د. إبراهيم خليل مما استوقفني في الكتاب الجامع لأعمال المؤتمر الدولي لمجمع اللغة العربية الأردني 2019 حول «البلاغة العربية بين القديم والحديث» الورقة المتميزة لأستاذنا الدكتور محمد عُصفور عضو المجمع، فمع أنه لصيق مثلما هو معروف باللغة الإنجليزية، وبالترجمة عنها إلى اللغة العربية، لصيق أيضا بالعربية يميل إليها كثيرا، وله مؤلفاتٌ، ودراسات بالعربية، ونظم بها شعرا رقيقا نشره منذ سنين. لهذا ليس غريبا، ولا عجيبا، أن يكتب في موضوع البلاغة العربية، ولا سيما إذا كانت الكتابة فيها تتغيا الموازنة أو المقارنة بين ثقافتين هما العربية والثقافة الغربية، على الرغم من أن العنوان لا يتضمن تحديدا لثقافتين، فقد آثر الأستاذ عُصفور عدم التعيين، تاركا للقارئ أو المتلقي تحديد أي الثقافات هي التي يعني. ومع أنَّ البحث الذي يمتد من ص 15 إلى ص 55 جدير بما ذكر من حيث التميز إلا أن هذا لا يعني – بحال من الأحوال- أن نتفق معه في جل ما جاء فيه. فقد انطلق من فكرة أن اللغات جميعا على قدم المساواة بالنسبة للمتكلمين بها، فلا تفاضل لبعض اللغات على بعض. وهذا الرأي في الحقيقة يحتاج لإعادة نظر، فقد يصدق على تعبير اللغات عن أغراض المتكلمين بها في الأمور العامة، والتواصل الإبلاغي، ولكن اللغات – في رأينا- تتفاوت إذا عدلت عن الإبلاغ إلى التعبير البليغ. فبعض اللغات تتمتع بقوانين في التعبير لا توجد في لغات أخرى، وبقواعد في الصرف لا توجد في لغات أخرى، وقوانين أخرى في النحو لا يوجد لها نظير في لغات أخرى. فهي من هذه الزاوية، أو تلك، تحظى بشفافيةٍ، وبدقة في التعبير لا تتاح للمتكلمين بلغات أخرى. وهذا دفع ببعض الدارسين للمقارنة بين اللغات، وترجيح بعضها على بعض فيما له مساسٌ بالتعبير عن الأحاسيس العميقة، والدفينة، والعواطف الجياشة، في حين أنَّ لغات أخرى أقدر على التعبير، والإبانة، عن الأمور المادية المحسوسة. وقد عرفنا من الذين تعَرَّبوا من ذوي الألسنة الأخرى من انصرفوا عن استخدام لغاتهم الأصلية في التعبير، واتخذوا العربية أداة بيان. وعرفنا أيضا من عدلوا عن العربية لغيرها من اللغات للسبب ذاته. ولا يتسع هذا المقام لاستقصاء هذه الشهادات، وهي كثيرة جمة.
على أن أستاذنا يذهب مذْهَبَ من يقول بأن البلاغة العربية هي بلاغة بيت، أو جملة، دون النص الشعري الكامل. وهي البلاغة التي عني بها البيانيون. وهذا وإن كان له ما يؤيده في الممارسة التطبيقية، لدى علماء البيان، ونقاد الشعر من المتقدمين، إلا أن فيه تعميمًا لا يقره المنهج العلمي الذي اعتدناه عند الباحث. لأن من البلاغيين، ونقاد الأدب، من حرصوا حرصا شديدا على بلاغة النص شعرا ونثرا. وخير دليل على ذلك ما نجده في كتاب « إعجاز القرآن « للباقلاني 402 هـ وما أخذه عبد القاهر الجرجاني 471هـ على غيره من البلاغيين ممن يكتفون بالوقوف عند البيت أو البيتين، ولا يستوفون المقطوعة، أو القصيدة. وما وجدناه أيضا لدى حازم القرطاجني 685هـ في « منهاج البلغاء وسراج الأدباء « من وقفة عند تسويم رؤوس الموضوعات، وتآلف الأجزاء التي تتألف منها القصيدة، وما بينها من تساوق. ومع هذا كله، وإذا تجاوزنا التعميم، فإن بلاغة الشعر ليست كبلاغة القصة أو الرواية أو المسرحية، وهي فنون بنى أستاذنا للأسف مقارنته عليها دون مراعاة لهذا الفارق. فوازن بين بلاغة المتنبي في (لكل امرئ) وبلاغة القصة القصيرة تارة، والمسرحية تارة، والخطبة تارة أخرى، وكأنه لا يتفق مع الرأي القائل إنَّ بلاغة الشعر شيء مختلف تمامًا عن بلاغة النثر، وهذا ما قامت عليه نظرية الاستعارة عند ياكوبسون، ونظرية باختين في اللغة، ونظرية النقد الأنجلو- أميركي المعروف بالنقد الجديد. ففي المثال التالي للمتنبي يقول مخاطبًا الأمير سيف الدولة: وما أنا وحدي قلتُ ذا الشعر كلَّه ولكن لشعري فيك من شعره شعرُ فإن اللعب بالألفاظ في الشطر الثاني هو من أساسيات القول الشعري التي تقوم عليها بلاغة النَظْم، ولو استعمل كاتب القصة القصيرة أو الرواية مثل هذا اللعب بالألفاظ لكانت قصته ركيكة وسخيفة. وهذا بيت آخر لأبي تمام يقول في صفة المطر والصحْو: مطرٌ يذوبُ الصحوُ منْه وبعدَهُ صحوٌ يكادُ من النضارةِ يُمْطرُ فلو كتب أحدهم قصته، أو روايته، بمثل هذا النهج الاستعاري، لسخر القراء منه، وزهدوا في قراءته. وهذه الأمثلة كغيرها من الكثير الجم تؤكد لنا أن التعبير البليغ في الشعر مباينٌ بطبيعته للتعبير في النثر بصفة عامة، بما في ذلك النثر القصصي، والدرامي، والخطابي. ولهذا تورط الشعراء الذين تحولوا لكتابة الرواية فكتبوها بلغة الشعر فجاءت محاولاتهم مضحكة، وإن فازت - رغما - بالجوائز الكبرى. وقد يعجب القارئ لأن الأستاذ محمد عصفور اعترض على كلمة (عادات) في عجز بيت المتنبي: « وعادات سيف الدولة الطعْنُ في العدا « معتقدا أن الوزن هو الذي أجبر المتنبي على استعمال صيغة الجمع، لا المفرد(وعادة) فوقع لذلك في المبالغة التي لا تروق للباحث. والصحيح أن هذا الاختيار لا علاقة له بالوزن، فالقصيدة من البحر الطويل، وتفعيلة الابتداء في عجُز البيت هي فعولن – السالمة- أو فعولُ – المقبوضة – ولئن كانت واجبة بالجَمْع، فهي جائزة أيضا بالمُفرد (وعادة سيف الدولة الطعْنُ في العدا). وفد ناقشَ الباحث بيت المتنبي مناقشة عقلية، وهذه المناقشة خرجت بنا عن السياق. فالقصيدة التي أنشدت في عيد الأضحى تشير للحروب التي يخوضُها الأمير ضدَّ الروم باستمرار، وهي حروبٌ لا تكاد تهدأ. ولو كانتْ القصيدة تتحدث عن زمن السلم والصلح فللباحث الحق في أن ينفي صدق الشاعر ها هنا. ويتَّهمه بالميل إلى الغطرسة، وحبّ القوة، وكأنه نيتشويّ المبدأ، والمُعْتقد. وقد لاحظنا أنَّ أستاذنا لا يفتأ يخرج عن السياق، ففي تقويمه لبيت المتنبي (ما كل ما يتمنى المرءُ يُدركه ) حمل على الشطر الثاني، وعدَّه من الأقوال الكاذبة، إذ لو كان مرماه صحيحًا لكانت صناعة السفن مَضْيعة للوقت. وهذا الرأي غريب، لأنَّ من يتذكر صدر البيت لا بد أن يتوقع الشطر الثاني منه، فالبحارة الذين يقودون السفن يتمنون أن تهبَّ الريح في الاتجاه الذي يساعدهم على الإبْحار السلس، الآمِن، ولكنْ يحدث كثيرًا ألا تأتي الريح من حيث يشاؤون، فيتورّطون كما قال طرفة (يجور بها الملاحُ طورًا ويهتدي ) فأين الخطأ في هذا؟ أما إشارة د. عصفور لملاحظ أبي فراس على المتنبي في أثناء إلقائه قصيدته المشهورة(واحر قلباهُ) (ص24) وما نبَّه عليه من معان قد يكون المتنبي سرقها من شعراء سابقين، وما أشار إليه، ونبه عليه، من آراء إليوت Eliot حول الموهبة الفردية والتقاليد والتراث، فما خفي على أستاذنا أن جهابذة النقد، والبيان، من قدماء البلاغيِّين، كانوا قد ذكروا مثل الذي ذكره الشاعر الأمريكي – البريطاني، وأبو فراس لم يكن في منأى عن ذلك بلا ريب، فالبلاغة العربية، من حيث هي علم بالمعاني والألفاظ، لم تغفل عن هذا. فقد ذكروا - وهذا معروف - أن من أخذ معنى من آخر فأجاد الأخذ حتى ليبدو أفضل من الأول كان هذا الشاعر أحق به من الآخر. وذكر عبدالله بن المعتز (296هـ) في « طبقات الشعراء المحدثين « نموذجا من هذا الأخذ، وهو قول سلم الخاسر: من راقب الناس مات هما وفاز باللذة الجسورُ فقد أخذ المعنى من قول بشار بن برد: من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيّباتِ الفاتِكُ اللهجُ وأجمع أهل البصر بالشعر، والبلاغة، من حيث هي علمٌ، على أن سلمًا تفوَّق في بيته على أستاذه . على أن تكرار الإشارة للنموذج السداسي لعوامل الاتصال الناجح عند رومان ياكوبسون من مرسل ومرسل إليه إلى آخره... شيءٌ بولغ به؛ لأن الباحث عرض لذلك مرتين، في الأولى من ص 19- 21 توصل فيها إلى أن الكلام البليغ ينبغي له أن يكون في المنطقة الوسطى بين الإبهام التام، والإفصاح التام، أي الوضوح. ولكنه تراجع عن هذا في موقع آخر عندما طبق هذا النموذج السداسي على قصة قصيرة، ثم على خطبة بروتس في يوليوس قيصر. ففي الموقع الأول يراعي بلاغة القصيدة، وفي الثاني اتخذ من الإقناع الذي يعتمد الإفهام التام غير المباشر، أو المباشر، معيارًا بلاغيا يَفْضُل به النص القصصي بلاغة البيت، أو الجملة، في شعر المتنبي وغيره. وأحسب أن ياكوبسون عندما وضع هذا المخطط لعوامل الاتصال الستة إنما كان يرمي لبيان تأثير هذه العوامل على الاتصال الناجح بصفة عامة، لا بصفة خاصة تنسحب على الاتصال الأدبي والشعري. وهذا ما أفاض في الحديث عنه، وبيَّنه بوضوح، في حديثه عن الاستعارة، والكناية، فعزا إلى الشعر الإفراط في المجاز والاستعارة، وإلى النثر القصصي الإفراط في الكنايات. صفوةُ القول أنَّ هذه الطريقة في تناول البلاغة بين ثقافتين تنطوي على نتائج قبْليَّة مُسبقة، يتوصل إليها الباحث بقرائن يسوقها، أو بغير قرائن. لأنه يوازن، ويقارن، بلاغة الشعر التي يعدها مجزأة: بيت، جملة، لا نص، ببلاغة النص القصصي، أو الدرامي، أو الخطابي: نص، لا بيت، ولا جملة. علاوة على أنه يوازن، ويقارن، بين نماذج شعرية موغلة في القدم، وأخرى من النثر الحديث، أو القريب من الحديث، وفي ذلك ما يُخلُّ بالنتائج مقدمًا، هذا إذا لم تعدْ المقارنة بنتائج عكسيَّة. فتبدو لنا البلاغة العربية بلاغة شَذَريّة تنْحصرُ في البيت والجملة، وقد يكون أكثرها مما ينسحب عليه قولهم: «أعذبُ الشِعْر أكذبُه».