ولن أحياها إلا بها ..
زوجتى حبيبتى ..
رفيقة دربى ..
شريكة عمرى ..
اذكر نفسى كيف صرت لدى مرآها فى تلك السهرة الصاخبة فى منزل صديق المهجر بلندن...
(أبو عدى) ..
كانت برفقة خالتها وصديقة لها ..
كنت مدهوشاً ..
مأخوذاً ..
فلقد خلبت لبى منذ اللحظة الأولى ..
بشعرها الأسود الليلى المنسدل حول وجهها الشاحب النبيل ..
حواجبها الداكنة تكلل عينيها الفتينتين الخضراوتين كلون البرسيم قبل الحصاد ..
أنفها المستقيم فى شموخ ونبل آثر للقلوب ..
عنفها العاجى المندس فى كنزتها الصوفية طويلة العنق ..
جسدها الضئيل يمضى أمام نظرى دالفة للصالة حيث جلست ..
ولست ادرى لماذا لم اقوى على الكلام مع أحد ..
فى تلك الليلة لم آجرؤ على إبعاد نظرى عنها ..
لم أعى بشىء إلا بها ..
فلقد أسرت فؤادى من اللحظة الأولى ..
ليلتها طلبت منها زوجة مضيفنا أن تعزف لنا مقطوعة على البيانو .. وعرفت اسمها .. (نادين) .. فتوجهتإلى البيانو فى رشاقة الغزال لتجلس قبل أن تجرى أصابعها فوق أصابع البيانو ضاربة لحنا مسنى ..
ومس فؤادى ..
رفعت كأسى نحو شفتاى الجافة ..
كان شرابى قويا .. لكنى لم أشعر به ..
فلقد كان مرآها يسكرنى ..
وعند رحيلها رحل قلبى ..
ولدى خروجى سألت (أبو عدى)عنها ..
فأجابنى العراقى الحاذق ..
"- هذه ابنه صديقنا المرحوم (كاظم الملاح) .. الباحث السياسى السورى المعروف ."
رحمه الله ..
تلفعت بكوفيتى لأرحل ..
وليبتلعنى ظلام وضباب شوارع (لندن) الكئيبة ..
كانت تلك المرة التى همت بها ولها ..
وتصادفنا أن تقابلنا مجدداً فى أمسية
فى منزل السيدة (كاميليا بو عميرة) .. الشاعرة التونسية الرقيقة ..
وقتها كانت بصحبة صديقة لها ..
ولم أجرؤ على البوح بما لدى نحوها ..
كل ما فعلته هو أن أنحنيت نحوها مصافحاً إياها فى هدوء راسماً بسمتى الواثقة فوق وجهى الأسمر النحيل وأنا أقدم نفسى لها :-
"- أنا (عادل فوزى) .. كاتب مصرى .. ومحلل سياسى !! "
ابتسمت فى رقة هزت فؤادى وهى تضع كفها الرقيقة فى يدى مجيبة :-
"- (نادين الملاح) .. لاعبة بيانو سورية .. ولاجئة سياسية !! "
ابتسمت فبادلتنى الإبتسام ..
وصرنا منذ تلك الليلة معارف ..
فسرنا سوياً بعد العشاء ومعها صديقتها عبر دروب لندن كى أوصلها حيث تقطن ..
وتجاذبنا أطراف الحديث ..
وتجاذبنا أطراف الحديث ..
كانت منكمشة فى معطفها .. وشعرها يتماوج حول وجهها ..
احببتها ..
وعند باب منزلها وقفت لأودعها ..
فرأيتها ترفع كفها المندسة فى قفاز فرائى لتودعنى ..
ليلتها سرت فى الطرقات ..
درت حول الميادين ..
فلقد حيتنى ببسمة مشرقة قبل انصرافى ..
وأكثرت من لقاءاتنا ..
وعمقت من كلماتنا ..
من مشاعرى نحوها ..
كنت أدعوها للسير فى المنتزهات ..
فى الحدائق ..
فى المجمعات التجارية ..
علمت منها أنها تعيش برفقة خالتها بعد وفاة والديها اللذان لجئا سياسيا لبريطانيا هروباً من بطش نظام (حافظ الأسد) سابقاً ..
فلقد كانت هناك خلافات متبادلة بين والدها ونظام الأسد الدكتاتورى ..
وعندما استقر والديها فى (لندن) .. قام (الأسد) بإرسال من يصقيهما ..
لتحيا يتيمة بصحبة خالتها ..
حكت لى ذلك لتسيل دموعها ..
فرفعت إصبعى اسفل وجهها لى كى أنظر فى عينيها الغارقة فى دموعها ..
ولم أدرى بنفسى إلا وبشفتاى تقبلان شفتيها ..
وغابت معى فى تلك القبلة بعدما أحاطت عنقى بذراعيها ..
***
زوجتى .. حبيبتى ..
تزوجتها فى العاشر من يناير .. يوم ميلادها ..
تزوجتها والسعادة تباركنا ..
وانتقلت لتعيش معى فى منزلى المتواضع فى (بريستول) فى جنوب غرب إنجلترا ..
عشنا سويا كأحلام الحب ..
كأنشودة للسعادة ..
وعلى الرغم من أننا هجرنا ديارنا وبلادنا بسبب اضطهاد وقمع حكامنا لنا ..
إلا أننا لم نأبه كثيرا ..
فلقد بقينا سوياً .. معاً .. أحباء .. عاشقين ..
ربما لم يعكر صفونا سوى تأخر الإنجاب ...
وفى المستشفى عند فحصها تأكد لنا أنها ستحيا محرومة من الأمومة ..
وطبعاً بكت وذرفت دموعها أنهاراً ..
إلا أننى ضممتها لصدرى مقبلا رأسها ..
فكل شىء سيهون ونحن معاً ..
كنت أنكرها فى مضيها وسط العشب البرى بجوار الجدول الصغير فى (نور ثمبرلاند) فى شمال إنجلترا فى فصل الربيع ..
فى الشتاء بمقاطعة (كنت) كانت كأميرة الثلج ..
تبدو حرقيا كبياض الثلج ..
اذكرها باهرة وهى جالسة تحتسى مشروب الشيكولاتة الساخنة فى الحانة الداخلية فى المطعم الريفى لـ(يوركشاير)
كيف كانت تحتضنى وتحيط خصرى وهى راكبة خلفى وأنا أقود الدراجة النارية الصغيرة عبر طرقات قرية (فينتشنج فيلد) بمقاطعة (إ *** ) ..
بسمتها الوادعة بجوارى أماام مبنى ميناء (ليفربول) التذكارى ..
سهراتنا فى شوارع (ماثيو) حيث الإحتفالات الموسيقية الصاخبة ..
كانت تنكمش هامسة فى اذنى بصوتها الدافىء المنغوم :-
"- أحبك"
فكنت أطبع قبلتى فوق ظهر كفها متمتما :-
"- أحبك"
كانت الموسيقى تباركنا ..
والقدر يقربنا أكثر ..
***
كنت اضمها فى غرفتنا فى ليالى الشتاء القارص ملتحفاً وإياها الأغطية ..
كانت رجفاتها بين أحضانى تهزنى هزاً ..
كنت انفخ فى كفها باعثا الدفء لأوصالها ..
كانت صاحبة مناعة ضعيفة ..
وكانت حالتنا المادية شحيحة ..
فلقد كان بؤس الحال هو طابع الحياة ..
إلا أن حبنا كان نبراساً وشعلة
لدنيانا القاسية ..
ففى المهجر لا يعبأ أى أحد بالمشاعر ..
بالأحاسيس ..
المال لا يعطى بلا مقابل ..
ففى عيد ميلادها الموافق عيد زواجنا اردت اقتراض بضعة جنيهات استرلينى من زميل لىيبى لأشترى هدية لها فأقرضنى المال مقابل ساعتى السايكو الذهبية ..
يومها استهزأ بى قائلاً :-
"- إذا بدك المال .. لا تأخذه بلا ضمان !!"
سببته فى سرى ..
واشتريت لها ثوباً أنيقاً أرادته وتمنته ..
وبكت بعدما رأت معصمى الأيسر خالى من الساعة الذهبية ..
فلقد فهمت ما قمت به ..
لكم أحبك يا (نادين) ..
لكن الأيام لا تترك احد ...
هكذا أخبرتها .. وهكذا أحسست بدموعها تغرق صدرى ..
وفجعت يوم هاتفتنى على هاتفى المحمول عندما أخبرتنى بأنه قد بلغها ان خالتها قد عثر عليها قتيلة فى شقتها بعدما قام أحدهم بشنقها لتبقى متدلية فى سقف عرفتها زهاء ثلاثة أيام ..
وفهمت من كلماتها المضطربة أن رجال السلطة فى سوريا يسعون خلفها للقضاء تماما على كل أثر لوالدها ..
لم أكن أعلم أن حب القتل وتصفية الحسابات هى أمور وراثية يتناقلها الأبناء مثلما حدث مع (حافظ الأسد) وولده الدموى (بشار الأسد) ..
فأخبرتها على عجل بأننى سأقابلها فى محطة قطار (وترلو) فى لندن بعد ربع ساعة ..
وعند مدخل المحطة المبنى على شكل قوس النصر وقفت ادخن سيجارتى فى توتر ..
فلقد حجزت تذكرتى قطار كى نهرب ..
كنت أرقب ساعة المحطة الكلاسيكية الكئيبة ..
كدت أجن ..
هل أصابها مكروه .. هل جرى لها شيء ..
نظرت إلى مركز الشرطة الملاحق لمدخل المحطة فى محاولة لبعت الطمأنينة داخلى ..
لعنت (بشار الأسد) و(القذافى) و(بن على) و(مبارك) وكل الطغاة المستبدين فى سرى ..
لماذا لم يتركونا كى نحيا بكرامتنا وعزتنا ؟!
لماذا نكلوا بنا وبأمتنا ؟! ..
وتوقفت عندما رأيتها على الرصيف المقابل للمحطة ..
كانت شاحبة ممتقعة .. كانت تتلفت باحثة عنى ..
وما إن رأتنى حتى إندفعت مقبلة نحوى عابرة الشارع المقابل لمدخل المحطة ..
لكننى فوجئت بتلك السيارة (البينتلي)وهى تندفع فى قوة عبر الشارع وقد صرت إطارتها لتضرب جسد (نادين) ليطير جسدها الدقيق مرتطماً على الرصيف فى عنف ..
قبل أن تنحرف السيارة فى شارع جانبى لتغادر الشارع فى سرعة ..
كل هذا فى لحظات أمام عينى المذهولة ..
سمعت صافرات رجال الشرطة وصراخ المرأة وهم يتحلقون فوق الجثة..
حول زوجتى .. حبيبتى ..
حول الملاك الطاهر الذى انطرح فوق الثلج المكدس على الرصيف ...
مفارقة إياى لتتركنى وحيداً محطماً ..
بلا امل وبلا غد ...
فتسيل دموعى بلا توقف ...
***
اتعلمون لماذا أكتب هذه السطور ؟!
أتعلمون لماذا أنا هنا فى سوريا ؟!..
كى لاتندهشوا وانتم تروننى منضماً لصفوف الجيش السورى الحر ..
فعندما سألنى الملازم (طلاس) -الشاب المنشق عن جيشه النظامى لينضم لحماية أهالى حيه ومدينته -عن السبب فى قيام مصرى مثلى بالتطوع للعمل نعه ..
أجبته بأن فى الأمر ثأر شخصى بينى وبين نظام الأسد ..
هذه السطور احتفظت بها فى أوراٍق لففتها حول خصرى بشريط قماشي كى يجدها ويقرأها من يعثر على جثتى فى حالة موتى ..
ومنها سيعرف أننى قد قدمت عمرى لها
لزوجتى .. وحبيبتى ..
(نادين) ..
وللأبد .
هيثم محمد
28 / 11 /201