دلالات العنوان في ديوان «نمنمات على خاصرة الريح» لعبد الكريم أبو الشيح
عرار:
مصطفى القرنة
في ديوان «نمنمات على خاصرة الريح» للشاعر عبد الكريم أبو الشيح، يتجلى العنوان كأداة محورية في نقل معاني عميقة ومركبة تتداخل فيها الأبعاد العاطفية والفلسفية. العنوان لا يقتصر على كونه مجرد إشارة إلى مجموعة من القصائد، بل هو مفتاح لفهم التجربة الشعرية التي يقدمها الشاعر، التي تتناول قضايا الحب والعشق بمختلف ألوانه وأبعاده. في هذا المقال، سوف نتناول دلالات العنوان من خلال تفكيك عناصره وتحليل رمزيته، لفهم أعمق لما يقدمه أبو الشيح في ديوانه من رسائل عاطفية وفلسفية. الريح، وهي العنصر الأول في العنوان، تمثل في الأدب رمزًا للحركة المستمرة والتغير الدائم. عادة ما يرتبط مفهوم الريح بالاضطراب، التحول، والفوضى، وهي تجسد التغيرات التي لا مفر منها في الحياة، سواء على مستوى المشاعر أو الأحداث. لكن في ديوان عبد الكريم أبو الشيح، تأتي الرياح بشكل مغاير لما هو معتاد، إذ تصبح رمزًا للاستقرار العاطفي. ففي هذا السياق، يمكن تفسير الرياح كحالة من الاستقرار النفسي في اللحظات العاطفية بين المحبين، وكأنها تؤرخ لحالة توازن بين التغيير الثابت والمستمر. من خلال هذا المعنى، يصبح الحب كما الرياح: متجدد لا يتوقف، ولكنه يحمل في طياته ثباتًا داخليًا رغم تقلباته. إن الرياح هنا لا تشير إلى الحركية السريعة التي تعصف بكل شيء، بل هي ريح ذات طبيعة أكثر هدوءًا وأسطورية. فهي تمثل حركة مستمرة ولكن في اتجاه ثابت، مما يرمز إلى استمرارية العلاقة العاطفية والمشاعر بين العاشقين على الرغم من التحديات الحياتية المتنوعة. الرياح هنا لا تكون فوضوية، بل محكومة بنظام داخلي، تدل على استقرار عاطفي بعيد عن الغموض أو الانفعالات الفوضوية. أما كلمة «نمنمات»، التي قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة أو هامشية، فهي تتضمن في طياتها دلالة عميقة على التفاصيل الصغيرة التي قد يغفل عنها البعض. النمنمات هي تلك اللحظات العابرة، غير الملموسة، التي تتراكم لتشكل خبرة إنسانية كبيرة. في سياق العنوان، تحمل «النمنمات» معاني عديدة، أبرزها تكثيف اللحظات العاطفية الهامة التي تساهم في بناء التجربة الشعرية. الشاعر هنا لا يركز فقط على اللحظات الكبرى أو العواطف الجارفة، بل على اللحظات الصامتة والدقيقة التي تشكل أبعادًا حسية وعاطفية كبيرة. هذه النمنمات قد تكون كلمات عابرة، لمسات صغيرة، نظرات خاطفة، ولكنها تحتوي على مشاعر عميقة قد لا تدركها العين المجردة. النمنمات في هذا السياق لا تقتصر على كونها تفاصيل صغيرة، بل تمثل عناصر أساسية في بناء التجربة العاطفية بين الشاعر وعاشقه. هذه اللحظات هي التي تصنع عمق العلاقة وتؤثر في الوجدان. فالشاعر يتناول المشاعر الصادقة من خلال لمسات فنية دقيقة، تدعو القارئ للتأمل في تفاصيل الحياة والعلاقة بين العاشقين. على الرغم من أن هذه النمنمات قد تبدو غير ملحوظة، إلا أنها تملك قدرة على تشكيل حالة شعورية غنية ومعقدة. أما الجزء الثالث من العنوان، «خاصرة الريح»، فيحمل دلالة رمزية ذات عمق حسّي وفلسفي. الخاصرة هي جزء حساس في الجسد، وهي النقطة التي يمكن أن تكون مركزًا للألم أو العاطفة الشديدة. وبإضافتها إلى الريح، يتشكل مزيج من المعاني يربط بين هشاشة الإنسان والعواطف الإنسانية. في هذا السياق، يُظهر الشاعر كيفية تأثير الحب العميق في الشخصيات العاطفية، وجعلها في حالة من الاندماج مع الطبيعة الخارجية – الريح – مما يعكس التجربة العاطفية المتجددة التي لا تنفصل عن هويتها. «خاصرة الريح» تعبير شعري يحمل في طياته صورة حسّية جميلة. إنه يرمز إلى الهشاشة العاطفية التي قد يعاني منها المحبون، حيث يصبح الجسد بؤرة للتجربة الشعورية التي تنساب عبره كالريح، دون القدرة على التحكم بها أو إيقافها. وفي ذات الوقت، يعبر هذا التعبير عن القوة الجمالية والتأثير التي يمكن أن تتركه العواطف في الشخص العاشق. يتمازج الجسد مع الريح لتشكيل حالة من الاندماج الروحي الذي يعكس قمة التعلق العاطفي، حيث تتداخل مشاعر العشق مع معاني الحرية والاندفاع، مما يجعلها تجربة غير قابلة للسيطرة. من خلال العنوان، يتضح أن الشاعر عبد الكريم أبو الشيح يسعى لتجاوز التجارب العاطفية الشخصية ليصل إلى أبعاد روحية وعالمية. «نمنمات على خاصرة الريح» لا تُعبّر عن مجرد تجربة حب بين شخصين، بل هي رحلة شعرية تتجاوز حدود الزمان والمكان، إذ يسعى الشاعر إلى التقاط لحظات من العشق تتجاوز الوجود الجسدي، وتصل إلى العشق الروحي الذي يخلق تماهيًا بين العاشقين أو بين الإنسان والمجهول. هنا يصبح العنوان معبرًا عن تلك الحالة التي لا تفهم إلا بعمق وتفتح قلب القارئ لتأملات تتعلق بالعلاقة مع الذات والكون. العنوان، في مجمله، يُحيل إلى حالة من البحث المستمر عن التماهي مع الآخر، عن الاتصال الروحي الذي يمكن أن يحدث عندما تتلاشى الحدود بين الذات والمحبوب أو بين الإنسان والوجود. يصبح الحب في هذا السياق طابعًا صوفيًا، يهدف إلى تجاوز التجارب الإنسانية الظاهرة إلى ما هو أسمى وأعمق. من خلال هذا التحليل، نرى أن العنوان «نمنمات على خاصرة الريح» لا يقتصر على كونه مجرد إشارة إلى مجموع قصائد ديوان عبد الكريم أبو الشيح، بل هو بناء لغوي متقن يتداخل فيه الزمان والمكان، الحركة والثبات، العاطفة والروحانية. يفتح هذا العنوان أمام القارئ أبوابًا متعددة لفهم العلاقة بين العاشقين والمحبوبين، ويعرض لحظات الحب والمشاعر كجزء من تجربة عاطفية وروحية غنية ومعقدة. هو دعوة للتأمل في التفاصيل الدقيقة التي تشكل عالمنا الداخلي، وللتأمل في كيفية تأثير تلك اللحظات الصغيرة في تشكيل تجربة الإنسان العاطفية والروحية.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 24-01-2025 09:39 مساء
الزوار: 31 التعليقات: 0