عرار:

عمل المنظور الإسلامي للموت على تحرير النفس من هواجسها، ومنحها سكينة تشع بالإيمان بحتمية الموت، الذي ينهي كلَّ الأفعال، ولا سبيل للهروب منه، كما في قوله تعالىك «أينما كنتم يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة «(1). 
ولعلّ فكرة الحياة بعد الموت التي غرسها الإسلام في النفوس، قدّمت للشاعر الإسلامي حلولاً مرضية، تخلصه من أهوال صدمة الفقد، وهذا ما أكدته الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى: «الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون» (2) ولكنها «نقلت الخوف الحقيقي من الموت نفسه إلى خوف مما بعده» (3).  
ويرتبط الموت بالحرية ببعديها المادي والفكري، إذ يُقال: «إن الموت دخل العالم بسبب خطيئة آدم الني أدت إلى طرده من عالم الخُلد، فأصبح لأول مرّة قابلاً للفناء والموت، ولمّا كانت الخطيئة الأولى تعبيراً عن ممارسة الإنسان لحريته لأول مرّة  فقد كان هناك ارتباط وثيق بين الموت والحرية» (4). 
وفي الشعر العربي الحديث إشارات واضحة إلى عالم القبر، وما وراء الموت، تعكس حالة الشاعر القلقة، ورغبته في الخلاص من أسر الواقع، وعذاباته، « وغاية الشعراء من تقديم هذه الصور، قد تكون نفسيّة، بهدف التخفيف عن النفس من هول مصيبة الموت بمعرفة أسراره، أو أدبية من باب تسابق الشعراء في تقديم الجديد، أو خلقية تتمثل في تقديم الموعظة، والتذكرة، والتنبيه إلى المصير، أو فكرية تعبّر عن فكرة أو رأي ما... وقد يأتي التعبير عن ذلك في سياق أدبي، يضطر الشاعر فيه إلى الحديث عن شيء من عالم الأموات حين تحتاج وحدة العمل الأدبي إلى ذلك» (5).
وينبع الشعراء في تصويرهم للقبر، وحديثهم عن عالم ما بعد الموت من منابع مختلفة، تختلف من شاعر لآخر، فمنهم يصدر عن نزعة تأملية، وجودية، تظهر في أشعارهم، أو من رغبة جامحة في تصوير عالم مخالف لما هو مألوف، ينزع إلى الهروب من حياة الموت إلى حياة هانئة، مما يجعل تصوير عالم القبر معادلاً نفسيّاً لحياة مأمولة غير متحققة على أرض الواقع. 
وقد يعكس الشاعر جانباً حداثيّاً في حديثه عن عالم القبر، ينزع فيه إلى الميتافيزيقيا، والعالم الغرائبي، رغبة في تصوير عوالم جديدة، لم تعرفها النفس البشرية، وهذا يمثل اتجاهاً جماليّاً يسهم في نضج النص الشعري من ناحيتي الشكل والمضمون، إذ يعكس هذا الجانب صور الشاعر، وأخيلته.
ويميل بعض الشعراء في حديثهم عن القبر إلى الوعظ، وضرورة أخذ العبرة، وهو منزع ديني واضح، ينهل مضامينه من القرآن الكريم، والسنة النبوية، فالموت وفق هذا الجانب لا يمثّل وحشاً كاسراً، ولا عاصفة عاتية، بل يحقق أمر العبادة، وهو الإيمان بالله.
وهذا ما نجده في الشعر العربي القديم، كما في  شعر أبي العتاهية، الذي صور عالم القبر وفق المنظور الإسلامي، الذي يدل على فناء الجسد، ويقرُّ بقدرة الخالق.  وفي الشعر الحديث، نجد صورة القبر واضحة في قصائد عمر أبي ريشة، والعقاد، وعلي محمود طه، وبدر شاكر السياب ، وغيرهم من الشعراء العرب في العصر الحديث.
وقد حمل الشعر الأردني مضامين خصبة لصورة القبر، عبّر عنها الشعراء في قصائدهم، كما في رثاء خالد محادين للمناضل جيفارا، إذ ينطلق من الوجدان الإنساني؛ ليلامس ضمائر الأحرار في العالم ؛ لذلك يتألم الشاعر لمقتل المناضل البوليفي، (جيفارا)، ويتساءل عمن سيخلفه في الكفاح (6)، فيقول مخاطباً الجانب المضيء في شخصيته (7): 
«مَنْ يحملُ لي مِنْ قبركَ حبات تراب
أزرعُها في أرضٍ لا تُزرعُ إلاّ استزلام
لا تُحصدُ إلاّ بالأحلام
لا تورقُ إلاّ بالشعراء».
إذ ظهرت صورة القبر في إطار إنساني، يبعث في النفس المقاومة، والفداء، ذلك إن تشابه التجربة الإنسانية دافع قوي للإبداع الشعري، والتعبير عن روح الجماعة المضطهدة.
ويتخذ القبر في شعر عائشة الرازم طابعاً قوميّاً، وبخاصة عندما يقترن بصورة الشهيد الذي يجسّد تضحيات الأمة، ونزوعها نحو الفداء، ما في قولها (8):
«يا فَقيراً... دونَ فاكهةٍ تُوزَّعُ...
عِنْدَ قبرك دونَ نَعْيْ..؟
ويَدَاكَ تَرْسُمُ للسَّنابلِ جُفِّفَتْ قبلَ الأوانْ..‍‍‍‍‍‍!!
كأنَّ ريحاً «صَْرصَراً» قد غالَطَتْها...
دونَ وَعْيْ..؟».
ويتفوق القبر على الحياة في شعر محمود فضيل التل، مما يرتبط بفلسفة الشاعر الحياتية، ونظرته الواقعية لمآسيها، الأمر الذي يُعلي من قيمة الموت، وشأن عالمه الماثل بالقبر، وبخاصة عندما يحتضن فقيداً بحجم شاعر الأردن عرار، كما في قوله (9):
«لا شك أن نزيل القبر في رغـدٍ
إنّ الحياة نقيعُ السمِّ تسقينـي
مرثية كلّ حـين أنت تكتــبني
في كلّ حرف بها طعم السكاكين
أرثيك ما عشت ُإذ ما زلتَ تكتبنا
بين العشيّات في موت السلاطين».
وهذا ما ظهر في تشكيل الشاعر اللغوي، الذي عمد فيه إلى تغيرات في تراكيبه اللغوية، تتناسب مع مأسوية الحياة، وما يعكسه الموت من رؤيا حالمة، حيث يقول(10):
«كم تمنيتُ المماتْ
فقبورُ الموت أحلى من حياة ِالموتْ
في قبرِ الحياةْ».
وقد تسهم الثنائيات الضدية في منح العلاقة الانزياحية بُعداً جمالياً، يتدفق شعريّة، حيثُ تصادم الكلمات في بنية النص ، مما يولد إيحائية عالية، تعمّق من مسافة التوتر ،وبخاصة عندما يحدث تنافر لفظي بين المضاف والمضاف إليه ، كما في حديث محمود فضيل التل عن الحياة (11):  
«أتساءلُ ما مَعنى العالم ؟!
فالدنيا صارتْ مِنْ هذا
بستانَ قبورْ!!».
فكلمة بستان من الألفاظ التي يمكن أن تضاف إلى ما يناسبها على المستوى المعجمي ، مثل: أشجار، زهور، كروم، ولكن أن يكون المضاف إليه ليس مما يزرع، أو ينمو (الموت)، فإن ذلك جاء للدلالة على تفشي فعل الموت، ورغبة الشاعر في ارتياد عالمه. 
ولعلّ اقتران البستان بالقبور، يعكس جمالية الموت، التي اتخذت أبعاداً جماعية، تمثلت بموت الأمة، إذ إن الشاعر استعمل كلمة (قبور) بصيغة الجمع، بعيداً عن معاناته الفردية التي بثها في أجزاء القصيدة. 
واتّصال صورة القبر بالحياة أمر واضح في رثاء إبراهيم الخطيب للشاعر خليل حاوي الذي مات منتحراً، مما يُعلي من شأن اختيار الشاعر الإرادي للموت في ظل ضآلة فعل الحياة، واستمرار معاناتها (12):
«هي لمحهْ
صهوةُ الحُلْمِ هَوَتْ تحتَ الزناد
هي صَفحةْ
لبسَ الحرفُ بها ثوبَ الحدادْ
إنّ مَنْ يَنزِلْ دارَ الموتِ لَمْ يَهْربْ
إنّ مَنْ يَخْتارْ شَكْلَ القَبْر
قَهْرَ القَهْرَ
لَمْ يَكْذِبْ».
ويظهر البعد الجمالي للقبر في الشعر الأردني مرتبطاً بنزعة رومانسية واضحة، تعلي من قيمة الحبّ، كما في شعر راشد عيسى الذي ينشد الموت، ولكنه موت رومانسي، يكشف عن شعور عميق بالحبّ السامي، وتقديس المحبوبة الراسخة في وجدانه؛ لذلك يوصي محبوبته بأن تعدّ القبر الذي سيجمعهما بعد الموت (13): 
«وَلْتحفري لي القبرَ في
أرضٍ مِنْ الرملِ الحنونِ
حتى أُحِسَّ بوقْعِ
خَطْوِكِ في الطريقِ
فتوقظيني».
ولعلّ هذا البعد الرومانسي للموت واضح في شعر محمد القيسي، إذ تتكرر فيه صورة القبر، فهو مبعث سعادته الدائمة، يبرز في صورة موطن أبدي، يمنح ساكنه الطمأنينة التي افتقدها في حياته، كما في قوله (14):
«عَائدٌ إلى قبري،
بالقليل من الوردْ
عَائدٌ لألمُّ هذا الشوكَ،
هذا النباتَ البريَّ عن حوافيه
عائدٌ لرقدتي الأخيرةِ
دونَ شاهدةٍ أو شارةٍ على داري».
ومما يميّز صورة القبر في شعر محمد القيسي، أنه ينفرد بملامح خاصة به، فهو يحتفظ في الحياة ببعض الورود، وذلك لإدراكه قيمة الحبّ، وما يبثه في نفسه من نشوة مضاعفة، فضلاً عمّا يحمله الورد من طقس احتفالي، يجعل موت الشاعر انتصاراً على حياته الزائفة، وإيذاناً ببدء حياة جديدة مغايرة للماضي المؤلم.
وصورة القبر في شعر خالد الساكت لا تخرج عن طبيعتها الكونية التي تسكن فيها الأجساد بعد الموت، لتصبح ملاذاً للدود، والتحلل إلى تراب حتى تُبعث من جديد، كما في قوله (15):
«على حائط الرُّعبِ شُلَّ سلاحي
وأعرفُ أني قُتلتُ
بغيرِ أسىً أو نُواحِ
لأُبعثَ حيّاً قوياً
وصوتاً نبيّا..
يدوّي بأجواء كلِّ القبورِ
القبور التي صار أصحابُها
تراباً ودودا».
ويستحضر أمين شنار شخصية حفّار القبور التي استخدمها من قبله السياب وخليل حاوي، وجبران خليل جبران، وغيرهم من الشعراء العرب الذين جسّدوا تجربة الموت في أشعارهم، لكنه يخالفهم في خطابه لهذه الشخصية، فهو لا يطلب من حفّار القبور التعمّق في الحفر، ولا يقدمه بصورة مروّعة كما فعل السياب من قبل، بل يطلب منه الابتعاد ، فلا حاجة لوجوده  بعدما ضنّ عليه الزمان بالموت فهو ميت في الحياة، ومدفون في معاناتها، مما جعل خطابه لحفّار القبور تعميقاً واضحاً لمأساته ، وما بلغته حياته من اغتراب (16): 
«حفّارُ.. يا حفّار، لا تتعب يديك
لا تدن مني،
واذهبْ ودعني..
فلن يُتاح لي مصيرُ كلّ حي
إلا إذا دعتْ غريبَ الدارِ ، لهفةُ الرجوع..».
لقد تركت تجربة الموت أثراً في حركة الشعر في الأردن، مما أبرز بعض متعلقاتها، التي كان القبر في مقدمتها، إذ إنّ الاقتراب من عالم الموت، يستدعي القبر، الذي يهرب إليه الشاعر، لتبدأ حياته الجديدة بعيداً عن ألم الواقع.
 الهوامش
1 ـ سورة النساء: آية 78.
2 ـ  سورة البقرة: آية 156.
3 ـ إحسان عباس: مجلة الأديب (بيروت)، ج 5، السنة الرابعة عشرة، المجلد السابع والعشرين، 1955م، مشكلة الموت في الفكر الإسلامي، ص 4.
4ـ  جاك شورون: الموت في الفكر الغربي ، مقدمة المراجع إمام عبد الفتاح، ترجمة كامل يوسف حسن، ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000م، ص 6.
5ـ أحمد بكري عصلة: الموت في الشعر العربي الحديث، ط1، منشورات مركز المخطوطات  والتراث والوثائق، الكويت، 2000م، ص 397.
6ـ  يُنظر: عبد الفتاح النجار: التجديد في الشعر الأردني ( 1950- 1978م )، ط1، دار ابن رشد للنشر والتوزيع، 1990م، ص 244.
7 ـ خالد محادين: الأعمال الشعريّة، منشورات مكتبة عمان، ص107.
8 ـ  عائشة الخواجا الرازم: الأعمال الشعرية الكاملة، ط1، دار الخواجا للدراسات والنشر، عمّان، 1998م، ص 75.
9 ـ محمود فضيل التل: أنشودة المستحيل، ط1، أزمنة للنشر والتوزيع، عمّان، 2004م، ص 87.
10 ـ  محمود فضيل التل: هامش الطريق، ط1، مطبعة الشرق ومكتبتها، عمّان، 1995م، ص 103.
11 ـ محمود فضيل التل: صحو الطوفان، ط1، دار الينابيع، عمّان، 2002م، ص 74.
12 ـ إبراهيم الخطيب: غنِ لي غدي، ط1، دار الجاحظ، إربد، 1984م، ص 45 ـ ص 46.
13ـ راشد عيسى: ما أقل حبيبتي، ط1، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، 2002م، ص 93. 
14ـ محمد القيسي: الأعمال الشعريّة، ج 3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999م، ص 333. 
15 ـ خالد الساكت: الذي يأتي العراق ، د-ط ، دار الينابيع، اربد، 1992م، ص 157 - ص 158. 
16 ـ إبراهيم خليل: أمين شنار ، الشاعر والأفق ( دراسة ومختارات شعريّة )، ط1، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ، 1997م ، ص43.