|
عرار:
موسى إبراهيم أبو رياش في كتابه الموسوم «الصعاليك الجدد»، والمصنف بأنه «نصوص ساخرة»، يصوب الكاتب والأديب حسام الرشيد سهام نقده اللاذعة والساخرة تجاه جملة من المظاهر والسلوكيات والتصرفات السلبية، بالإضافة إلى بعض السياسات الحكومية والمآسي العربية، وكلها تصب في خلخة بنيان المجتمعات وضعفها، وهو إذ يشير إليها بقصد تسليط الضوء عليها، ودق جدران الخزان قبل فوات الأوان. كان الصعاليك في تاريخنا العربي قبل الإسلام حركة تمرد اجتماعية ضد الطبقة المستأثرة بالخيرات، فكانوا «يأخذون من أموال الأغنياء، من أجل إطعام الفقراء»، ويسعون «لإغاثة الملهوفين ونصرة المساكين ومد يد العون للمحتاجين». أما ـ«الصعاليك الجدد»؛ فهم -كما يرى الكاتب-: «لا يسطون على مال موسر، وإنما على مال معسر، لا حول له ولا قوة، ولا يجدون بأسًا في مصّ دماء بني جلدتهم ولو في عقر دارهم، لا يشبعون أبدًا، بطونهم جرباء... جرباء، الواحد من هؤلاء الصعاليك الجدد، إن جمع جبلًا من ذهب، نثر التراب على رأسه، وقال جازعًا: لو يرزقني الله جبلين!.. .. الصعاليك الجدد، يسرقون كحل العين، وحليب الأطفال، وحتى أسنان الأموات، يسرقون ماء السماء، ورمال الصحراء، وحتى أشجار الغابات، يسرقون الصحيحين، ورسائل إخوان الصفا، وحتى المقامات. فعذرًا لعروة (عروة بن الورد أمير الصعاليك) وصحبه، على صعاليك هذا الزمان وما أكثرهم!». فشتان شتان بين صعاليك شرفاء يسرقون لإطعام الجياع، وبين صعاليك جدد كلهم خسة ودناءة ووضاعة وجشع. لفت نظري في هذا الكتاب النقد اللاذع للثقافة والمثقفين في عدد وازن من النصوص، مما استدعى أن أتناولها في هذه المقالة؛ لأبين مآخذ الكاتب وملاحظاته على هذه الشريحة التي ينتمي وأنتمي إليها، وإن إسميًا على الأقل. في نص «قلّة الحياء»، يعيب على بعض المواقع الثقافية تجاهل الأقلام المحلية، وفتح صفحاتها لأقلام الآخرين؛ طمعًا في بعض المكاسب واستجلابًا للمنافع، يقول: «أن تخون موقعك الثقافي، فلا تجعله لأقلام بني أمك الذين نزلوا من صدور مطاياهم كرهًا، وطمرهم حتى آذانهم غبار التجاهل والنسيان، وإنما لأقلام من بلاد الواق واق، وجزر المريخ، وما بعد خط الإستواء، وربما من القطب المتجمد الجنوبي، حتى تحقق بعضًا من مآربك الشخصية الضحلة التي طال انتظارها. ... فهذا والله من قلّة الحياء». يجلد الكاتب بقوة أصحاب الألقاب الثقافية المدعاة في نص «إخوان شكوكو»، تحت مسمى «شاعر، روائي، مسرحي، قاص، ...» لمجرد نص يُنتسب زورًا وبهتانًا للإبداع، وهو منه بريء؛ فليس «كل من أنشد بيتًا من الشعر فهو شاعر، وكل من كتب قصة من القصص فهو قاص، وكل من ألف فصلًا من رواية فهو روائي، وكل من خط مشهدًا من مسرحية فهو مسرحي». وليس من الصعب معرفة هؤلاء المدعين، فهم «يتعربشون سلالم الشهرة، قصارى أمانيهم أن يعللوها بتنظير هنا وهناك، عما يعلمون ولا يعلمون، من يراهم ظن أنهم وضعوا لغة الجاحظ في جيبهم اليمنى، وفلسفة الغزالي في جيبهم اليسرى، ... فهم يتسلقون مؤتمرات الشهادات الإبداعية، ويتصدرون صدور الصفحات الثقافية، وحفلات توقيع الكتب الموسمية، ومنصات تتويج الجوائز «إياها»، التي تمنح مرابعة، ومخامسة، ومسادسة، وهلم جرا.... أصحاب هذه الألقاب المجانية، غالبًا ما يضعون قبعات رمادية على رؤوسهم، ويرتدون بدلات مقلمة على طريقة طيب الذكر شكوكو، فيما تتدلى من أفواههم غلايين طويلة». في نص «اللغة الأربيزية»، ينتقد الكاتب بعض السطحيين الذين يخلطون لغتهم بكلمات ومصطلحات أجنبية؛ تظاهرًا بالحضارة والتقدم، يظنونها بإدارة الظهر للغة العربية الجميلة، ويقول: «هؤلاء الأربيزيون لو أصابوا من هذه الحضارة الغريبة نصيب، لقلنا عفا الله عنا وعنهم، ولكن لو سألت أحدهم عن مؤلف مسرحية هاملت، وعن صاحب النظرية النسبية، وعن الثورة الصناعية، وعن رائد مدرسة التحليل النفسي، ... لهزَّ رأسه كالأبله، فقد غمره جهله من رأسه حتى أخمص قدميه، لأن ثقافته الموسوعية لم تسعفه ولو بحرف واحد... إن هؤلاء عالة على ثقافتنا العربية الأصيلة، التي ستظل محفوظة في طوايا الصدور حتى يُنفخ في الصور». ويوجه سهامه نحو الخطباء في نص «أهل الخطابة»، خاصة ونحن أمة لا بد لها من خطبة في كل أمر ومناسبة، هذا دأبنا منذ قس بن سعادة إلى يومنا هذا، وليس هذا فحسب، بل طول الخطبة يزيد الطين بلة، ففي حين تكون خطب الأمم الأخرى قصيرة وغنية ومهمة، تكون خطبة العربي أطول من يوم القيامة «حيث ينبري خطيبنا العربي بعمامته البيضاء المدورة وعباءته المقصبة، المتبارون يجلسون أمامه بصمت يرزح على صدورهم، بزفيرهم المحموم، يرونه يعطس عطسة تلو أخرى، إثر نزلة برد حادة، حينها ستتنزل عليهم البهجات النازلات الهاميات وهم يرددون: لن يصمد طويلًا.... ولكن قد لا تصدقون، أن خطيبنا المفوه ظل يرغي ويزبد لسبعة ساعات متصلات، عن ملاحمنا الخالدات، وحروبنا العظيمات، ورماحنا الهاطلات، وفي قرارة نفسه كان يتمنى المزيد... المزيد!»... وكأن الخطيب العربي يجبر تخلفنا وخيباتنا وضعفنا وهواننا بالكلام الذي يجر بعضه بعضًا! يقارن الكاتب بين شعراء أيام زمان، وشعراء اليوم في نص «شهقة آخر القنافذ»، ففي حين كان شعراء أيام زمان معبرين عن آلام وأمال أقوامهم، فيكرمون ويُحتفل بهم، أما شعراء اليوم، فإن أكثرهم، «يغمضون عيونهم، ويصمون آذانهم، ويديرون ظهورهم، ...، عن آمال الآمة وآلامها، فها هي أمتنا تذبح على مرمى عيوننا من الوريد إلى الوريد، فأوطان سلبت، وأعراض هتكت، وأموال نهبت، وشعراؤنا ما زالوا منغمسين إلى آذانهم في قصائدهم التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فما أشبهها بالرموز الإغريقية التي لا يفهم منها شيئًا، كأن من يقرأها بحاجة إلى ألف ترجمان، لا إلى عقل وقلب ولسان». يتناول الكاتب قضية مؤرقة للكُتَّاب في نص «الكتب والجرذان»، في مفارقة عجيبة خارج أي منطق، ففي دور النشر العربية، يتحمل الكاتب كلفة طباعة ونشر كتابه، ولا يحصل إلا على عدد محدود من النسخ، أي أن الكاتب يجب أن يدفع لينشر له، وهذا عجيب غريب، فصاحب كل إنتاج يحصل على مردود تجاري وربح أيضًا، حتى لو كان ما ينتجه إبرة أو مسمارًا، إلا الكاتب، فهو يكتب ويتعب ويجتهد ويسهر ويراجع، وكل ذلك لا يعفيه من الدفع أيضًا، وتكون الكعكة من نصيب الناشر. يسرد الكاتب تجربته مع أحد الناشرين، ويختمها بلقطة ساخرة ولاذعة: «وأنا أخرج من دار نشره المرموقة جدًا، لمحت سربًا طويلًا من الجرذان الرمادية، يتواثب إلى الدار بحثًا عن وجبة كتب أخرى!». في نص «ترقية»، ينتقد أحدهم ظاهرة النصب التي استشرت في جميع مناحي المجتمع، وبصفته باحثًا أكاديميًا، وأستاذًا جامعيًا، استعان بفريق من الباحثين الشباب لدراسة هذه الظاهرة، فقاموا بكل ما يلزم حسب الأصول العلمية، وأجروا المقابلات، واستعانوا بالمراجع المعتمدة، ولأن ترقيته طال انتظارها كما يقول: «لم يدع هذه الفرصة السانحة تفلت مني، حيث قمت على وجه العجلة بإرسال دراساتهم بالبريد الإلكتروني إلى العديد من المجلات العالمية المحكمة، في أمريكا واليابان وهولندا، ولكن دون أن أنشرها بأسمائهم أو أكافئهم على جهودهم ولو بقرش واحد!». ... وهذه الظاهرة معروفة في الأوساط الجامعية، وما هو أكبر منها، حيث يعتمد بعضهم على جهود طلبته لنشر الأوراق البحثية لغايات الترقية والظهور الأكاديمي الكاذب. في نص «حذاء المتنبي»، يؤدي اكتشاف أثري «متخيل» لحذاء المتنبي ذي الصناعة الإفرنجية، إلى موجة عارمة من الاتهامات والتشكيك وتحول الأمر إلى دخول الأحزاب في الصراع الذي تحول إلى صراع فكري ومن ثم سياسي، وبعد ذلك إلى قتال دموي. هذه القضية، إشارة إلى انعدام الثقة بالهوية، وأنها ما تزال مهتزة، كما تشير إلى تأثير الأمور الهامشية على القضايا المصيرية، وأنها تتحول إلى كرة ثلج تشغل الجميع عن الأولويات، دلالة على السطحية وانعدام الوعي والعبثية أيضًا. يشير في نص «المداحون»، إلى صنعة المدح التي ابتلي بها العربي من قبل أن يمدح البحتري سيده المتوكل، والمتنبي سيف الدولة، ولكن هؤلاء في العصور السابقة، كانوا يمدحون السادة الكبار، أما اليوم، فقد تسابق المداحون لمدح كل ذي شأن؛ طمعًا في منصب أو غنيمة، ويقول: «ألا ترى إلى بعض المداحين كيف تسنموا أعلى المناصب الوظيفية في الدولة، وصاروا من سادة الأمر والنهي، ليس بما يملكون من علم وافر وجهد مثابر، وإنما بما يملكونه من صنعة المديح، فتبًا لها من صنعة، حيث تجعل الأعمى بصيرًا، والقرد غزالًا، والأصم سامعًا، والأخرس متكلمًا، والقزم عملاقًا، والصفر صقرًا». وفي «منمنمات ساخرة» يورد بعض النصوص الساخرة الأشبه بسياط لاسعة، منها: «أكثر الكتب مبيعًا في عالمنا العربي، هي التي تتحدث عن فنون الطهي، وفنون غرف النوم أيضًا». «حين خرج المتنبي من قبره، ورأى أننا لسنا أمة الليل والخيل والبيداء تعرفنا، تقدم بطلب لجوء سياسي إلى «جزر المالديف»!». «من أكثر الكتب رواجًا في فترة الانتخابات، كتاب الأحكام البينات في شراء الأصوات، وكتاب بغية الطالب في غسل دماغ الناخب، وأخيرًا كتاب الدعاء المستجاب في الوصول إلى قبة مجلس النواب!». ويختم الكتاب بعبارة «على هذه الأرض ما يستحق الرثاء» في تناص مع محمود درويش بقوله «على هذه الأرض ما يستحق الحياة». وبعد؛؛؛ فقد يكون فيما أوردناه من نصوص قسوة على الثقافة والمثقفين، ولكنه الواقع المر، وحقيقة لا يمكن نكرانها، ومن الضروري قصف هؤلاء وجلدهم وسلخهم إن لزم الأمر، لأنهم –من المفترض- أن يكونوا قادة الوعي والتنوير، وإذا طالهم الفساد والخراب، فعلى الأمة السلام، و«أبشر بطول سلامة يا مربع»! والجدير بالذكر أن الكاتب حسام الرشيد أصدر بالإضافة إلى «الصعاليك الجدد»، ثلاث روايات: «الملائكة لا تمشي على الأرض»، «طريد الرمم»، «التميمة السوداء»، وأربع مجموعات قصصية : «رأس كليب»، «وليمة الجاحظ»، «جنازة المومياء»، «ذبابة على أنف هولاكو»، وديوان شعري «قمر في دورق». الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 17-07-2020 10:50 مساء
الزوار: 596 التعليقات: 0
|