|
عرار:
محمد سلّام جميعان الباحثون والدارسون كُلٌّ له منهجُهُ وأُسلوبُه في النَّظر إلى النُّصوص والمرويّات، فمنهم من يَتوسَّلُ للسُّلطان، فيكتبُ بِلُغةٍ رسميَّةٍ تجري في موكِبه، وتُشايعُ مذهبَه وتُداهِنُ جمهورَه، فترفع من يركبُ في مركبه، وتخفضُ من يناوئُ إشارة إصبعه. ومنهم مَن يحتكم إلى العقلِ فَيُعمِلُ النَّظر في الموروثِ والحديثِ من أخبار التاريخ والأدبِ والفنّ، ولا يتوارى خلفَ مقولات السَّلف الصالح أو الطالح من رواة الأخبار في الشعر والنثر، ويُحرِّرُ عقله ووجدانه من تدليس حمّادٍ الراوية وهمبكات خلف الأحمر وأضرابه من شعوبيي الرأي والمذهب، ويَضربُ في مناكب النصوص استقراءً وتحليلاً ومُساءلةً لشروطها الموضوعية، حتى يتبيَّن له الخيط الأبيض من الخيطِ الأسود من القولِ والقائل. عَنَّتْ على البالِ هذه الفكرة وأنا أقول كلمتي فيما أهدانيه الأديب العزيز د. غسان عبد الخالق من صحائف عقله وقلمه. وكُلَّما نظرتُ في كتاب منها ازدادت قناعتي أنه باحثٌ يغوصُ في قاعِ النَّص أو الظاهرة الأدبية والتاريخية، ولا يستخدمُ صِنّارة غيره في التقاط أسماكِ الفكرة، بل حرّر عقله من كلِّ أقوالِ من يكتبون ويتكلّمون، واختطّ لنفسه منهجاً يقومُ على وضعِ الحصانِ أمام العرَبَة، ولهذا لم يتعرَّجْ ولم يتموّج وهو يسير على جادّة الطريق. إنَّ ثقافتنا العربية وتاريخنا تمتدُّ زماناً ومكاناً، وتمتلك عوامل انبعاثها التجدُّدِي الصَّحيح، وتحتاجُ منّا إلى مَن ينتشلُها مِن كمونِ الفعلِ إلى حيِّز التَّحقُّق، ويُمَوضِعُها في الوجدان العربيِّ على نحوٍ مُوجِبٍ في الشكل والمحتوى والصورة، بعيداً عن التقصير والتفريط والتهديم. لقد بدى الواقع التاريخي والأدبي العربي في صورة مزرية للأجيال الحديثة، بفعل التواطؤ، وغياب الأمانة العِلمية والنزاهة العقلية والإنصاف الوجداني، بعد أن جرى تدوين الأدب والتاريخ العربيّين بِعُجْمةٍ غريبةٍ عنه؛ فارسيَّةٍ ورومانية ومغولية وصليبية وتركية وأوروبية، فتركت آثارها السلبيَّة الشاذة، وغيَّبت ما فيه من إيجابية جوهريّة حقيقية. في كلِّ ما قرأت من الكتبِ الستّة الأخيرة للأديب العزيز د. غسان عبد الخالق، وما اشتملت عليه من أدب وتاريخ وفلسفة وسِيَر وأعلامٍ، وجدتُ مجموعة من المُثُلِ والقيمِ والأفكار النّاظمة لمنهجيّته البحثية في حِسّها العقلاني، وتأكيدها لعروبيّة الروح والوجدان المُتمثّلة في ذاتها الإيمانية في كفاحها بلا تفريط في أزمنتها الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل، فقد صاغ مقولاته وآراءه في كتبه بوعي الإنسان وحرِّيَّته، فاستجمع ذاته الإنسانيّة الموجِبه في كلِّ ما عاينه من تفاصيل اشتملت عليها كُتبه الأخيرة. وهذا النّهج هو إحدى الثمرات الإيجابية التي عزَّزَ ملَكاتِها فيه أستاذُه المفكّر فهمي جدعان، فضلاً عما يمتلكه هو شخصياً من قابليات فكرية وروحية، فشكّل كلُّ هذا حوارية داخليّة في ذاته، استخلصت لنفسها منبعها الذاتي الخاص في البحث والنظر في مسائل الأدب والفكر والفن. وهنا أقف على كتاب ( البلاغة السياسية من منظور حضاري) . ففي هذا الكتاب يقظة فكرية ومعرفية جديدة، يتجلّى فيها الفكر الأصيل والثقافة الرفيعة والتثقيف الجيّد، الذي هو أساسُ كلِّ يقظةٍ حقّة، وقِوامُ كلِّ حضارة حقيقية. فالكاتب والمكتوب ممتزجان نفساً وروحاً وعقلاً كما يمتزجُ العطر بالزهرة، ويَسْتَكْنِهُ الخفيَّ والمجهول والمسكوت عنه، ويقف على جذور الظواهر، ويستقصيها جذراً جذراً حتى تستوي على صعيد الحقيقة – في نسبيَّتها على الأقل- فهو الأكاديميُّ النابض أيضاً بممارسة واعية رشيدة، بعيداً عن قاعات الدَّرس الأكاديمي الجامد. ولن أُفيض بالحديث التفصيليِّ عن هذا المجلد الزاخر بالمعرفة، فحسبي هنا أن أشير إلى بعض العلامات والرؤى التي يمتاز بها هذا الكتاب، وأولها أنه يحوِّل المعرفة العلمية المجرَّدَة إلى معرفةٍ حياتيةٍ مُشخَّصَة. وحتى تتضح هذه الفكرة أوضِّح التالي: الكتبُ الثلاثة التي يشتمل عليها هذا المجلد تدور فكرتُها الكلّية حول السلطة والثقافة وحركة المجتمع العربي الإسلامي سياسياً واقتصادياً وثقافياً، والوظائف والأدوار التي لعبها كلٌّ من السياسي والفقيه والأديب/ المثقف في تكريس شرعية السلطة ومشروعية ممارساتها في مواجهة العقائديات والمذهبيات. يقول قائلٌ قرأ الكتاب أو قارئ سيقرأه: ما شأننا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين في القراءة عن الأمويين والعباسيين ودويلاتهم؟ تلك أمة قد خلت، فيما المؤلِّف يحملنا إلى الماضي. والجواب على هذا هو أنّه صحيح أن الماضي بُعدٌ زمانيٌّ قد تحقق وانقضى وخرج من حيّز القوة إلى الفعل، وأنّ الحاضر بُعدٌ زمانيٌّ يتحقَّق وينقضي، وأخذ يخرج من حيّز القوة إلى الفعل، وأن المستقبل ما زال في انتظار الخروج من حيّز القوة إلى الفعل. فهذه الأبعاد الزمانية الثلاثة هي ما يشكّل تاريخانية التاريخ والأدب العربيين، فكلٌّ من هذه الأزمنة الثلاثة حالٌّ في غيره ومتفاعلٌ معه، ولا وجود لأحدهم إلا بوجود الآخَريْن، وعدمُ أخذهم مجتمعين هو تضييعٌ لهم وتعطيلٌ. فتأمل المسرودات الحكائية في كتاب (بلاغة الشارع)، وهو أحد الكتب الثلاثة التي يشتملُ عليها مجلد( البلاغة السياسية من منظور حضاري) تجيب على هذا سؤال: ما شأنُنا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين في القراءة عن الأمويين والعباسيين ودويلاتهم؟ . فالحديث عن الشارع العربي هنا ليس حديثاً نظرياً تأملياً، وإنما هو فكر عملي وحياتي معاش، من خلال المعجم البلاغي الشِّفاهي الذي رصد أيقوناته ومفرداته الباحثُ. وللقارئ كذلك أن يتصور انفراط عقد الخلافة العباسية، وفقدان إدامة سيطرتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي تحدّث عنها المؤلِّفُ، واستنجاد الخليفة المستكفي بالله بمعز الدولة البويهي، واستقواءه على الخليفة المستكفي بالله حتى سَمَلَ عينيه... للقارئ أن يتصور كيف يعيد التاريخ نفسه، فيرى ما يشبهه في واقعنا المعاصر في زمن ما يُسمَّى بالربيع العربي، فكل ما يحتاجه من استرجاع الحدث التاريخي في زمن القوة والفعل هو تبديل الأسماء فحسب، أما الصورة الدرامية التراجيدية فهي نفسها، وشواهده مما عرضته التلفزات والفضائيات وهو يتحقق وينقضي على بعضِ زعماء العالم العربي وساسته. ومثل ذلك يمكن أن يُسقطه القارئ على اجتهاد السلطة البويهية في نشر المذهب الشيعي الاثني عشري، وحشد الدعاة له لتعميم هذا المذهب، ومدهم بالمال والسلاح. وأعتقد أن الصورة المأمولة في رسم وعي القارئ وذاكرته قد وصلت وهو ينظر ويرى معالمها الممتدة من جغرافيّة اليمن وجنوب لبنان حتى طهران. وفي كتاب «بلاغة السلطة» يقف المؤلِّف على مُقدِّمات كتبٍ لأعلامٍ أسهموا في إبداعيَّة الثقافة العربية، هم الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين»، وابن قتيبة في كتابه «أدب الكاتب»، وإبراهيم الصولي في رسائله، وكيف تجلَّت الصراعات المذهبية وتصاعدت في آفاق أساليب الكتابة العربية بفعل النَّزعات المذهبية. وبالقدر الذي تكشف فيه هذه الكتب التي تناولها المؤلِّفُ بالتحليل عن تحولات الثقافة العربية، فإنها تكشف كذلك انحيازها للمذهب العقائدي لكاتبيها، واستمالتهم للسُّلطان وتغريدهم في سربه، كونها انحازت لشكلانيتها المفرطة التي سادت أساليب الكُتّاب بتوظيفهم لبلاغتهم بمعناها السياسي والفني الأدبي. وهنا أشير كيف أن الثقافة العربية والتاريخ العربيين تَحوّلا من غاية التأهيل الحياتي والتهذيب الإنساني والإبداع الفكري، إلى أزمة سلبية شاذة سلبت الوعي العام للإنسان مزاياه وخصائصه الذاتية، وجوهر كينونته كإنسان، وجعلته مستلَباً للسُّلطة. وهذا ما يفسِّر أزمة الإنسان العربي قديماً وحديثاً؛ أزمته مع ذاته وأزمته مع ثقافته وتاريخه. ويُحسب للمؤلِّف هذه المنهجية البحثية المنضبطة في استقراءاته وتحليلاته، فهي منهجية تقوم على الأخذ بالأنساق المعرفية التكاملية، فحرّر النصوص المبحوثة من التشويهات والتحريفات، ولم يُسلِّم بما هو شائع ومُتداوَل على أقلام الباحثين الذين سبقوه في تفسير الظواهر وتعليلها. وأقول كلمة أخيرة هنا؛ وهي أنَّ المؤلِّف د. غسان عبد الخالق، باتكائه على الماضي تاريخياً، قد أعذَرَ نفسَه من عبء السِّجال الثَّقافي والسِّياسي في راهنه الموضوعيِّ، فاستدخل الأزمنة الثلاثة زماناً ومكاناً، بعيداً عن الجبريّة القهرية التي يمكن أن تتحكّم في إرادته الحرّة، فانحاز بسلاسة فنيّة إلى الحتميّة الإنسانية الموجِبة، المصوغة بوعي الإنسان وحُرِّيّته. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 16-01-2025 10:18 مساء
الزوار: 37 التعليقات: 0
|