فترة الحمل طالت، والانتظار أصبح هاجسه الوحيد، يبدأ بالعدّ، يحصي ما تبقى من العمر وكم تبقى لها كي تنجب طفلها الأول،
تختلط في ذهنه الأمور، يحاول أن يُبعد عن مخيلته أرقاماً تأبى إلا أن تنحشر في رأسه. (أريدها طفلة ... لا أعرف لماذا، لكني أحس بأني سأحبها كثيراً...) عبارة طالما رددها أمام جميع من زفّ لهم بشرى حملها أما هي فلا تعرف تماماً متى ولِدت وكم دامت فترة الحمل، لا تذكر سوى أنها خرجت للدنيا في ليلة كاملة البدر، تركته غارقاً في حساب يوم مولدها، وتركتها تعاني بقايا آلام المخاض، لقد حققت له أحلامه، أتت سمراء كما أرادها، خرجت إلى الحياة ومن الحياة كما رغب تماماً. في ليلة كاملة البدر غادرت منزله، تركت جميع النوافذ مفتوحة للريح علها تقتلع كل الأمنيات من جدران منزل شُيِّد بحلم مجيئها. علمها أشياء كثيرة قبل أن تولد، وفي اللحظة التي رغب فيها أن تغادره كحالم استيقظ مودعاً طيفها. غادرته عارية كما ولدتها، أبت أن تُدثَّر بأسمال واقع يرفض ذاته، فالحقيقة عارية دائماً هكذا علمها. أما هما، فبقيا كشجرة غَرَبٍ هرمةٍ فقدت أجمل غصن ينازعهما الوجود والعدم. يقول لها: كل الأشياء صائرةٌ للعدم، لكنها موجودة فينا قبل أن تفنى، والعدم لا معنى له دون الوجود. تقول له: كل الأشياء تخلق فينا وموجودة فينا ونحن أنفسنا سائرون للفناء. العدم أبقى وأخلد. قال لها: ألم أقل لك: من أجلك رضيت أن أبعث أصل الوجود إلى العدم، أتذكرين حينما غادرتنا، لقد كانت موجودة فيّ قبل أن توجد، لكنني، وبمحض إرادتي، بعثته ا إلى حيث ترغبين، إلى العدم، لكنها موجودة. أراها في عيون كل الأطفال جيلاً بعد جيل ... أما هي فمضت تدق الأبواب، توقظ كل النائمين، تعريهم أمام شمس النهار، تصرخ بهم أن يفتحوا أعينهم ليروا حقيقة أنفسهم، ليدفنوا غباءات تاريخٍ مضى. تمتد جذوره في أنفسهم لتجعلهم أشباه آدميين، تخيفهم تلك الرغبات العابرة من الضوء إلى ظلمة أهوائهم، لذلك اتهمت بإزعاج النائمين. هيئة المحكمة اكتملت: هو كان القاضي وهي كانت المتهمة. - هل تعترفين بكل الجرائم المنسوبة إليك. - أنا لا أرى فيما أفعل ما يدعوك أن تسميه جريمة. - قناعاتك الشخصية شيء، وقوانيننا شيء آخر، هل تظنين أن ما تحملينه من أفكار هو الأساس لقوانيننا . - أنسيت أن العدل هو الحقيقة الأشد وضوحاً، وما تضعونه من قوانين وشرائع يجب أن تكون مبنية على تلك الحقيقة. - رأوكِ تحفرين نفقاً في منطقةٍ يحظر دخولك إليها أصلاً، هلا اعترفتِ بهذا؟ - فعلاً، لقد كنت أحفر ذلك النفق في أدمغة عبيد مصالحكم وأهوائكم لأصلهم خارج أسوار سجن عبوديتهم، ولم أكن أعرف أن العدل محظورٌ عليه دخول منطقةٍ تسمونها سجناً، فما أحكامكم سوى وحيٌ من خوفكم على أنفسكم لحماية ضعفكم وجبنكم، تقومون بسجن حريات الآخرين داخل أدمغتهم وتغلفونها بضعفهم واستسلامهم. - هذا اعتراف صريح منك، والاعتراف سيد الأدلة! وهل تعترفين أيضاً بأنك ولدت قبل أوانك ورغم هذا سبقتِ أجيالاً عاصروك ، ألا تعرفين أن هذا يجعلك خارجة عن دائرة الزمان والمكان، فكيف تريدين أن نسلّم بوجودك رغم أنك تعيشين في العدم. - العدم فيكم وهمٌ يؤرقكم وشبح خلقته مخاوف تمتد منذ ولادتكم وتنتهي في ذلك اليوم الذي يطرق فيه الموت أبوابكم، خوفكم مني نابع من ضعفكم فكيف لي أن أجتاز عتبات الفناء لأعيش وإياكم في عالمٍ واحد، ألا فابحثوا عن خلاصكم في خلودكم أو مجرد خلود أفكاركم، خيرٌ لكم بأن تفكروا أن العدم هو خلاصكم الوحيد، رغم أنكم تعملون جاهدين للتغلب عليه. دائماً كان يسألها: هل من الضعف أن أحبك؟ - ليس ضعفاً أن تحبني، ولكن الضعف أن تحب الآخرين. - أحب الجميع فيك، أما عرفت أني حتى الآن أبحث عنك، صحيح أني أوجدتك، لكنك تضيعين كلما أحسست بحاجتي إليك. وهي ما ذنبها؟ ألا ترينها ماثلة أمامك خلف قضبان، نقاضيها ونحن المتهمون كلنا، قضاة وحاكمون؟ لا أستطيع تمثيل دور القاضي وأنا المتهم. ألا فاحكمي عليّ بما شئت ولتنتهِ هذه الملهاة. كان حكمها قاسياً: أن يفتح دماغه! تماماً كتلك العملية التي أجريت لها يوم خرجت طفلته للحياة ومن الحياة، خرجت من دماغه عارية وعادت تقرع الأبواب توقظ جميع النائمين. |