ذاكرة الأدب في تجربة إبراهيم نصر الله الروائية بين ترميم الوعي وحفظ الهوية
عرار:
نور فيصل أحمد بني عطا باحثة وطالبة دكتوراه في جامعة اليرموك يقف إبراهيم نصر الله في تجربته الروائية على النقطة المنصفة لمسار الزمن، متحسرا على ماضٍ يعد الأفضل في ظل ما يشاهد في الحاضر البائس، ومستشرفا مستقبلا دستوبي الحال والمآل، لذلك يمم إبراهيم نصر الله وجهه دون تردد نحو الماضي، وفتح الباب على مصراعيه أمام الذاكرة والخيال، تاركا لهما رسم المشهد المبتغى، على نحو جعل الجمع بين الجانبين السير ذاتي والآخر الروائي– بتقديري- مميزا من مميزات تجربته التي قدمها عبر العديد من أعماله الروائية، وجاء هذا النسيج بدون تصريح وميثاق متوافقا مع الفكر الأدونيسي في «الثابت والمتحول» ومبدؤه في فكرة التجاوز الدائم نحو الإبداع، لغاية أسرها نصر الله في سطوره، لحين مرور بعض السيارة. وفي محاولتي لممارسة فعل القراءة، فإنني أجد نصر الله يسعى إلى تخليد الملهاة الفلسطينية عبر سرد يجمع فيه بين الجانبين؛ السير ذاتي، والآخر الروائي؛ ليتحرر بذلك من السرد التفصيلي والواقعي قدر الإمكان، ففي بنائه الشخصيات نراه يراوح بين الخاص والعام، فيحرك الأحداث عبر شخصية بعينها، على نحو يجعل القارئ قريبا منها متعاطفا معها، ومن ثم يلجأ إلى تعميم ظروف هذه الشخصية، وذلك بدمجها مع شخصيات كثيرة مماثلة لها في الهم الجمعي، على نحو يمكنه من إشعال فتيل الأحداث على مسمع القارئ الواعي، غايته من ذلك الحفاظ على هوية حاول ويحاول المغرضين طمسها في زمن القطيعة. فطفق نصر الله إزاء ذلك يخصف على الحاضر والمستقبل من ورق الماضي، في محاولة منه لاسترجاع قيمة الذات عن طريق الحس بالاستمرار، بعد التغيرات الجذرية التي أصابت الحاضر، وتلك المرتقبة في المستقبل كنتيجة حتمية؛ فالماضي بالنسبة للإنسان العربي هو الأشبه بعالم المثل المتصف بالصفات التي رسمها أفلاطون لجمهوريته. لذا، فإننا نجد الميل إلى الخلود في الماضي عند نصر الله هي رؤية لطالما راودت الكثير من المبدعين، وسبق أن تعاملنا معها في الكثير من النصوص من قبل، ولكن ما يشغلنا هنا هو الأسلوب المعبر عنها. فيتكئ إبراهيم نصر الله في رؤيته هذه على ثنائية الذاكرة والخيال، ليعالج بها دستوبية الواقع بحاضره، ومستقبله كنتيجة حتمية؛ فنجده يحاول إضاءة قناديل الماضي ليشع بريقها نحو الحاضر المظلم، فلطالما أرهق الحاضر العربي ظلام الخيبات والانكسارات المتلاحقة، وليستشرف بالتالي مستقبلا أفضل من المتوقع، منطلقا في ذلك من وعيه بمدى أهمية التاريخ في خدمة ما يرمي إليه من مضامين، خاصة أن الوعي هو منطقة الأفكار التي يتصل بها الكاتب قبل الشروع بالكتابة. وبهذا يمكننا القول، إن نصر الله -كما يبدو- شكّل معماره الروائي على استثمار الماضي في استنهاضه الهمم لإنقاذ ما تبقى من الحاضر والتأسيس لما هو آت في المستقبل، بهدف التخفف من خيبات الواقع في الحاضر وبناء عليه في المستقبل. وتشكل ثنائية الذاكرة والخيال معا في أعمال نصر الله مفارقة مهمة؛ ففي ظل تأرجح حضورهما وغيابهما صنع الكاتب مضمون النص، وعليه، يمكننا عدّ تقنية نصر الله في استحضاره الماضي بكل مكوناته عبر الذاكرة المتخيلة بمثابة مضاد للنسيان والضياع والاندثار، ويأتي هذا انطلاقا من إيمانه بإشراق الماضي وازدهاره مقابل انحطاط وضع الحاضر وقياسا عليه المستقبل، ويظهر هذا في مرائي حرب الكلب الثانية مثلا، إذ إن نصر الله قدم الحاضر والمستقبل في صورة دستوبية تماما، بالمقابل كانت الأحوال في الماضي أفضل إلى حد ما. ولا تنطوي الذاكرة المتخيلة عند نصر الله على هدف «النستولوجيا» فحسب، وإنما هي نوع من الاختراع التخيلي للماضي، يقصد نصر الله من خلاله استنهاض الوعي لدى المتلقي، لذلك لا نجده يقتصر على الذاكرة الفردية، وإنما يرتكز بشكل أساسي على الذاكرة الجمعية؛ فيتأرجح متعمدا بين الذاكرة والنسيان؛ ليحقق غايته في اختراع ماض بطولي يواجه به النسيان والأعداء، فبين النسيان والتذكر منطقه مراوغة نسج عليها إبراهيم نصر الله حكاياته. وعليه، حمّل إبراهيم نصر الله رواياته أحداثا وشخصيات صنع بفعلهم «أدب الذاكرة» وشكل على أثره ظاهرة «ذاكرة الأدب» بهدف الحفاظ على الهوية الزمكانية، لتكون سلاحا يشهر في وجه من يسعى إلى طمس الهوية الفلسطينية والحقوق العربية والإسلامية فيها، وهذا ما يتضح من خلال فكرة الكاتب في رواياته -على سبيل الذكر لا الحصر- «طيور الحذر»، و»طفل الممحاة»، «حرب الكلب الثانية»، و»زمن الخيول البيضاء»، و»قناديل ملك الجليل»، و»طفولتي حتى الآن». إذ نجده يعتمد فيها على الماضي، فيحاول أن يسترجعه ويخلده في الحاضر والمستقبل، المستقبل الذي لا يراه إلا ارتدادا لخيبات الحاضر. فبعد الرؤية الدستوبية التي قدمها في روايته حرب الكلب الثانية إزاء الزمنين الحاضر والمستقبل، نجده يكمل مشروعه في «طفولتي حتى الآن» وذلك في استدعائه الزمن الماضي، وسعيه إلى استمراريته في الحاضر وضمان خلوده في المستقبل. فتظهر رؤية نصر الله الفنية هذه من خلال سيطرة عامل الزمن على رواياته ككل ففي رواية «حرب الكلب الثانية» تمثلت هذه الرؤية في تخيله عبر مرايا ضريرة ما ينتظر الماضي والحاضر من مستقبل، فنجده بذلك يعلن بعد وعي تام أنه يتمنى خلود الماضي وضمان ديمومته. وتكتمل الفكرة ذاتها في روايته «طفولتي حتى الآن» إذ يصرح في بدايتها بقوله: إننا أصبحنا شعبا محكوما بالخوف على الماضي وكأنه لم يعد لدينا غيره لإثبات الوجود. لذا، فإننا نجد نصر الله لا يعتمد على تقنية الاسترجاع فحسب، وإنما على إيقاف الزمن في الماضي حرصا منه على جعل الماضي حاضره ومستقبله؛ غايته من ذلك الحفاظ على الهوية نتيجة القلق والخوف الذين يسيطران عليه، بفعل وعيه بما يدور حوله؛ ففعل الرؤية والمشاهدة لم يتحقق له إلا عبر مرايا ضريرة، وبطبيعة الحال، فإن هذه المرايا لم ولن تعرض عليه سوى انعكاسات لمشاهد سوداوية مظلمه في الزمنين؛ الحاضر، والمستقبل. إن روايات نصر الله تجعل القارئ يشك أحيانا أنه يتأرجح بين فني الرواية والسيرة؛ ففي روايته طفولتي حتى الآن يشعر القارئ أنه لم يرد للطفولة أن تنجز، بل جعلها معلقة إلى الآن، لغاية لا يصل إليها إلا من يحفر في طبقات أنساق تجربة نصر الله الإبداعية، باحثا عن آثار انعكاس الجذور المرجعية الضاربة في أعماقها، فما يكتبه نصر الله يعد انعكاسا لمرجعيات متعددة السياقات. لذا، تصنف روايات إبراهيم نصر الله ضمن روايات تيار الوعي بامتياز؛ إذ إنها بمعمارها تكشف عن الجوانب النفسية والذهنية للكاتب المتغلغلة في ذاتها، ويظهر هذا جليا في تعامله مع الماضي كأحد أهم المقومات السياقية الرئيسية فيها، في إطار محاولته لضمان التلاقي بينه وبين الحاضر والمستقبل، فرؤية نصر الله هذه تقارب -إلى حد ما- رؤية أوغسطين للزمن في اعترافاته، تلك الرؤية المتمثلة في أن حضور الماضي وخلوده تضمنه الذاكرة المتخيلة. ولأن روايات نصر الله -بحسب تقديري- تشكل تسلسلا فكريا، فإنه من الممكن دراستها كظاهرة كلية كما درست ظاهرة النظام الأبوي في ثلاثية نجيب محفوظ مثلا، فأعمال إبراهيم نصر الله تعد من الأعمال الروائية التي استثمرت الماضي بفعل إحيائها بعض الشخصيات والأحداث المهمة فيه؛ وذلك لإيمان الكاتب العميق بأن ضمان الشعور بالاستمرار لا يمكن أن يتم إلا باللجوء الى الماضي، وبأن الارتكاز على الماضي أساس متين وأمر مهم للتخلص من خطر تردي الحاضر والمستقبل، خاصة أن التاريخ بالنسبة لمن يكتب في القضية الفلسطينية ضرورة وليس خيار؛ فالهوية والوجود أمر مستهدف بشكل مباشر من طرف عدو صهيوني غربي مشترك، يحاول جاهدا إزالة ومحو هذه الدولة وكل ما يذكّر بها في الوجود، وذلك بفعل طمسه ماضيها وإحلال حاضر ومستقبل آخرين يصنعهما وفق مراميه ومطامعه. إن الزمن الذي وظفه نصر الله في هذه الرواية هو زمن نفسي، فكانت تجربته هذه أشبه بتجربة «مارسيل بروست» في روايته «البحث عن الزمن الضائع» وهو بذلك يدخل في دائرة الفلسفة وعلم النفس بفعل موازنته مفهوم الزمن بين؛ الفلسفة، والأدب، وعلم النفس. متجاوزا بذلك جريان الزمن من نقطه بداية إلى أخرى تعلن بدورها النهاية بفعل الذاكرة المتخيلة، على نحو يشير إلى مدى الخبرة التي اكتسبها نصر الله من التجارب الحياتية المحيطة، إذ إنها جعلته يعمد إلى أزمان متنوعة متداخله تمكنه من تجسيد الحالة الشعورية التي يحمّلها شخصيته الروائية. فنجد إبراهيم نصر الله بذلك يعيد علينا ما قاله بول ريكور (1913-2005) في كتابه «الذاكرة والتاريخ والنسيان» من علاقة بين الوعي والذات والهوية جاعلا من الذاكرة الرابط والجسر الذي يوصل بينها، وفي الوقت نفسه جعلها هي الراسم لتخوم الاختلاف والتنوع بين الهويات سواء على صعيد الأفراد أو الجماعات. وكذلك فإنه يعيد علينا ما قاله هنري برغسون (1859 -1941) في أن الذاكرة التي يعتمد عليها ذاكرة تصويرية تقوم على تخزين الماضي وتحيا به في ديمومة مستمرة، انطلاقا من أن الزمن الماضي بطبيعة الحال هو الفردوس المفقود للإنسان العربي، اذ نجده دائما ما يعود الى أحضانه ويركع في محرابه؛ هروبا من تطورات الحاضر والمستقبل، غايته من ذلك مختلفة عما تظهره الأحداث من نظرة تشاؤمية، على نحو يمكننا من قراءتها على أنها محاولة لفت نظر للمتلقي نحو مآلات الزمن بمراحله الثلاثة، وذلك بهدف إيقاظ الوعي لديه على أمل التغيير، خاصة أن خطابه يعد تحديدا موجها لنقطة الوعي عند المتلقي.
جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 31-05-2024 09:47 مساء
الزوار: 155 التعليقات: 0