|
عرار:
. د. بهاء حسب الله/ أستاذ الأدب العربي بجامعة حلوان أقول دائمًا إن قراءة وجوه التحليل الأدبي للنصوص الشعرية، والتعامل معها من منطق الفن لا يمكن أن تمر إلا عبر مناهج المعرفة، وأقصد بمناهج المعرفة مناهج المعرفة بالشعر، التي بدأت تتراكم منذ تولت مقاربة بنيته اللغوية التعبيرية على أساس أنها لحمة واحدة، ونبذت فكرة البحث الأيديولوجي من مضمونه، التي كانت تدفع النقاد لاعتبار اللغة قشرة صلبة لا بد من طرحها جانبًا للوصول إلى اللب المثمر داخلها، فإن هذا التراكم قد يأخذ شكلَ نوعٍ من الإجماع النقدي على توصيف أسلوب شعري معين بخاصية جوهرية، مع اختلافهم في طريق التدليل عليها وربطها بمنظومة فكرية متماسكة، وهذا يعني أن الإبداع يقع تحت طائلة مسمى شامل يمكننا أن نصنفه بـ(استراتيجية الخطاب الإبداعي)، وهي الاستراتيجية التي تحكمها مجموعة البنيات التقنية المشكلة لما يتصل بأدبية النص، أو أدبية الأدب ذاته، لاعتبار أنها تحتضن ظواهر اللغة وما وراءها، مما يرتبط بأوضاع الخطاب واستراتيجياته، الأمر الذي يفتح منافذ جديدة، تستوعب أفق النص الشامل بكل تفاعلاته الحيوية، ويشير خصوصًا إلى عصبه الرئيس، الماثل في وجهته ومبتغاه، ذلك لأن تحديد هذه الوجهة يسمح لنا بالإدراك الصحيح لنسيج القول ووظيفته معًا، كما يبرز العناصر المهيمنة عليه ويفسر علاقاتها المختلفة. وهذه المقدمة كانت مهمة ونحن أمام ديوان (غزالة المجازات البعيدة للشاعر المبدع قيس القوقزة، وهو ديوان يمثل نصًا، أو أننا – على الأحرى – أمام نص يمثل ديوانًا، خاصة لقصيدته الأم – غزالة المجازات البعيدة – لماذا ؟ لأنني وكما أشرت بأننا ننظر إلى النص باعتباره بالدرجة الأولى جسدًا لغويا ذا آلية متميزة للدلالة،ومرهونًا بشروط التشكيل اللغوي التي تفرضها قواعد الأداء في النص،ولذا استطاع قيس القوقزة– وهو في الأصل مهندس – أن يجدد في فكر البنية النصية في هذا الديوان كما يجدد في رسوماته من زاويتي (الموضوع والفن) وكأنه بذلك قرر أن يختار الصعب، ويركب أهواله، بل ويصمم عليه، فالتجديد الذي اختاره هو تجديد يبعث على ظهور (الشخصية الشاعرة) بصورة فريدة وبازخة تتشابه كثيرًا مع الشخصية الراوئية وصناعتها وطبيعتها وتكويناتها؛ وصناعتها هنا مرهونة بدرجة من درجات الحكي والسرد والتداعي النصي والتفاعل معه على عتبة من عتبات الوعي . والحكي والسرد في هذا الديوان يشبه إلى حدٍ كبير الحكي الروائي، حينما يكون الراوي أو ما يسميه النقاد بـ(الرواي العليم) هو المتحكم في حركة النص الروائي من خارجه ومن داخله،وفي صناعة أحداثه وتفاعلاته وتشابكاته ووصولا إلى انفراجته وانحلال عقدته وانفكاكها، وهذا ما فعله الإبداع هاهنا، دفع بالذات الشاعرة إلى الظهور والسيطرة والتحكم في مجريات النص، وإظهار قدراته على مستوى بنية الموضوع وبنية الفن،واختلاق قصة تساير حركة النص إلى مرفقه الأخير، بل وتحفز اللغة للوصول إلى غايتها من أن تغدو مسكونة بالحركة والحيوية والنشاط والتجدد،وأن تتوجه مسارات السرد إلى مناطق حكائية ووصفية شديدة الخصوصية، ولذا تلمح الشخصية الشاعرة والمحركة لدفة الحكي في النص كله من مداخل أعماله ذاتها تعلن عن نفسها ... انظر لقوله في مدخل نصه (غزالة المجازات البعيدة) وهو النص الذي يعادل الديوان كله، الذي حرص فيه على أن يبنيه على وتيرة حكائية: على ضفة الساعات أطلقتُ موعدا وأغلقتُ في غيم المسافات مشهدًا أراد غراب الظل كشف خطيئتي فورايتُ سوءاتي وأخفيتُ ما بدا وأحرقـتُ قمصــان المســاء لأنها تراءت لوجهي في النهايات هدهدا تغيـَّــرَ شكــلُ الرِّيــح قرْبَ غزالــة فباغتها صوتٌ يصـارعُ في المدى فالراصد للنص يرى حركته وهي تموج بين تشكيلات ثلاثة مثلت عن حق الخط الاسترتيجي للبنية النصية عند قيس القوقزة، أولها بزوغ (الأنا الشعرية) على مساحة واسعة،وعلى نهجين متوازيين؛ إما عن طريق توظيف (فعل المُكاشفة) وهو دائمًا ما يأتي على بنية الفعل الماضي المُزيل بتاء الفاعل (أطلقتُ – أغلقتُ – واريتُ – أخفيتُ - أحرقتُ) أو علي صيغ الأسماء المرهونة بالدور الذي تلعبه ياء النسب (خطيئتي – وجهي – ظلي) وعلى نمطٍ جديد يستلهم فيه الإبداع دور الراوي في صناعة العمل الشعري بشكل تستشعر معه أنه راوٍ أصيل من حقه أن يحرك مسارات الحدث النصي، ومسارات اللغة في النص،وأن يتحكم فيها،وأن يكشف عن قدراته، حتى ولو كانت من زاوية المجاز،ثانيًا بَنى النص منذ مدخله على فكرة الحكي والقص وتوظيف لعبة (التناص الحدثي) كما يرد في قصة - الغراب والسوءة– وقد جاءت هنا مبكرة جدا، ومعنى اعتماده على التناص الحدثي من مطلع العمل، هو رغبته في أن يوجد لنفسه مساحة عبر انتهاكاته لتسلسل حركة الحكي في العمل ككل، والكشف عن قدراته على استغلال مساحات القفز في النص واستلهام روح القاص، ثالثا : وهذه نمطية غريبة في شعر قيس، وهو اعتماده من زاوية اللغة، و- لأنه حكاء - على (جملة الخبر)، فالنص بأكمله ومنذ مطلعه خبري بامتياز، والخبرية عنده هي خبرية يقينية حركية لا تقبل الشك أو الخلاف حتى ولو كانت من باب الخيال، أو هكذا يريد أن يقول بأننا أمام نصٍ يعانق حدود الصدق ولا يتجاوزه إلى حدود أخرى، ولذا انسابت معانيه في دائرة من دوائر الحركة الدرامية، وتنمية الحدث الشعري وتفعيله، ومحاولة اختلاق أبطال للحدث لاحظ هنا (الذات المتحدثة – الغراب – الغزالة) وجمها مفردات خيالية، عدا ذات المتكلم،وهو في ذلك كله إنما يستدعي غائبًا هو حاضر بفاعلية وتركيز، وأقصد به (المتلقي)، فحركة الدراما في النص تتحرك عبر خواص الحكي واختلاق الحدث الشعري من أجل الوصول إليه (المتلقي)، وتفعيل دوره كعنصر مشارك في صناعة الحدث، ومشارك كذلك في لغز إدراك (الدال أو الحقيقة)، بخاصة إذا كان الدال هنا ذا خلفية قد تكون رمزية أو اسطورية أو خيالية أو تراثية (الغراب / السوءة) وهو ما يقودنا في النهاية إلى لحظة المواجهة مع العمق النصي متمثلا في وحيه ومعناه ورمزيته، ومن هنا جاء دور التنامي النصي لمجموع الأحداث عبر قفزات جاءت حثيثة تتحرك بخطى واعية لا تستشعر معها فراغًا أو تدافعًا أو إشكالية أو تعقيد.. لاحظ معي كيف سار النص محكومًا بوعي الراوي أو القاص الشعري: تبعتُ خُطى ظلي على الماءِ صُدْفة ً وخادعتــُـهُ ... حين بــَدَا وتجسَّــدا فحين توحَّدنا، انقسمْنـا ببعضنـا وحين نكونُ اثنين، نصبحُ مُفردا وألقيـــتُ خيبــات المرَايــا لعــابرٍ فخبـــأها في رَحْلــهِ .... وتنهــدا وحاولتُ إغـــراءَ الغزالــةِ حالمًا فما عدتُ إلا خــاوي الكفِ مُجهدا والنص وهو تتجاذبه روح الرومانسية المجازية في شكل الحكاية بين البطل والغزالة، ثم ظهور شخصية (العابر) لتكتنز الأحداث بتنامي الشخصيات وأدوارها، إنما يشي بأنه رغم تصاعد (لعبة الحدث)، ورغم تماهي المد السردي وأنساقه عبر شفرات الخطاب، وعبر تلقائية النص وشفافيته، إلا أن النصية هنا تشعرك كثيرا بأن النص كله بدا كنبضة واحدة غلفتها مثيرات عدة، ومشاهد آسرة دفعت الإبداع إلى فكرة قنص الموقف والبناء عليه،والدوران في فلك التداعي الدرامي الذي يجذب بعضه بعضًا، ومد الموقف الدرامي بأسباب الحياة (فحين توحدنا انقسمنا ببعضنا... إلخ)، وتحويل مقومات العمل ككل ودفته من وحي دراما الحكي إلى منطقته الشعرية بطبيعة الحال، فقد حافظت لعبة الضمائر (تابعتُ – خادعتُ – توحدنا – انقسمنا – ألقيتُ – حاولتُ ... إلخ) على كثافة الحضور الشعري والأنا الحاضرة والتماسك النصي، وحافظت كذلك على سلاسة السرد وتبعيته، ونموه على سياقات الحكي بوعي مقصود ومستهدف يحسب للسارد الشعري أو الرواي الشعري بجلاء وكأننا أمام لوحة درامية تتكامل أجزاؤها عبر صيرورة الحكي بداية من مطلع العمل وحتى ختامه . الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الأحد 27-09-2020 09:12 مساء
الزوار: 941 التعليقات: 0
|