د. إبراهيم خليل من المعروف أن القصة القصيرة من حيث هي فن أدبي تقوم على تخير الكاتب للحظة من حياة إحدى الشخصيات، وتركيز الضوء عليها دون النظر لما قبلها من لحظات، أو لما بعدها، مثلما هي الحال في الرواية. والهدف من تسليط الضوء على هذه اللحظة المتخيرة خلق الانطباع لدى القراء بأهميتها من جهة، وبما تسفر عنه من دلالات تنتقد واقع هذه الشخصية، أو تمجده إن كان فيه ما يستحق الثناء والتقريظ من جهة أخرى. يتذكر القارئ هذه الفكرة عن القصة القصيرة وهو يقرأ قصة (إذعان) الأولى في المجموعة الأخيرة لسمير برقاوي (دار البيروني، عمان: 2021) فقد استهلها بلقطة سردية لافتة للنظر، جاذبة للانتباه، يقول: « توقفت المدرِّسة عن الكتابة على اللوح، ونظرت خلفها صوب المقاعد، فشاهدت مقعده فارغا .. « ص11 يستدعي هذا الاستهلال أن يعرفنا الراوي بمن يعود عليه الضمير في كلمة مقعده. أي أن يدلي بشيء قليل أو كثير مما يتعلق بالتلميذ المتأخر، أو المتغيّب، الذي بدا للمدرّسة مقعده خاليا، مما يذكرها بالطبع بممارسات هذا التلميذ المتمرد الذي يؤثر اللهو بالمراجيح على حضور حصة الدرس، والاستماع للمعلمة. فتكتب عنه تقريرا قاسيًا تزعم فيه « أن الطفل الذي لم يتجاوز السابعة من عمره يمثل تهديدا مستقبليا للإذعان القومي. « (ص11) ومن هذه العبارة اختار المؤلف عنوان قصته (إذعان). ليستكشف القارئ أن المدرِّسة ترى في تمرد هذا الطفل الذي عوقب مرارًا، ولم يرتدع، شكلا من أشكال التحدي، وخطرا على الأمن القومي. ومع أن عددا من المسؤولين ذوي النظارات السود قدموا للمدرسة، واقتادوه إلى جهة مجهولة، جرى فيها تأديبه، واحتجازه، إلا أنه حين عاد للمدرسة، بعد شهرين، اكتشفت المدرّسة أنه لم يتغير قطعًا، وأنه ما يزال على تمرده، وقلما ينتبه لها، فقد يغويه مشهد عصفور على الإفريز منتشيا بشمس الصباح أكثر مما يشغله، ويغريه، الاستماع لتلك المدرّسة(ص13) ، التي لا تفتأ تضرب ساقها بتلك العصا ضرباتٍ تنم على ما تشعر به من انفعال وتوتر. فلو أن القارئ تساءل عن مصير هذا الفتى بعد هذه الخاتمة القصيرة التي لا تنطوي على نهاية محددة لما وجد في النص إشارة لذلك. لكنه سيتسلم منها رسالة واضحة، وهي أن بعض المدرسين أو المدرسات لا يعاملون التلاميذ بقسوة فحسب، بل بنوع من الإكراه، فإذا لم يكن التلميذ مطيعا طاعة عمياء، فهو خطير، ويمثل تهديدا للإذعان القومي. أما الجهات التي نيطت بها مهمة الإشراف على التعليم فلسفةً ، وإدارة، فتأخذ بهذا المعيار في التربية، وتحظر على الأطفال التمتُّع بأدنى درجة من الحرية . فالمشهد الذي قام به المسؤولون بجرجرة الطفل وإخراجه من الفصل بالقوة مشهد أشاع الذعر والرعب في قلوب الأطفال الآخرين(ص12) ، وكأنهم يقولون لهم» هذه هي عاقبة كل من يفكر في أن يكون حرا. فالتعلم يكون بالإكراه، لا طوعا ولا حبا بالعلم، والمعرفة . « على أن من طبائع النص السردي – قصة كان، أو رواية، أو مسرحية – أن يتضمن تدليلا مزدوجا، وتفسيرا متضاربا في بعض الأحيان. فالكاتب يسعى لتمرير فكرة معينة قد تصل للقارئ بيسر ، وفي الوقت ذاته يمرّرُ النص نفسُه فكرة أخرى لم تخطر للمؤلف ببال. وذلك لأن النص- مثلما يقال- حمال أوجه، ومتعدد الاحتمالات. والجائز- وفقا لهذه الخاصية من خصائص النصوص – أن يتلقى القارئ من القصة (إذعان) أن الراوي يحظر على المربين معاقبة التلاميذ إذا أهملوا واجباتهم، وصرفهم اللهوُ عن متابعة الدروس. وأن ردع التلاميذ وزجرهم عن اللهو والتشاغل بما يعيق الانتباه العميق، والجاد، للدروس في مرحلة مبكرة من مراحل التعلم، شيء يشبه القمعَ، والتسلط، ولا يختلف عن الاستبداد السياسي إلا في أنه يجري في غرف التدريس. وهذا بطبيعة الحال رأي يمكن أن يتسرب من خلال النص لبعض القراء، فيقفون منه موقف الرافض لما فيه، مع أن المؤلف لم يرُم إيضاح هذا الانطباع، أو الترويج لهذه الفكرة. وحسبه أنه نسج حكاية هذا الطفل بأسلوب يسمح لفئات من القراء أن تتأوله هذا التأويل، أو ذاك، تأويلا ينسجم مع علاقة المؤول باللغة وبالقراءة السردية المنجزة. فالقصة، كغيرها من الفنون الأدبية، لا تعدو كونها مشروعا يكتمل بالقراءة المنجزة. وهذا الخطاب المزدوج يغيَّب تماما عن قصة أخرى هي (المرآة) التي تقدم لنا سلسلة من اللحظات – هي في الواقع لحظة واحدة متكررة- من حياة أحد الشخوص يمكننا أن نصفه بعبارة واحدة لا أكثر « محدث نعمة «. ومحدثو النعمة في الغالب لا يتصفون بمثل ما يتصف به المنعمون بالوراثة، الذين يسميهم الراوي علية القوم بكسر العين وتسكين اللام(ص15). فكأنه نصابٌ، أو أيّ شيء من هذا القبيل، استطاع بالكذب والنفاق أن يثري. لكنه مع ثرائه الفاحش هذا لا يستطيع الاتسجام او الاندماج بتلك الطبقة (علية القوم) ولهذا دأب كلما وجد نفسه في لحظة صدق، ونظر في المرآة، شاهد وجها بشعا وقذرا منافقا، لذلك يسأل نفسه ساخرا: هل أنت راض عن نفسك؟ ولأن الجواب المتكرر: لا.. غير راضٍ.. فقد اعتاد أن يختتم هذا المشهد اليومي كل صباح بالبصق على وجهه في المرآة. وكأنه يعاقب نفسه. وتلك اللحظات تبدو لنا لحظة واحدة متكررة إلا اللحظة التي تستوقفنا في القصة، إذ يبدو الأمر مختلفا، فبدلا من أنْ يبصق على الوجه الذي يتراءى له في المرآة، وجد صورته هي التي لا ترضى عنه، وهي التي تقذفه بالبصاق في وجهه « مد يده تجاه وجهه ماسحًا البصاق الدبق، ولاحظ حينها طيف ابتسامة ساخرة على الوجه الذي يطلُّ من المرآة.(ص16) « ولا ريب في أنَّ دلالة هذا المشهد الغرائبي على هذه الشخصية من حيث أنها تعاني من الانفصال عن الواقع، إذ تتخيل نفسها شخصيتين لا واحدة. الثري الذي لا يستطيع التأقلم مع علية القوم، ولهذا يشعر بالصغار والهوان، وأنه في الوقت نفسه شخص هامشي لا قيمة له قطعا، والمال الذي كسبه بوسائل قذرة لم يجعل منه إنسانا ذا أهمية. وفي المقابل هو الشخص المدان أخلاقيا حتى في نظرهِ هو. فالمرآة وهي سطح صقيل لا حياة فيه ولا روح تؤكد له كل صباح ما يتصف به من دناءة النفس، وسوء الخلق. وأن البصق في وجهه لا يكفي للدلالة على ما يتصف به من حقارة. وتبعا لذلك فإن البرقاوي باختياره هذه اللحظة التي ينظر فيها محدث النعمة للمرآة، ورؤية الوجه على تلك الهيئة من التشويه، نجح في توصيل الفكرة التي يريدها للقارئ من غير أن يدع للمجريات أن توحي برسائل أخرى تذكرنا بالوجوه المتعددة للنص القصصي. في (الدميم) يعيد الكاتب البرقاوي النظر في ما يعتقده كثير من الناس، وهو عدم الاهتمام بالشكل، فنجدهم يقولون: المهم هو الجوهر، والشكل عرض زائلٌ، وعارية مسترجعة. لكن البطل في هذه القصة كان قد تعرض لحادث ترك تشوهات كبيرة في وجهه، ولم تفده عمليات التجميل على الرغم من كثرتها، ومن مهارة الأطباء الذين قاموا بإجرائها، وحرصهم الشديد على إزالت التشويه. فما عسى أن يفعل من مُنيَ بهذا. قرر المسكين اتخاذ بسطة متحركة لبيع الحلوى في موقع مناسب من السوق. ولم يمض وقت طويل حتى أيقن أن الزبائن يزورّون عنه، وعن بضاعته، على الرغم من أنها في غاية الجودة، لأنهم ببساطة لا يرتاحون لرؤية وجهه. والدليل على هذا أنه حين يتغيّب عنها لحاجةٍ ما موصيًا عليها أحد الجيران من أصحاب الدكاكين ، فإن الزبائن يتقاطرون على بضاعته زرافاتٍ ووحدانا، فوقر في ذهنه أنه لكي تروج بضاعته عليه أن يتوارى(ص18). وفي المشهد الذي يضمّ الرجل نفسه وابنته الصغرى وزوجته الضريرة ما يلقي بالموعظة الحسنة التي تقوم عليها هذه القصة. فقد تبين أن الرجل تزوج من ضريرة كي لا ترى وجهه(ص19) ، ومع ذلك، لا يفتأ يواصل الرقص. فالشكل لا أهمية له ولا قيمة وهو عرض زائل. وقد لقنته هذا الدرس ابنته التي لا تتقن لفظ الأحرف. أي أن الطفلة التي لا تفرق بين السين والصاد تدعو كلا من الأم والأب للرقص، كونها تدرك إدراكا جيدا أن السعادة شيءٌ يمكن أن نجده في نفوسنا حتى وإن كنا نعاني من تشوّه؛ فالأم الضريرة، والأب الدميم، والابنة الصغرى، يرقصون ويحلقون في فرح. واللافت أن قصة شارب الجنرال(ص59) قصة تختلف عن سائر القصص بما فيها من سخرية كوميدية متعمدة، لأن السخرية عند الكاتب توجه النقد لواقعنا بطريقة غير مباشرة دون أن تؤدي لإزعاج الرقيب. فوليد القاسمي يقضي نحبه لسبب بسيط وهو أنه حلق شاربه. وعندما سئل عن السبب ادعى أن فقدان الرجولة على المستوى العام يتطلب أن يكون الرجال بلا شوارب، أو بلا لحى(ص61). وبعد أن شاعت عنه مثل هذه الإجابة اتهم بقيادة تنظيم غايته القضاء على النظام، والسيطرة على الحكم. وأن التنظيم الوهمي هو تنظيم حليقي الشوارب(ص71). وكم تعرض للإهانات والتعذيب والتفتيش المفاجئ بسبب خطأ في حلاقة ذقنه, ولم يسر في جنازته إلا القليل؛ زوجته، وأولاده. أما الزوحة فكانت تتساءل لحظة الدفن: كيف يقود تنظيما لإسقاط النظام، وكل ما في الأمر أنه حلق شاربه بالخطأ. ومثل هذه القصة بما تنطوي عليه من سخرية لاذعة تشبه حكاية، أو رسما كاريكاتيريا، خطوطه الأخطاءُ، وظلاله الاعتذار عنها، وعن المجريات التي تقسو فيها السلطة على من تظن أنهم يسخرون. يطول بنا الأمر كثيرًا إذا نحن وقفنا مثل هذه الوقفات عند كل قصة من قصص شارب الجنرال. فعوالم سمير برقاوي لا تخلو من إضاءاتٍ يلقي بها على تشوهات نفسيّة، وخَلْقيّة، تملأ حياة الشخوص الذين يقع عليهم اختياره. ومن تلك الانكسارات والانهيارات يصوغ البرقاوي عوالم شخصيّاته بما فيها من تفاصيل صغيرة، وإحباطات كبيرة.