د. إبراهيم خليل يُعدُّ تناول السمرة لحياة القاضي الجرجاني (392هـ)، ومذهبه في النقد، مأثرة من مآثره التي يجدر بالدراسين التنويه إليها، والإشادة بها. فقد عرض في أربع فِصَل من الفصل الأول من الكتاب الموسوم بعنوان « القاضي الجرجاني الأديب الناقد « لعصر الجرجاني، وما شهده من أوضاع غير طبيعية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. فمن الناحية السياسية أسْفَر تتبعه الدقيق لأحوال الخلافة عن نتيجة حاسمة؛ وهي أن هذا العصر يختلف عما سبقه بشيوع الاستبداد البويهي، فقد طغى الأمراء على الخلافة، فكانوا يعيّنون الخليفة ويخلعونه متى شاءوا، والأمثلة على ذلك كثيرة مشهورة. ومن الناحية الاقتصادية، شهدت البلاد خرابا وفقرًا عانت منه العامة، فيما كان الأمراء يكنزون الذهب والفضة، ويبتنون القصور الفاخرة التي يحتوي الواحد منها على 365 غرفة بعدد أيام السنة كي لا يكرر الأمير المبيت في الغرفة. ومن النواحي الاجتماعية، تنمُّ الاقتباسات التي تتبَّعها الراحل في المصادر التاريخية، والثقافية، ككتاب الخراج لابن قتيبة، وأحسن التقاسيم للمقدِّسي، وتحفة الأمراء للصابي، والكامل لابن الأثير، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، وغيرها.. على تفكك الحياة الاجتماعية، وعلى الرغم من ذلك، شهد هذا العصر- وهو القرن الرابع الهجري - الكثير من الإنجاز الإبداعي في العلوم والآداب بما لا يتناسب مع الوضْع السلبي الذي أشرنا له، ونبَّهنا عليه. ويعلل الراحل هذا مشيرًا لأسباب؛ أولها أن ما ترجمه العرب في السابق من تراث الإغريق، والفرس، والهنود، وغيرهم.. آتى ثماره في هذا القرن، وتجاوز العلماءُ، والكتابُ، مرحلة الترجمة والاقتباس والتلمذة إلى مرحلة جديدة طابعها الإضافة، والإبداع. وسببٌ آخر، وهو ظهور حواضر تنافس بغداد على احتضان الفنانين والكتاب، والشعراء، ورجالات العلم، والأدب؛ كشيراز، والرَيّ، وحلَبَ، والفسطاط في مصر، وقرطبة في الأندلس. وقد تنافس أمراءُ هذه الحواضر على اجتذاب الأدباء، والشعراء خاصّة، وإكرامهم بالجوائز السنية، والأعطيات المُجْزية البهية، مما كان له أثره المحمود في الحياة الأدبية. وقد أورد الراحل عناوين الكثير من الكتب التي ظهرت في هذا القرن من حيث أنها شواهد على صدق ما يقال عن الثراء الأدبي والثقافي. على أنّ هذا الثراء، والغِنى الأدبيّ، لا ينفي أن الأدب عانى – ولا سيما النثر منه - من هيمنة النزعة اللفظية، الزخرفية، ولذلك أسبابه. فميل النخبة إلى الترف، والتأنق في المأكل، والملبس، والمشرب، وفي جل جوانب الحياة، حتَّم على الكتّاب التأنُّق، وتوخي الزخرف البلاغي، والبديعي، لإرضاء الأذواق، وقد تحدث الراحل عن مستويَيْن للأدب، أحدهما شعبي، وهو الأدب المترسِّل، البعيد عن الزُخْرف، وذلك ما لم يحفل به النقاد، ومؤلفو المختارات، وكتب التراجم. وأدب النخبة، وخير من يمثله في النثر بديع الزمان الهمذاني(395هـ) وأما الشعر، فقد استعصى على هذه القِسْمة، فمن الشعراء الذين برَزوا في هذه الحقبة، وظفِروا بعناية النقدة، أبو الطيب المتنبي(354هـ)، وغيرُه، ممن التقوا على غير تواطؤ، أو تدبير، في بلاط سيف الدولة بحلب. وهذا الأمر هو مدار البحث في الفِصلة الرابعة الموسومة بعنوان « الحياة النقدية «. الزمان والمكان والواقع أنَّ من ينظر في مخطَّط هذه الدراسة يستثيره ما فيها من حرص شديد على وضع القارئ في أجواء الزمان والمكان اللذين عاش فيهما القاضي الجرجاني، وصنّف كتابه « الوساطة «. فقد ذكر المؤلف، رحمه الله، الكثير من الشواهد التي تُلقي الضوءَ على الحياة الشعرية في البلاط، والسِجالاتِ التي انخرطَ فيها شعراءُ ولغويون منافسون لأبي الطيّب، أو معجبون به، متعاطفون معه، ومع شعره. وقد أنتجت هاتيك المناكفات الكثير من المصنفات التي يستقصي بعضُها عيوبَ الشاعر، وسرقاتِه، وبعضها يحاول إنصافه، والذوْدَ عنه، مؤكدًا أصالته، وتفوُّقه على أقرانه، ونظرائه. وفي هذه الفِصلة من الكتاب يعرضُ السمرة – رحمة الله عليه- كلا من: الرسالة الحاتمية، والرسالة الموَضِّحة، وكلتاهما للحاتمي 388هـ وكتاب» المنصف للسارق والمسروق « لابن وكيع التنيسي(393هـ)، وكتاب الكشْف عن مساوئ المتنبي للعميدي (433هـ) والواقعُ أن هذا التَطْواف في ما كُتب عن المتنبي، المخطوط منه والمطبوع، ضرورةٌ لا غنى عنها، وتوطئة ذكية لما يتضمنه الكتاب تاليًا من مواقف نقدية متوازنة، ومحايدة، توقف عندها الجرجاني في «الوساطة «، الذي هو واسطة العقد لدى المرحوم السمرة. فقد جاء تأليفه بعد جُلِّ هاتيك المؤلفات خلا كتاب العميدي، هذا من جهة، ولأن مؤلفه، من جهة أخرى، قاضٍ ينظرُ لشعر المتنبي بعين العدل، والإنصاف، لا بعين التحامل، والإجْحاف. ولعل في وقوفه مطولا عند حياة القاضي، وترجمته، التي قلَّتْ عناية القدماء بها، إشاراتٍ عدة لما يؤهلُ هذا الناقد لأداء الدور الذي نذر نفسه لأدائه، وهو دور المنافح عن الأدب الرفيع، الميال إلى النقد النزيه البعيد عن التحيُّز الوضيع. فقد كان في حياته ذوَّاقة للغناء، والطرب، والشراب، غزلا في شعره، مترفعًا عن التكسُّب، وعن التذلل لذوي السلطان من أمراء، وَوُزراء، وغيرهم، ممن يُغدقون المال على صغار الشعراء، والمتأدبين. فكان متعفِّفًا عُرف عنه ذلك، وإلى هذا يشير في قوله شعرًا: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظمـــوه في النفوس لعُظمـــــــا ولكن أهانــوه، فهانوا، ودنَّســــــوا، محيّــــاهُ بالأطمـــــــــــــــاع حتى تجهّــــَما وعلى الرغم من أنَّ هذا الفصل تجشَّم فيه المؤلف الراحل الكثير من الجهد، والعناء، فجمَعَ ما تناثر من أخباره في أمّات الكتب، وصاغَ منها ما يُعد سيرة للجرجاني، لا تخلو من فوائد جمَّة، إلا أن الغاية من الكتاب لا تقتضي بالضرورة وجود مثل هذه السيرة، وهذا ما دأبَ عليه مؤرّخو النقد، فها هو إحسان عباس يتناول بالذكر أعمال الكثير من النقاد في كتابه تاريخ النقد الأدبي عند العَرب، ولم يترجم لأي منهم انطلاقًا من أنَّ النقد الأدبي علمٌ موضوعي، وليس أدبا ذاتيًا تتجلى فيه ملامح من شخصية الناقد مثلما هو الشأن في الشعر، الذي يتطلبُ الخوضُ فيه معرفة كلية، أو جزئيَّة، بالشاعر. فلو أنَّ الجرجاني لم يكن قاضيًا، وهو صاحبُ ذلك الشعر والنثر، فهل سيتغير موقفه النقدي من شعر المتنبي، والاختصام فيه، لا نظن! النظريِّة النقدية ويتناول الدكتور السَمْرة في الفصل الثالث من الكتاب النظرية النقدية لدى الجرجاني، خلافًا لما هو سائد عن افتقار التراث العربي لنظرية في النقد تتَّصف بالحد الأدنى من الترابط، والتماسُك، والاتساق. فالراحل الكبير يحاول أن يستخرج من الوساطة ما يعده – من باب التسامُح- نظرية، وبصفة خاصة من المرتكزات التي أوضحها القاضي الجرجاني في مقدمة كتابه من ص ا – 48 ومن هذه المرتكزات ألا يكون تقويم الشعر خاضعًا للاعتبارات الزمنية، فليست جودَةُ الشعر مقصورةً على القديم مثلما هي ليست مقصورة على الحديث. وإنما المعيار الحاسم في تقويم الشعر هو ما فيه من دلالاتٍ على الطبع، والبعد عن التكلف، والتصنع، وقرب التناول، وسهولة المأخذ، فالصنعة تهَجِّن الشعر، واللبْسَ يعيق التلقي، وركاكة اللغة تحول بين النظْم والتطْريب. والنقدُ عند القاضي يعتمدُ على ركيزة أخرى هي الذوق، فالذين تصدوا لنقد الشعر، وهم يفتقرون إلى الذوق المرهف، أساءوا إلى الشعر، وأساءوا إلى النقد، لذا يجيز الجرجاني كغيره من النقَدَة ألا يفسر الناقد أحكامه بالضرورة، فأنتَ ترى الصورة، وما فيها من شرائط الاستحسان، ثم إنك لا تعلم، وإن قاسيتَ، وفكرتَ، ونظرتَ، لهذه المزيّة سببًا، إلا أنَّ هذه الصورة لها في القلب مواضعُ لُطف.» وهذا القولُ- في رأي أستاذنا - يثْبت أن الجرجاني لا يُقصي الذوق بصفته أداة من أدوات الناقد. وعلاوة على ما سبق لا يَشْترط في الناقد أنْ يكون شاعرًا تماشيًا مع القول المأثور الذي يحتج به بعضهم، وهو (لا يعرف الشوق إلا من يكابده * ولا الصبابة إلا من يعانيها) ففي رأيه قد يفْضُلُ الناقِدُ الشاعر الناقدَ غير الشاعر، إلا أنه لم يُشر في كتابه للشعراء النقاد إلا قليلا. وتفسير أستاذنا لذلك أنَّ القاضي أدرك بموهبته، وزكانته، ونفاذ بصيرته، أن الإجادة في ميدان النقد تختلفُ عن الإجادة في ميْدان الإبداع، والنظم. فقد يكون الشاعر متفوِّقا في شِعْره، عاجزًا عن نقده، وعن نقْدِ أشعار غيره. علاوة على هذا، يضيف أستاذنا إلى ما سبق إلحاحَ القاضي على خطأ الاعتقاد بأنَّ علماءَ اللغة من أمثال الأصمعي، والمبرد، وغيرهما، مؤهلون للحكم على الشعر حكمًا جيدأ. ولا يسوغ أن يعتمد الحكم على الشعر على معايير، وقيَم، غير شعريّة، كالاعتماد على الدين، أو الأخلاق. فإنْ كانت بعض أبيات المتنبي تنمُّ على وهَن العقيدة، فذلك لا ينبغي له أن يكون سببًا للحَطِّ من قَدْره. فالشعرُ يُنقدُ بمعزل عن الدين، وعن الأخلاق. وهذا الرأيُ الصادرُ عن قاضٍ، شغل في طور من أطواره منصب قاضي القضاة، رأيٌ ينم على جرأة، يقول « وليست الفحاشة في المعنى مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب رداءَته لذاته « وتقوم نظريته على بعد آخر يصفه أستاذنا بالموضوعية. وقد أراد بذلك ما أراده الغربيون في حديثهم عن النقد المحايد؛ فالحيادُ - ها هنا - يشمل استبعاد الميْل، والهوى، واستبعاد التحامل الشخصي، واستبعاد التحيُّز لمذهبٍ، أو فكرةٍ، أوعقيدة، فالناقدُ، عند الجرجاني، وسيطٌ بين الشاعر الناظم والمتلقين، سواء أكانوا من النقدة، أو من المتذوِّقين. فالحكم على الشعر استنابة لما يغلبُ على النفس، وهو في موقفه هذا متأثر، بلا ريب، بما عرف عنه، واتَّصف به، من عدْل في قضائه، يقول: « واعلم أنني رسولٌ مبلّغٌ، وسامعٌ مؤدٍّ، وكما أناظرك أناظر عنكَ، وكما أخاصمُك أخاصمُ لك، ولا أبرِّئ نفسي من غفلة، ولا أدعي السلامة من خطأ، والمدعي أشَدُّ اهتمامًا بما يُحقّقُ دعواهُ من المتوسِّط، وعناية الخصم بشهوده أتمُّ من عناية الحاكِم «. يضافُ إلى ذلك تأكيده أن الشعر مَصدرهُ الوجدان، وليس الفلسفة، التي هي نشاط عقليٌ، لا وجداني. فالفلسفة عند القاضي تهجِّن الشعْر، وتفسده. وشيء آخر هو الغلوّ، فالقاضي الجرجاني لم يعترض على المبالغة في الشعر، بيد أنه يلح على ضرورة الاعتدال في ذلك، فالإفراط، والغلوُّ، يَعْدلان بالنظم إلى الانتقاص والذم، بدلا من الاستجادة، والاستحْسان. وهو – أي القاضي- يعد الغلوَّ من عيوب الشعر، ويُؤثر التوسُّط، والاجتزاء بما قَرُبَ وعُرف، والاقتصار منه على ما ظهَر وَوَضح. ولا يحبِّذ الغموض، والإيغال فيه، وإن وجدناهُ يدافع عن بعض غموض المتنبي. ويعرضُ، في نقده، لركيزة أخرى، يمكن عزْوُها إلى محاسن التوليف، كجودة المطلع، وحسن التخلص، والانتقال السلس من غرض لآخر، وأن تنتهي القصيدةُ بما يشبه الخاتمة في الرسائل، فهي التي تعْلقُ بالذهن،
وتدوم في ذاكرة المتلقي. وقد اختتم أستاذنا ما استخرجه من ركائز النظريَّة بالكلام على السَرَقِ في الشعر. السرقات وكعادته، لا يفتأ يضعُ القارئ في المناخ المواتي لفهم الموضوع. فما السرَقُ في الشعر؟ وما قضيته؟ ومن هم الذين ألفوا في السرقات؟ وما هي أنواع السرقة؟ ما المقبول منها وما المرفوض؟ وما المصطلحات التي أطْلقتْ على هذا وذاك؟ لذا يتتبع المرحوم هذه الظاهرة مبتدئا بابن سلام، منتهيًا بالقاضي، وما جاء به من حديث عنها في « الوساطة « فالقاضي يؤكد أن السرقة في الشعر بابٌ لا ينهضُ به إلا الناقدُ البصير، والعالم المبرِّز الخبير. وهي داءٌ قديمٌ، وعيب عتيق. وفرَّق بين المعاني المشتركة كاستحسان القمر، أوالشمس، أو استجادة الغيث، أو نعت السيف بالمضاء، وبأنه صارم قاطع، وغيرها من المبتكر، فالمشترك، وإن تكرر، لا يعد من السَرَق. علاوة على أنَّ المعاني المخترعة كتشبيه الفتاة بالظبي، أو الطلل بالكتاب المنمَّق، التي جعل التداولُ منها معانيَ عامة، لا يعد تكريرُها من السرقة في شيء. ولا تكون السرقة جديرةً بالثلْبِ، خليقة بالذم، إلا إذا كانت في المعنى المبتكر الذي لم يَشعْ. وفي هذا الباب للقاضي رأيٌ آخر، فإذا أخذ الشاعر أحد هذه المعاني المبتكرة، والنادرة، ثم زاد عليه زيادة تضيف إليه مزيةً لم تكنْ فيه، كان مثالُ هذه السرقة مستحسنًا، وقد استوفى أستاذنا السمرة الأمثلة على هذا الضرب مما فيه زيادة، أو اختصارٌ، أو قلبٌ، أو نقلٌ، مما لا يستحق أن يسمى سرقة، بل هو إلى الإبداع أقرَب، وبالاختراع أحْرى وأنسب. فالقاضي الجرْجاني، لمنْ يقرأ هذا الكتابَ، ناقدٌ من القرن الرابع، ذو نظر ثاقبٍ في الشعر، يقوم على ركائز منها ما يتعلق بالأصالة، ومنها ما يتعلق بالتوليف، والترتيب النسقي، ومنها ما يتعلق بالحياد، والانصراف عن النقد المَذْهبي، وعن المعيار الديني والأخلاقي، والاكتفاء بالمعيار الفني، أي: الشكلي، ومنها ما يختصّ بصدْق الشاعر، وبعده عن الغلوّ الذي لا يتواءم مع الصدق الفني. ولا تفوتنا الإشارة هاهنا إلى نهْج الراحل المتميز في نظره للنقد القديم نظرة قائمة على الانتفاع بما لديه من الاطلاع على النقد الغربي، فهو لا يفتأ يوازنُ بين آراء الجرجاني وبعض آراء النقاد الغربيين من أمثال: إليوت، وريتشاردز، وهربرت ريد، ولاسال أبركرومبي، فضلا عن أنه يسلط على نقدنا القديم أضواءَ جديدة – مما يعود على الدارسين لهذا التراث بفوائد منهجيَّة تجعل من الكتاب قدوة تقتدى، وطريقة في البحث حريةً أنْ تُقلدَ وتحتَذى.
الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 22-02-2019 09:28 مساء
الزوار: 1305 التعليقات: 0