقد ساقته قدماه إلى خرائب (مكاور) حيث عمود قديم من بقايا قلعة ماخيروس وعلى حجر من هاتيك البقايا تبرز له سالومي التي تنتظر منذ ألفي عام مع شعورها القوي بالذنب لمقتل المعمدان. يسألها كعادته في طرح التساؤلات عن تلك الليلة، وعن السبب الذي جعلها تشترط قتل المعمدان. وفي الجواب تبرز طريقة الكاتب الخاصة في إعادة تشكيل الحكاية، وتشخيص النموذج الإنساني تشخيصا مختلفا، ومغايرا لما هو سائد. فقد ألحت سالومي على أنها لا يَدَ لها في مقتل المعمدان، فقدكانتْ، وما تزالُ، تهيم به حبًا، وقالت الشعر متغزلة به، وأخفته تحت الوسادة. وأنها طالما عرضت نفسها، وجسدها عليه، لكنه كان يُعرض عنها مشمئزًا، مما جعل عناده هذا سببًا في مصرعه على يدي هيرودوس. ثمة شعور بالحاجة إلى التكفير عن ذنب لم تقترفه، فقطرات دمه ما تزال على الخلخال من ألفي سنة، تأبى أن تزول على الرغم من أنها لم تترك وسيلة إلا استعملتها لإزالة تلك التهمة، فينصحها الفتى الغريب باستخدام التراب في إزالة البقع. وما إن فعلت حتى زالت بقع الدم، لكن سالومي تشقَّقتْ عنها ملاءة الرقص المهترئة، وتطايرت في الهواء، وتشقق الجلد المتغضن، ومن بعده تشقق العظم، واضحت الراقصة الفاتنة جثة لا حراك فيها، ولا تحتاج إلا لقبر تثوي فيه. ولكن ما إن ينتهي الغريب من حفر القبر حتى يكتشف اختفاء الجثة. لا شيء في المكان إلا الخلخال الذي يلمعُ تحت الشمس. فيحاول أن يأخذه تذكارا من سالومي، لكنه لا يستطيع حمله، لا بيد واحدة، ولا بالاثنتين، ولا بقواه وعزمه مجتمعين، وتخيل لو أن عددا من الرجال حاولوا رفعه عن الأرض لما استطاعوا مع أنه مجرد خلخالٍ لا أكثر. فسالومي التي كُتب عنها الكثير لا تمثل في آداب الشعوب إلا راقصة خليعة اشترطت قتل يوحنا انتقامًا، بيد أن الكاتب أبا حمدان أعاد كتابة هذه الحكاية، جاعلا منها شخصية أخرى تختلف عن سالومي التي نجدها عند أوسكار وايلد، أو غيره، فهي- ها هنا - تفيضُ عذوبة، ورقة، وتحبُّ يوحنا، وتذوب ندمًا على فعلتها الشريرة، وتحاول التكفير، وتسعى للتخلص من آثار الجريمة، وعندما تنجح في ذلك تختفي في مشهد احتفاليٍّ يعبّر عنه الغريب بلسان غريب» بين قبر خال من الموت، وموتٍ بلا قبر. « ومثل هذا التشويه المتعمد للنموذج نجده في قصصه عن قيس بن الملوح وسبرتاكوس وأبي ذر الغفاري. المدينة والكابوس ومن يتوقف عند قصة «المدينة» لمحمد طملية يتساءل: أيّ مدينة هذه التي تقع فيها القصة، فلا يجد جواباً، أي أن الكاتب يهمش المكان تهميشه للشخصية التي تؤدي في القصة وظيفة السارد. وما الحدث في القصة؟ أنه لا حدث فيها إلا إذا كان اكتشاف ما ليس حدثا هو الحدث. فعندما يُسألُ شابٌ عن عمره فيجيب إنه ثلاثون عاما يكذبه الآخرون، ويحاولون إقناعه بأنه شيخٌ ومُتفان ٍ. وشيئا فشيئا نتيجة التكرار اللامعقول لرؤية الأشخاص المسنين في المدينة يقتنع الشاب بأنه عجوزٌ، والنظرة العَجْلى في المرآة تؤكد له صحة ما يراه الآخرون. فالمدينة يتكدَّس فيها الهرمون في كل مكان. وهذه نزعة عجائبية تتجاوز الإيهام بالواقع، بل تتجاوز الأعراف السائدة في كتابة القصص، فهي تريد قول ما تقول عبر هذا الشكل العبثي الذي يقوم على تحطيم التقاليد الأدبية الجامدة. قصة الملعون ولا ريْبَ في أنّ من يقرأ قصة بدر عبد الحق وعنوانها «الملعون « يكتشفُ من العنوان إيحاءَ المؤلف بالخاتمة. فطالما أنّ القصّة عنوانها «الملعون» وطالما أنّ المشاحنة هيَ الشيءُ الذي يحتلُّ بؤرة النصّ،بين السَّيد الكبير،والرجل(الزبون)الذي دلفَ لهذا المطعم الغريب،فلا بدّ أن تكونَ النهاية مُنْبئة عنْ أنْ هذا الرّجُل،أو هذا السيد،سيكونُ هو المقصودُ، والمعنيُّ بالكلمة»الملعون». أمّا النسيج السَّرْديّ الذي طفق ينمو بُعَيْد المشهد الأول،فقد أشارَ بكلّ خيط من خيوطه إشارة غير مباشرة لتلك الخلاصة،وهي إيقاعُ العقوبة الشديدة بالزبون،وتجريده من ملابسه،والقذف به عاريًا خارج المطعم،ليعانيَ البرْد،والجوع،لا لشيءٍ إلا لأنه لم يَسْتطع أنْ ينفذ الأوامرَ العبثية لصاحبِ المَطعَمْ العابث. وبالرُّجوع إلى بداية القصّة لا بدّ من توضيح ٍأكثر للعُنْصُر الغرائبيّ في المشهد القصصي. فالوصْفُ الذي يقومُ على التقاط المناظر التفصيلية للمطعم،كالمقاعد الوثيرة،والموائد، والأثاث المنقوش المزخرَف ِبالألوان، والجُدْران المكسوّة بالستائر العملاقة،والمرايا المستوردة،واللوحات الثمينة،والأرض المفروشة بالسِّجاد السّميك،متعدّدِ الطبقات،وصفٌ نستطيعُ أنْ نجده،ونعثر عليه،في أيّ قصّة أخرى،لا غرائبية فيها،ولا مفارقة. بيْدَ أنّ تركيزه في هذا المشهد على الخدم الذين يشبهون التماثيل المنحوتة من الحجارة.. شيءٌ فيه بعضُ الغرائبية،إذ ْهُوَ نوْعٌ من توجيه الانتباه لتجريد هؤلاء الشخوص من الحياة،والرّوح. وبتركيزه على الرجل الضخم،الذي يجلس خلف المكتب،على كرسيٍّ مرتفع،مصدرًا أوامره بإشاراتٍ من عينيه، أو من أصابعه، دون أنْ يتكلـّمَ، يعزِّزُ هذا الانطباع، ويؤكده. وهو تركيزٌ يُضْفي على صورة هذا الرّجل غرائبيّة أخرى تنبع من الدور الوظيفي الذي أسنده له الكاتبُ.فهو صاحبُ المطعَمِ، ومديرُهُ،والآمر الناهي فيه: « منْ يأكلْ في مَطْعَمي عليهِ أنْ ينفذ َتعليماتي». هذا السيد إذاً لا يخلو من (نمْذجة) غرائبية،فهو لا يتكلم،ضخْمُ الجثة،حديديٌّ،يقذف بالرجل الزبون بأصبعيه الاثنين،لا يحتاج ُلاستعمال يده الكاملة، ثم يمْسحهما بمطهّرٍ كأنّما يتخلص بذلك من دَنَسٍ. وقد يهتمّ القارئ بالحوار الطويل الذي استغرقَ نحو ثلثيْ القصة،فهو الذي يفجّر الخلافَ بين النادل والزبون،فيرتقي بالصراع إلى ذرْوة تؤدّي إلى تلكَ الخاتمة ِالتي مَهّدَتْ لها،وأوْحتْ بها كلمة «الملعون» في العنوان. ففي آخر القصّة يُجرَّدُ الرجل من ثيابه،ويتصدى له عاملان عملاقان، وأما صاحب المطعم فيقذفُ به عاريًا في الشارع.وهذه النهاية كانَ النادل قدْ سَبَقَ أنْ تكلم عليها في وَسَط ِالقصّة،مما يُؤدّي إلى نسْج ِعلاقاتٍ متشابكةٍ بيْن الحوار،والخاتمةِ، والعِنوان. لو أنَّ القصة انتهتْ هذه النهاية، ولم يذكر الكاتبُ شيئاً بعْد ذلك، لكانت ذات بناءٍ مفتوح،يترك فيه المبدع للقارئ حرية «التخمين»و»التوقـّع» فما الذي سيكونُ من شأن هذا الرجل الذي أذلّ،وأهينَ،وقذفَ به عاريًا في طقس ٍشديد ِالبرودة؟لكنّ عبد الحقّ لم يردْ لنصّه القصصي هذا مثل هذه النهاية المفتوحة،أو نصفِ المُغلقة،بلْ أراد له أن يكونَ مغلقاً تمام الإغلاق: يجبُ ألا يتوقفَ عن المحاولة.. التّوقـّفُ معناهُ أنه لا فرق بينه وبين أولئك الخدم الجائعين داخلَ المطعم،ولسَوْفَ يفقد عصْيانه للرجل الكبير جلّ مبرّراته.. وهكذا،فقد بدأ يرمي نوافذ َالمطعم بالحجارة .» هي - إذاً - انتفاضةٌ يقوم بها الرجلُ العاجزُ أمامَ القوَّة القاهرة باستخدام الوَسيلةِ الوَحيدةِ المتاحةِ له ُوهي الحجارَة. الوشم ومن النماذج التي تتحقق فيها هذه الرؤية المتبَصّرة قصة سالومي لهند أبو الشعر، وهي من مجموعة « الوشْم « تقوم القصة أيضا على مخالفة ما هو معروف عن حكاية الراقصة ويوحنا المعمدان.فبعد أن تروي لنا الساردة حكاية الليلة التي رقصت فيها سالومي أمام الملك هيرودوت الذي عرض عليها مكافأة أن يلبي لها ما تطلب، حتى ولو كان رأس يوحنا المعمدان، نجدها تطلبُ- فيما يشبه المفارقة التي تكسر توقع القارئ - رأس الأم الحبيبة « مولاي . أريد رأس أمي الحبيبة في طبق فضي» وبعد أن لبي طلب سالومي الغرائبي نجد الساردة تروي:» لا أحد يعرف ما الذي حدث في الباحة المترفة المضاءة بضوء قمر صيفي حنون. ويقال بأن يوحنا المعمدان توقف عند باب السجن .. ركع وصلى للرب صلاة لم يسمع الكون أعمق منها ولا أحلى. وأن حمامة ناصعة البياض جاءته من صوب القمر يغمرها الضياء الفضي الساكن، وطارت بشفافية فوق رأسه . وارتفعت إلى السماء البعيدة، ويقال إن سالومي اختفت وأن الموسيقى توقفت، وأن طبقاً فضياً تنزّ منه الدماء صرخ قائلا : أعدوا طريق الرب ّ .. وهيئوا سبيله. وزهرة برية نارية اللون نبتت مكان خطى سالومي. وهي – أي الزهرة – تتمايل بحركات جميلة كلما أضاء القمر في ليل صيفي حنون. « والنظرة العجلى في قصتي جمال أبو حمدان وهند أبو الشعر وهما تقومان وتتكأان على نموذج واحد هو سالومي يؤكد على القاسم المشترك وهو تشويه النموذج وتقديمه في صورة غير الصورة المعروفة في الأدب السائد. بيكاسو كافيه وفي « المقهى الخشبي» لسامية العطعوط إحدى قصص «بيكاسو كافيه « صورة سوريالية عجيبة تُهنَّأ عليها الكاتبة. فمُصمّمو هذا المقهى بارعون في التزييف، والتمويه، ولقد جعلوا من الطبيعة التي ترمز لها بالخشب الذي يحيلنا بجدرانه وعوارضه وأثاثه وألوانه إلى الغابات الخُضْر، مذكرًا بأن تلك الملامس الناعمة في الأثاث المطعّم بعروق الشجر الميت ما هي في الواقعه إلا ضربٌ من التمتع بمرأى الجثث. ولتكرار الصورة المرعبة لهذا المقهى « الكابوس « يتذوَّق السارد القهوة متلذذًا بمذاقها الخشبيّ. والخشب الأنيق هذا لا يعدو كونه مِصْيَدة، تقتنص الزبائن، وتجتذبهم بذريعة الجمال المصطنع الزائف ليكتشفوا بعد وقت غير طويل من الانبهار والاستسلام لذلك البهاء أنهم كانوا فريسة سهلة لهذا الخداع، فأحد مرتادي المقهى يهم بالنهوض، والمغادرة، فلا يستطيع النهوض، ولا المغادرة، ولا تحريك قدميه أو ساقيه أو جذعه، فكأن قوة خارقة تجذبه للكرسي وتشده وتجعله به لصيقا، فيصرخ بأعلى صوته مستنجدًا، ليخبره النادل بأن عليه أن يخلع قوائم الكرسي، ويأخذها معه لاستخدامها عكازاتٍ، وإلا فإنه سيظل لاصقا بالكرسي، ولن يستطيع المغادرة. ولأن هذه الصورة المروِّعة المرعبة للمقهى الخشبي، واقتناص أحد مرتاديه، لا تكفي لتوضيح ما يختبئ خلف قشور المشهد، يضيف الراوي صورة أخرى، تلقي عليه هو مزيدا من التبئير. فبعد أن انتهى من احتساء قهوته بمذاقها الخشبي، واعتزامه دفع الحساب، والمغادرة، مثلما غادر الزبون السابق، وجد نفسه عاجزاً عن النهوض، ولا يستطيع الحركة، وقدماه تسمَّرتا بالأرض، والألم الكبير يغزو جسمه، فلا يكاد يحس إلا بجذعه، وجرْمهِ العلوي. ولم يفدْهُ الصراخ، ولا ضربُ المائدة بكلتا يديه، وجاءه النادل مستجيبًا لاستنجاده، وقام – أي النادل- باقتلاع قوائم الكرسيّ، وقدمها له قائلا تستطيع استخدامها عكازاً. ولأن القارئ يستغربُ مثل هذا السرد العجائبي تستدرك الكاتبة فتنسب هذا الاستغراب للراوي، الذي راح يضرب نفسه، فاركا عينيه، وأجفانه، ليتحقق مما إذا كان الذي جرى له وللزبون الآخر كابوس أم أنه حقيقة واقعية. وعندما تأكد من أنه لم ينم، ولم يغفُ، تقبل ما قُدر له وكتب عليه، ولملم عكاكيزه، وغادر المقهى كالمجنون لا يلوي على شيء. حقا إن هذا المقهى يمثل بما ينطوي عليه من بدائع النحت والنقش والزخرف في الخشب المطعَّم والمُعرَّق والمُموَّه نموذجا لما نحن فيه من تضليل وخداع، ومن تزييف يتغيا إخفاء حقائق الواقع، وهو أننا مطاردون بتلك العكاكيز، مجبرون على ذلك اللصوق بالكراسي، وينبغي علينا أن نصرخ مستنجدين لكي نكتشف بأعيننا ما ينتظرنا في الواقع الآخر المخبوء خلف واقعنا المموه بنشارة الخشب. ما يشبه الطين وفي قصة «التابوت» لمحمد خليل وهي من مجموعته «ما يشبه الطين» يتعرف القارئ على نموذج واحد قرر الأطباء أنه مات، وانتقل بموته من الدنيا الفانية إلى دار البقاء الآخرة، وبدلا من أن يقوم ذووه بدفنه على أساس أن إكرام الميت دفنه، يضعونه في تابوت خشبي محكم الغطاء، تاركين، لارتيابهم في قرار الطبيب، ثقبا خفيا فيه كي يواصل التنفس. أما الأسباب التي حُددت للوفاة فهي بيت القصيد في هذه القصة، فالأقوال التي رويت في تحديدها كثيرة. بيد أن الراوي (الشاب) يميل لواحدة من هاتيك الروايات، وهي التي تقول بموته بسبب كثرة البكاء، وذلك بعد أن دار على الأماكن كلها في المدينة مرارا فلم يجد فيها ما يزيل القتامة والهموم التي تغلف قلبه، وقرأ على وجوه الناس كافة الذهول الذي لا يستطيع فهمه، ولا تفكيك طلاسمه، وأنه كلما نظر في عيني أحدهم أبصر فيهما الحال التي يراها. و لهذا وضع رأسه على فخذ أمه وبكى، وظل يبكي إلى أن بلل ملابسها ثم سكت فجأة. على أنَّ منْ يُطلْ النظر في القصة يجدها - من حيث هي بنية فنية- بنيةً يتعمد فيها الكاتبُ، خلافا للقصص الواقعية التقليدية، إقصاء توقعات القارئ، عن طريق الزج به في كوابيس ومنعرجات تشبه الأقبية المظلمة التي تتمخض عن مفاجآت غير منظورة. فالميت الذي يوضع في التابوت يستثير شفقة أخيه فيظن أنهم بتثبيتهم الغطاء يؤذونه، ويعاملونه معاملة تخلو من الذوق. وعندما يعترض يتوقع القارئ أنْ يفسر الأمر تفسيرا مقبولا، فإذا به يفاجأ بأن ذوي الفقيد، غير مقتنعين بوفاته، وأنهم يشكون بتقرير الطبيب. وعندما يلتفت الراوي بنا لشقيق المتوفى الآخر الذي قرر القدوم من المهجر لحضور جنازة شقيقه، فإن أول سؤال يساوره هو التحقيق في سبب الوفاة. وهنا يتوقع القارئ – مثلما هي الحال في الموقف السابق- أن يُذكر سببٌ عاديٌ للوفاة. غير أن الجواب عن تساؤلات الشقيق العائد يفاجئ القارئ، فالسبب الذي ُذكر لا يؤدي في الواقع للوفاة. لقد توفي لأنه بكى طويلا، وبمرارة، حزنًا على هذا الواقع الذي لا يسر صديقا، ولا عدوا. فقد ظل يبكي إلى أن توقف قلبه، وخبت حرارة الحياة فيه. وعلى مدار السنوات العشرين تظل الأم تجلس إلى جواره، تقرأ على روحه سورًا، وتنسج قصصًا وحكايات عن ابنها الذي فارق الحياة. وحتى المشهد الذي يتحرك فيه التابوت من جموده، مفاجأة غير متوقعة لدى القارئ. فهو مثل كابوس يساور النائم من غير استئذان. فقد عمدت الأمّ، كعادتها، لمسح التابوت بقطعة مبللة من الثياب (خرقة) لتكتشف أن التابوت تدب فيه الحركة، فتهرع إلى الجيران، والرعبُ يعقد لسانها من الصدمة، وفي إطار هذا الكابوس ينفضُ الميت عن كفنه تراب القبر، وينهض مثل ميت ينشق عنه قبره فجأة. وهذه السلسلة من المواقف، في قصة قصيرة كهذه، لا ريب في أنها تضع القارئ في أجواء لا علاقة لها مباشرة بالواقع، فكأنها تريد أن تقول إنَّ موت البطل، وتكراره في القصة، إنما هو ضربٌ من الاحتجاج اللافت الصامت على ما يسمع به، ويراه يوميا في مدينته، وفي قطره، من غير أن تنبئ الأحداث عن تغيير ما يلوح في نهاية النفق، لذا كان الموت بالنسبة له وسيلته الوحيدة للنجاة من هذا الواقع المشَوّه، ويا لها من نجاة!. من هذه المتابعة لتوجه قصصي يغلب على بعض الكتاب يلاحظ أن القصة القصيرة في الأردن تتقدَم الفنون الأدبية الأخرى في رصدها لموقف المبدع من السائد، ومن الطرق المتبعة- تقليديًا- في تصويرة، أو التعبير عنه. مصدر / جريدة الدستور الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 07-07-2017 12:14 صباحا
الزوار: 1237 التعليقات: 0
|