|
عرار:
غسان إسماعيل عبد الخالق هل يمكن لناقد أو لباحث أن يقف وحيدًا بين قمتين صلدتين منقطعتين هما التراث والمعاصرة؟ إن العلاقة بين الناقد والموروث أو العلاقة بين الناقد والمعاصرة، لا تكون إلا بالنسبة أو الانتساب لأي منهما بهذا القدر أو ذاك. إن أيما ناقد أو باحث معاصر لا يمكن له أن يكون (موروثيًا) خالصًا أو معاصرًا، بل يكون مزيجًا من الاثنين. وتبعاً لنسبة المعايير الموروثة أو المعايير المعاصرة في جهوده، يمكن الحكم على مدى (موروثيته) أو معاصرته. قلت: المعايير الموروثة والمعايير المعاصرة، ولم أقل: التراث والمعاصرة، لأن البحث في الأدب القديم يمكن أن يكون بحثًا معاصراً إذا أُنجز بمعايير معاصرة، كما أن البحث في النقد الحديث يمكن أن يكون بحثًا (موروثيًا) إذ أنجز بمعايير موروثة. على أن لا ننسى أن المعيار الموروث يمكن أن يكون معياراً معاصراً. أما التراث فهو - في الواقع – جماع الخبرات والمعارف وأنماط التفكير والحياة المتحدّرة من الماضي المستمر المتدفق في الحاضر ثم إلى المستقبل عبرنا. إن التراث هو ما نحن عليه الآن، أو هو كل واحد منا، ويتجلّى بالقدر الذي يمكن لأي منا أن يحذف من الموروث أو يضيف من الحاضر أو يفعل العكس من ذلك. وهكذا فإن جهود الدكتور ناصر الدين الأسد في الأدب القديم، تبدو لي محصلة حذف من معايير الماضي الموروث وإضافة من معايير الحاضر المعاصر. وثمة مسالة أخرى أراني مدعواً لأن أجلوها، قبل أن أنهد للكلام على ما بدا لي النموذج الأمثل لجهود الدكتور ناصر الدين الأسد في الأدب القديم؛ لماذا يشتبك الباحث مع الأدب القديم أو الحديث؟ وهل ينبغي أن يكون معيار الحكم على جهوده مسوقاً بغاية معرفية بحتة أم ينبغي أن يتسع ليشمل السياق التاريخي الذي احتضن هذه الجهود، والمرامي الحضارية البعيدة التي ينبغي أن يصبو إليها، والغايات الكبيرة التي ينبغي أن ينصبها لنفسه وللآخرين؟ إن دراسة الأدب لذات الأدب هدف يتيم، إذا لم يقترن بمقاصد حضارية وغايات فكرية ومنهجية، لأن البحث أو النقد الأدبي لا يمكن له أن يستوفي غايته القصوى إلا إذا كان بحثًا حضارياً أو نقداً ثقافياً رفيعاً. وفي تقديري، فإن كتاب الدكتور ناصر الدين الأسد (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية) هو أكثر ما يمثل جهوده في الأدب والنقد القديم، جهوده المسوقه بهاجس الحذف والإضافة؛ استعادة المعيار الموروث القابل للاستمرار في الحاضر ونبذ المعيار الموروث الذي لم يعد قابلاً للاستمرار، قبالة الاستجابة للمعيار الحداثي المعاصر، علاوة على ما يعم الكتاب من مرام حضارية وغايات فكرية تتجاوز حدود الغاية الأدبية البحتة وما ينتظمه من سياقٍ تاريخي نهضوي حداثي معاصر لا يخلو من طرافة؛ فهو سياق يبدأ بكتاب أستاذه الدكتور طه حسين ( في الشعر الجاهلي) ولا يتوقف عند كتاب أستاذه الدكتور شوقي ضيف (العصر الجاهلي). بعد مرور ثلاثين عامًا على صدور كتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين، وفي الثالثة والثلاثين من عمره؛ يفرغ الدكتور ناصر الدين الأسد من كتابة أطروحته (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية)، فتصدر بعد عام واحد فقط عن دار المعارف بمصر. ثم لا يتردد أستاذُه وشيخُ العربية وآدابها في القرن العشرين الدكتور شوقي ضيف، بعد أربع سنوات، في الإحالة إليها، في غير موضع من باكورة موسوعته الجليلة (تاريخ الأدب العربي). ويخطئ من يظن بأنني أنصب كل هذه الشواخص، لأدلّل على مدى التميّز الذي يتسم به كتابُ (مصادر الشعر الجاهلي)، ويتسم به كاتبه الدكتور ناصر الدين الأسد فحسب. إنني أنصبها كي ألخصّ ما اضطلع به هذا الكتابُ من دور يتمثّل في وصل وعي النهضة الأدبية بوعي الحداثة الأدبية، وتطبيعهما في بيئة بالغة الصرامة والتشدّد مثل بيئة البحث الأكاديمي، لكنها – مع ذلك- احتضنت وما زالت تحتضنُ، جلّ الجهود النقدية المفارقة للسائدِ والخارجة عن المألوف والمكرور. وأحسب أنني مطالب ها هنا، بدفع استغراب من يستغرب أنني عددت موسوعة الدكتور شوقي ضيف (تاريخ الأدب العربي) جهدًا حداثيًا، أو ممثلاً للوعي الحداثي الأدبي في بيئة البحث الأكاديمي، إذ ما زال بعض الباحثين يعدّون هذا الجهد تقليدياً بديهيًا، وقد فاتهم الربط بين مقدمة كتاب (العصر الجاهلي) للدكتور شوقي ضيف وما جاء في الفصل الأول من كتاب (في الأدب الجاهلي) للدكتور طه حسين تحت عنوان (متى يوجدُ تاريخ الآداب العربية)؟ كما فاتهم من سمات الحداثة الثاوية في موسوعة الدكتور شوقي ضيف، ذلك السعي الحثيث إلى نظم الأدب العربي نظمًا زمانيًا واضحاً، وتصنيف مناشطه تصنيفًا موضوعيًا مطّرداً، وردّ غير قليل من السائر المتداول، حتى لو كان متحدّراً من أعيان النقاد القدماء. وسوف أنطلق من هذه المسألة الأخيرة (ردِّ المتداول)، لأبرز أهمية التوطئة التي وطّأ بها الدكتور ناصر الدين الأسد، لمن جاء بعده من الباحثين ومنهم أستاذه الدكتور شوقي ضيف؛ ففي معرض تناوله مسألة (تعلّم الكتابة في الجاهلية وشيوعها)- وهي مسألة على جانب كبير من الخطورة لما تثيره من مفارقات إذا ما عرضت بسذاجة على ظاهر النص الديني- يخلص الدكتور ناصر الدين الأسد إلى أن (عرب الجاهلية قد عرفوا الكتابة العربية بهذا الخط الذي عرفه الصحابة، رضوان الله عليهم، في صدر الإسلام، وأن معرفة الجاهليين بهذه الكتابة قد امتدت في الجاهلية، ثلاثة قرون على أقل تقدير). يخلص إلى هذا خلافًا لما أرساه نقادٌ قدماء بالغو السطوة كالجاحظ وابن قتيبة. ويتابعه في ذلك أستاذهُ الدكتور شوقي ضيف؛ فيقرّر أن (الكتابة كانت معروفة بل كانت شائعة في الجاهلية). ومع أنني أميل كثيراً إلى الاستدراك الذي قيّد به الدكتور شوقي ضيف هذه الخلاصة أو هذا التقرير حين قال: (ليس بين أيدينا أيُّ دليل مادي على أن الجاهليين اتخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم)، إلاّ أنه لا يسعني التغافلُ عن المرمى البعيد الذي رمى إليه الدكتور ناصر الدين الأسد، حينما تجشّم مهمة رفع الأمية عن الجاهليين؛ إذ إن من شأن هذا الرفع أن يزيل ذلك التناقض الكبير الذي يسكن الباحث والناقد الأدبي العربي منذ مئات السنين، فهو مسكون –من جهة- بالمثل الأدبية العليا في العصر الجاهلي ولا يدّخر وسعاً في التنويه بها والإعلاء من شأنها، لكنه –من جهة أخرى- سرعان ما يكسو حماسته لهذه المثل باستدراكات، تهدف إلى خدشها بدافع عقائدي! وكأنما وقر في ذهن هذا الباحث أو الناقد، أن الحماسة المطلقة لهذه المثل الأدبية العليا، مدخلٌ للطعن في سلامة عقيدته، مع أن غير قليل من النقاد القدماء، فرّقوا بين الأدب والدين، وعدّوا الخلط بينهما جورًا نقديًا فادحاً. لقد أدرك الدكتور ناصر الدين الأسد خطورة هذه الازدواجية في التعامل مع العصر الجاهلي: النظر إليه على أنه الأصل الأدبي المنشود وأنه النقيض الفكري المنبوذ في آن؛ فلم يدّخر وسعاً في تأكيد ضرورة استعادتنا لهذا العصر أدبياً وثقافيًا، دون أدنى شعور بالذنب؛ (فالعصر الجاهلي –في حساب الزمن- أولُ عصور التاريخ العربي، ونحن لا نستطيع أن نعرف قومنا في مراحل تطورهم، ومواطن انتشارهم، إذا لم نعرفهم في موطنهم الأصيل وفي عصرهم الأول. ثم إن الشعر الجاهلي هو الأصلُ الذي انبثق منه الشعرُ العربي في سائر عصوره، وهو الذي أرسى عمودَ الشعر، وثبّت نظام القصيدة، وصاغ المعجم الشعري العربي عامة، ولست أفهم كيف نستطيع أن نحكم على ما في شعر العصور الإسلامية من تطور وتجديد إذا لم نصل من أمر الشعر الجاهلي إلى مفصلٍ نطمئن عنده). كما أدرك الدكتور ناصر الدين الأسد، تلك الانتقائية وتلك النفعية التي كانت تسمُ الاهتمام بالعصر الجاهلي. وكأن العصر الجاهلي ليس أكثر من قنطرة ٍ ضئيلة أو محطة عبور قصيرة إلى العصور الإسلامية، فالحديث (عن الجاهلية- في المصادر العربية- لم يكن يقصد لذاته: فتسبرَ أغواره ويلمَّ شتاته؛ وإنما كان يقصدُ لغيره من موضوعات العصور الإسلامية التي كان المؤلفون يكتبون فيها، فيستطردون للحديث عن الجاهلية: للتمثيل والاستشهاد، أو للمقابلة والموازنة، أو للوعظ والإنذار، أو للتمهيد بين يدي حديثهم الأصيل تمهيداً موجزاً يدخلون منه إلى الحديث عما يقصدون. فيكاد يكون حديثهم عابراً، منثوراً نثراً متباعداً في تضاعيف كتبهم وثنايا رسائلهم. ومن هنا كان لا بد للباحث في العصر الجاهلي من أن يقرأ الكتاب العربي قراءةً متمعنة دقيقة، يجرده فيها جرداً كاملاً من عنوانه حتى ختامه). إن هذا الاستدراك المبكّر للدكتور ناصر الدين الأسد على المصادر العربية التي ألّمت بالعصر الجاهلي، يتحوّل بعد ذلك بعقود إلى ضرورة لا مناص منها، ليس لدراسة الشعر العربي فحسب، بل لدراسة الفكر العربي الإسلامي بعامة، فها هو ذا شيخ الماركسيين العرب الدكتور حسين مروّة في كتابه المشهور (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) لا يصوّب أنظارَ قرّائه إلى كتاب (مصادر الشعر الجاهلي) فحسب: بل يقرّر قائلاً: (إذا كنا نُدخل عصر الجاهلية في موضوع بحثنا كنقطة ابتداء، فإن المنطلق المباشر لذلك هو محاولة استجلاء الأصول الأوّلية التاريخية للأشكال التي عبّر بها سكان شبه الجزيرة العربية عن تصوّراتهم لظاهرات الكون والطبيعة وعن علاقاتهم الاجتماعية وأوضاع حياتهم. وهي هذه الأشكالُ التي تكوّنت منها المعالم الأولى لما قد يجوز أن نسميه الفكر العربي أو الثقافة العربية في مرحلة ما قبل الإسلام من تاريخ العرب. إن نقطة الابتداء هذه ستساعدنا في رؤية المسار التاريخي لهذا الفكر منذ بداياته، لتكون هذه الرؤية أساسًا لتكوين فكرة شمولية، فيما بعد، عن وجوه التطورات التي سيمر بها هذا المسار عبر الكثير من التقطّعات أو القفزات أو التحوّلات في تاريخ العرب بعد الإسلام). الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 13-09-2024 08:42 مساء
الزوار: 172 التعليقات: 0
|