|
عرار:
ربما يظن من يقرأ العنوان أنه مجرد عنوان جالب للأنظار أو حديث مبني على انطباعات شخصية، لكن الحقيقة التي لم يلتفت إليها أحد من قبل، أن الفكر النبطي هو أول من انشأ العولمة، وهو المطبق الفعلي والعملي لهذا الاتجاه، وقد تبدى ذلك في المجال الثقافي، وأنجز معماريا بما اشتملت عليه الواجهات النبطية من تصاميم وعناصر ومفردات تحققت بشكل ساطع وجلي على عمائر البتراء الصخرية، وإذا ما أخذ المقال صداه الفعلي فقد تتغير وتصحح ويعاد النظر بالدراسات التي ترجع أقدم فكرة للعولمة وصعودها إلى القرن الرابع عشر الميلادي والموصولة بالتقدم الصناعي الذي حصل في أوروبا، بينما تضلع تجليات الفكر النبطي بهذا التوجه بسنوات قبل الميلاد، هذا ما سنحاول طرحه وإثباته مرتكزين على منجز لا يزال شاخصا للأعيان حتى يوما هذا. ولإبراز الموضوع بشكل ميسر لابد من إبانة وعرض ما تعنيه العولمة التي تسعى إلى تعزيز التكامل وتحويل الظواهر المحلية والإقليمية إلى ظواهر عالمية، والعولمة اصطلاحا جديدا لظاهرة قديمة أخذت مناحي سياسية واقتصادية وثقافية، وبما أننا سنتناول الجانب الثقافي الذي يضم بكنفه الجانب المعماري والفني فلابد من تعيين وتحديد فن العمارة المهتم بتنفيذ التصاميم التي تعتمد لبناء المباني وقد يحتوي على مجموعة من الأشكال والرموز والمنحوتات التي تؤشر إلى حقبة من الحقب الزمنية. اختلفت فلسفة الحضارات وتباينات وأفرزت نتاجات فنية تفاوتت وفارق بعضها بعضا رغم وجود تأثير الحضارات الطليعية الأولى وبعض التناص والتشاكل في ما بينها، وبمراجعة للتاريخ والحضارة الإنسانية فإننا نتلمس منها بعدا يعمل كمركز يحركها ويميزها عن غيرها، لقد كانت حضارة بلاد الرافدين المتنوعة والمتعاقبة قائمة على فكرة دنيوية، لذا نرى الفن والعمارة قد عبرا عن الآلهة والملك والرعية والخلود الدنيوي من خلال العمل في الحياة والذي تجسد بالعبرة من رحلة جلجامش بحثا عن الخلود، بينما تقوم حضارة وادي النيل على فكرة الموت كحالة مركزية مهيمنة، ومن مخرجاتها الأهرامات التي تمثل قبورا للفراعنة، والتحنيط لإيمانهم بالحياة بعد الموت، أما الحضارة الإغريقية فقد اهتمت بالإنسان كمركز للكون وقد وصل العقل الجمالي لجعله مثالا للوجود فكانت فينوس وغيرها رمزا للكمال. وعليه فلابد من الوقوف على معرفة المركز المهيمن والمحرك للحضارة النبطية لضمان الوصول الى تحليل صائب ورصين لمنجزهم الهائل، وكيفية مقاربة الموضوع باتجاه العولمة. شكلت التجارة بشقيها الاستيراد والتصدير الدعامة الأساسية للاقتصاد النبطي الذي حقق نجاحا رحيبا تجاوز حدود مملكتهم، فوصل نفوذهم التجاري إلى جنوب الجزيرة العربية والى منطقة حوض البحر المتوسط وحتى أوروبا وبالأخص روما والجزر اليونانية، إضافة إلى تجارتهم مع بلاد الرافدين وبلاد فارس والأناضول والهند. كل هذه المروحة التجارية درت عليهم ثروات طائلة مكنتهم من أن يكونوا مركزا تجاريا وممرا للقوافل وان يمتلكوا الاقتصاد لتطبيق أفكارهم. لقد كان الفكر الديني هو الدافع والمحرك لإبداع هذا النتاج، فاغلب الواجهات المنحوتة في الصخر هي مدافن خصصت لشخصيات مهمة وذات رفعة في المجتمع، زينتها عناصر معمارية ومنحوتات عكست مواضيع ميثولوجية. تمكن الفكر النبطي من اختيار عناصر فنية ومن حضارات مختلفة صيغت وشكلت بطريقة دقيقة وواعية لتمثل قمة في التوجه نحو آفاق الانفتاح الفكري والحضاري، فقد استمد الفنان النبطي عناصره الفنية والمعمارية من الحضارات المعاصرة له والحضارات السابقة كحضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي النيل والحضارة اليونانية والرومانية والاخمينية والليسية في بلاد الأناضول. وظف الفنان العديد من العناصر الفنية التي أخذها من خلال اطلاعه على كل هذه الحضارات واستخدم خصائص معمارية وفنية بانتقائية؛ فواجهات القبور المسننة والتي تعرف باسم قبور خطوة الغراب والتي تضم في أعلاها على صف أو صفين من زخرفة خطوة الغراب المدرجة الشكل مأخوذة من حضارة بلاد الرافدين وبالأخص الحضارة البابلية والأشورية وتعتبر هذه الزخرفة من أكثر الزخارف التي استخدمها الفنان النبطي لتزيين واجهات مقابره، وكذلك واجهة مضافة الاسد التي تتجسد فيها نحت الاسود نحتا بارزا وبوضع جانبي وهي ايضا من تاثيرات الحضارة البابلية والاشورية. اما المسلات والاشكال الهرمية التي تعلوا بعض المدافن فقد كانت بلاشك دليلا واضحا على التاثر بالحضارة المصرية القديمة كما في واجهة قبر المسلات، وكذلك فقد كان التاثر بالدول المجاورة ومنها سوريا وذلك باستخدام الاشكال القوسية فوق الابواب وفي اعلى الواجهات، واستخدام النسر الذي كان رمزا للمجد والعظمة والذي استعمل في العمارة السورية، اضافة الى التاثر بالطابع الاغريقي الذي تمثل في الاعمدة الكورنثية والكورنيش المزخرف والاشكال الجملونية، والعديد من المنحوتات التي مثلت الاله زيوس او احد ابنائه وايزيس وتايكي وغيرها من المنحوتات، والتأثر بالحضارة الليسية بالاناضول من خلال نحت القبور في الصخور، والتأثيرات الاخمينية من حيث التشابه بالتركيب العام بخصائص القبور من جهة المدخل الخاص بالقبر والذي يكون محاطا باعمدة ملاصقة. كما استخدم الفنان النبطي العديد من المفردات التي حملت الطابع المحلي من خلال استخدام العمود النبطي الذي اختلف شكله وزخارفه ونحوته عن العمود الاغريقي، كما استخدم شكل الجرة في اعلى بعض الواجهات وهي اضافة نبطية تداخلت مع عناصر اخرى ومن مختلف الحضارات وبتناسق تام، كل ذلك كان في الواجهات الصخرية التي ظهرت بقمة الاتزان والتماثل، والذي تطلب تصميمها وإنشاؤها تأملا تجاوز حدود البيئة المحلية، فهذا الابداع الجامع لكل تلك الحضارات يتطلب فلسفة عميقة تجمع كل هذه الطرز المعمارية والأشكال الفنية في مدينة واحدة بل ربما في واجهة صخرية معمارية فنية واحدة، وانطلاقا من الجزئي الى الكلي في بنى التكوين المحلي يكشف النسيج الفكري الكامن في بنائية المزاوجة التعبيرية بين العناصر المحلية النبطية والعناصر الخارجية ليعقد الصلة ويقارب كل تلك الحضارات ويؤسس نظاما فلسفيا مثيرا للدهشة والمقدرة العجيبة في السبق الفكري لنظام العولمة الذي نعيش بلوجه وبزوغه في هذا العصر. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 16-05-2021 08:08 مساء
الزوار: 846 التعليقات: 0
|