جرحٌ لا يلتئم في جسم المعنى
أدونيس
(سوريا/باريس)
ـ 1 ـ
إنّها جيوشُ الإباداتِ تُواصِلُ التقدُّم.
قطعانٌ تقودُ رُعاتَها، وتحرسُ الزّرائب،
والخيامُ تُضرَبُ على رؤوسِ المدُن.
متى يتحرّرُ شعرُ الواقعِ من فقه الغَيْب؟
متى تترادَفُ الحروفُ والينابيع؟
في فضاء سَقْفٍ واهِنٍ يظلِّلُني، وعْدٌ من الضّوء.
الحجرُ باسْمِ هذا الوعْدِ، رَطْبٌ،
والوردةُ في أصيصها تتذكّرُ حبَّها الأوّل.
ـ 2 ـ
هونغ كونغ،
حين أنظرُ إلى أحواليِ فيكِ وفي أخواتِكِ، أشعرُ كأنّني
سليلُ المفارَقات. غامضٌ، ولا نظَرَ يمكنُ أن يقبضَ عليَّ.
أسيرُ فيكِ، تسيرُ إلى جانبي البلادُ التي أنتمي إليها. أشباحٌ. أبجديّةُ رَمْلٍ. ثلجٌ أسودُ يتساقطُ من غيومٍ آليّة. القمرُ مُقعَدٌ، وليس في النّجوم غير الأنين.
وأرى إلى اللغةِ - الأمّ كيف تتشرّدُ كلماتُها قطعاناً قطعاناً. لا راعيَ لها. تُسيِّرُها الظّلُمات إلى حظائرَ تسهرُ عليها الذّئاب.
عصْرٌ يترك فيه الحِبْرُ مكانَه لأصابعَ من القّشّ.
مَن يستطيعُ إذاً أن يُحيطَ بالأشعّة التي تتمازَجُ في خطواتي؟
لماذا أشعرُ كأنّني أجيءُ من شقوقِ الأساطير؟
بي داو، بسّام، هل تقولان لي: لماذا أشعر في هونغ كونغ، أنّني لا أجيء من باب اللغة، أو من رحِم الشيء؟
ولماذا أرى في كلّ هويّةٍ خيطاً من ثوب الهاوية؟
ـ 3 ـ
هونغ كونغ،
كلُّ شيءٍ يبدو أقلَّ ضياعاً منّي.
ألأنّني أجيءُ من عالمٍ لا يحضرُ فيه إلاّ الغيابُ والغَيْب؟
القمَرُ نفسُه يُشوى على حطبِ تعاليمِه،
الشّمسُ نفسُها تسبِّح قناديلَه.
ألمَحُ بقَعَ دمٍ على وجه الفجر. وها هو الزّمن ينحفِرُ في الصّدر، كهفاً بلا حدود. وكنت قد تركتُ شمسَ الغروبِ بين يديْ دمشقَ وبيروت، كأنّني أتركُ طائراً أحمرَ يسيلُ الأفقُ بين جناحَيْه.
في طريق السفر تذكّرت أبي. حاول أن يرسم لي طريقاً تبدأ من كتابٍ قديمٍ يحبُّه. غير أنّ الخيط الذي يصلني بالكتاب أصبح واهناً، وها هو يتقطّع ويتناثر. ومنذ أن بدأتُ أرسم طريقاً أخرى، أخذ هذا الكتاب يتحوّل إلى سورٍ ضخمٍ يسدّ عليّ الطرُقَ من جميع الجهات.
سألتُ الصحراء: كيف كانت لهجةُ امرىء القيس عندما
استنجَدَ بملك الروم؟ لم تُجِبْ.
أفٍّ منّي ومن هذا الحِبرِ الذي لا يزالُ يمَنُّ عليَّ بآياته.
أفٍّ منه، هو أيضاً، ذلك الذي لا أسمّيه:
يملك العالم،
وليس في بيته المظلم سراجٌ واحد.
خُذِ الجُرحَ، أيّها الشّاعر، وسمِّه شجرةً،
عاكسِ الدّروبَ وقلْ كلاّ، لآلةِ الوقت.
ـ 4 ـ
هونغ كونغ،
الرسالةُ التي كتبها ذلك الكوكبُ العاشقُ إلى ظلمةِ الأرض، لا تزالُ مختومةً.
لا يريدُ أحدٌ أن يراها. لا يريدُ أحدٌ أن يفتحها. لا يريد أحدٌ أن يقرأها.
فــي أيــّة مقبرةٍ على الأرض ترك هذا الكوكبُ أنقاضَه؟ هل يعرف ذلك الرّائح الغادي على المسرح والذي يسمّي نفسَه الفيروس الأوّل؟
هونغ كونغ،
رئةُ العَصْر مَطّاطٌ، والزّمَنُ عجينٌ لصنعِ كُراتٍ من النّار.
كلُّ عرشٍ يسيِّج نفسَه بأعناقٍ ضُرِبَت، واللغاتُ طَمْيٌ يحوِّل الينابيعَ إلى صهاريجَ، والأمكنةَ إلى سيولٍ من الدّمع.
كأنّ القمرَ لم يعدْ يتشوّق إلى النّوم في أحضانِ أيّةِ امرأةٍ، كأنّ الشمسَ لم تعُد ترغب في كتابة أيّة رسالةٍ إلى الفجر.
أطفالٌ
يقرأون ويكبرون في مدارسَ فيروسيّة. وضعَ الزّمنُ عقولَهم في أكياسٍ ختمها بشمعِه الأحمر.
وأنت، أيها الفيروسُ الآخر، يقتضي دورُك على المسرح أن يكون
رأسُكَ تفّاحةً، وأن يكونَ جسمكَ حيّةً، تيمُّناً بحكاية الخَلْق.
ولا مكانَ هنا لحوّاءَ إلاّ في تلك الزّاوية، في ثوبٍ واحدٍ هي والظّلام.
أكيدٌ سيكونُ مجيء الفجر عسيراً جدّاً في هذا التاريخ الذي لا يثمر إلاّ
القتْل. وها هي أيّامُه: بعضها يعرج، وبعضها يبصق دماً.
وها هو العالم: شرطيٌّ بأجسامٍ كثيرةٍ ورأسٍ واحد.
ـ 5 ـ
هونغ كونغ،
بيضٌ سودٌ صُفرٌ يزدردون رغباتِهم فيما يشحذونها. تحملك اللحظات، تسير معك بينهم، وهي تترنّح وتفرك جفونها.
لا تسأمُ الملائكةُ من أجنحتها حتّى تكادَ أن تقصَّها ثائرةً عليها، كما تفعل في شارع الحانات، لاكواي فونغ: التاريخ يتفيّأ المقاهي والنساءُ يضطجعن في القوارير.
نعم، انسوا خليجَ فيكتوريا،
أنسوا بيوتَ الرأسماليين
أوه ! كم هي حزينةٌ تلك الوردة التي تقطفها الآن يدٌ آليّة.
على شاطئ المحيط،
ينامُ الزّمنُ حالماً بأشداقِ تماسيحِه،
كلُّ موجةٍ تمساحٌ، والمشكلة أنّ صيدَه لا يحلّ أيّة مشكلة.
هكذا يولد المعنى في الدّمع.
وأنتَ أيّها السائرُ على خشبة المسرح، إلى أين، وليس في
جراحكَ غيرُ التقيُّح؟ وكلُّ شيءٍ يقولُ : لا أدري.
هونغ كونغ،
هل المستقبلُ نائمٌ في فقاعة ماء؟
وما تلك المِغرَفَةُ الكبيرة التي تحرِّك مِرجَلَ التّاريخ؟
ـ 6 ـ
فندق هياتّ، صباح 20 نوفمبر 2013. استيقظَ معي جبلٌ في شكل نهدين، يحيط بالفندق.
تذكّرت صنعاء. تذكّرتُ عبد العزيز المقالح كيف يتوهّج غبطةً عندما يتلفّظ باسم جبلها، جبل النّهدين، احتفاءً بأنوثة الأرض.
تُرى، لا تزالُ الذُّرواتُ المُطِلَّةُ تضع أيديَها على كتفَيْ صنعاء؟ أم أنّ الأعاصيرَ المطبوخةَ في لهبِ الجراثيم ضربَتْها، وزلزلت مداراتها؟
إنّها الإبرةُ الضّخــمةُ الملَقَّحــةُ بسُـمّ الهــاوية تخيطُ جسمَ الهواء، وماذا نقولُ للخنازير التي تعلِّم السّمكةَ كيف تسبح والطائرَ كيف يطير؟
ما الحـــاجةُ إلـــى بلدانٍ يبـــدو فيــها الموتُ كمثلِ اصطبلٍ لا ينتهي الملائكةُ من تدشينه؟
تحت الخطواتِ ضجيجُ التّاريخ،
فوق الأكتافِ رمْلُ المسافات،
الّريحُ تلجمُ الدّروب،
لكن مَن يلجمُ الرّيح؟
وآهٍ من دواءٍ هو نفسُه الدّاء.
ـ 7 ـ
تسعٌ وتسعون سنة !
ربّما لكي نفهمَ هونغ كونغ تلزمنا حربٌ أخرى لأفيونٍ آخر، لكن هذه المرّة، خارج المدينة، بعيداً.
إلى ذلك الوقت، لن يكونَ مكانٌ في شوارعها، وفي الأزقّةِ والسّاحات إلاّ لسديمٍ يُهَيمن دون رايةٍ ودونَ غايةٍ غيرَ الحياة الحياة الحياة.
هل سنفهم آنذاك خرائط البشر الذين يعيشون كأنّهم لُهاثٌ في حنجرة الوقت، وكلٌّ يتساءل: ماذا لدينا غير أن نتاجرَ ونرشوَ العالم؟ وكلٌّ يؤكِّد: الدّمُ الذي يسيلُ الآنَ وغداً وبعدَه إلى ما لا ينتهي، هو وحده الذي يروينا. وكلٌّ يردّد: نحنُ جرحٌ لا يلتئم في جسم المعنى.
أهي غيمةٌ عابرةٌ سمِعَتْني، فبكَت حتّى ذابَت؟
هونغ كونغ،
ما أجملَ التباساتِكِ وما أعمقَها،
ما أعقلَ التناقضات التي تتعاركُ في أحشائكِ.
سأضمّكِ إلى وقتيَ الآخرِ داخلَ الوقت،
حيثُ أتفقّدُ أعضائي دائماً،
وأقـرأُ على أظافرِ يديَّ وقدميَّ بُقَعَ المعنى.
هونغ كونغ - باريس ، يناير 2014