نورة امرأة ريفيّة تعيش في القرية بحالة "مستورة" ,تزوّجت من ابن عمّها قبل عامين.
وها هي صبيحة العيد يقرع مسامعها صوتٌ أعذب من أصوات بلابل الدّوح, فها هو "عيد" يرسم العيد عيدين , نعم لقد ولدت غلاماً أسمياه عيداً تيمّناً بالعيد.
أخذ عيد يترعرع ويكبر في كنف والديه في تلك القرية الجميلة,قرية يبهجك صوت المؤذن للفجر حين يملأها خشوعاً حتى أنّك لتخال أنّ الحجارة والأشجار والطيور لتخرّ ساجدةً خشوعاً .
وإذا ابتسم ثغر الشّمس ورأيت الطلّ يُقبّل خدود الورد مودّعاً حرّك ذلك المنظر في نفسك مكامن ( الوجدفرح) فتشهق واجماً بين فرح المنظر الطبيعي ووجد الفراق!
أمّا مزرعتهم فكانت كهُم كريمة سخيّة بها غرستين من العنب وبضع رمّانات وشجرة تين عظيمة تُدرّ عليهم كرماً موسميّاً كلّ عام.
وكان لهم قطيع شياة تدرّ عليهم اللبن والسّمن ويكرمون منها ضيفهم.
وعندما بلغ عيداً السابعة دخل مدرسة القرية المتواضعة ,فجُلّ ما كان في الفصل
" حنبلاً" مهترئ يجلسون عليه , يرتدون ثياباً بالية مرقّعة,ثمّ يدخل المعلّم ليصبّ لهم كأساً من رحيق العلم وخمسة كؤوس من حنظل العنف ,إذ كانت جزء من ثقافة معلمي ذلك الزّمن " الفلكة " على أتفه الأسباب !
كبر عيد ولّما وصل الثالث الإبتدائي أوكلت والدته له رعي البهم قريباً من البيت ,إذ هي عادة الأسرة في جيلة أسرة منتجة وليست كأسر اليوم مستهلكة وينؤ الوالد بالحمل كاملاً.
ودّع عيداً عاما دراسياً وهو نهمٌ إلى الصيف لثلاثة أسباب:أولّها لكي يرتاح من جلّاده الصفّي لأربعة أشهر, وثانيها لاقتراب موسم كرم مزرعتهم ,وثالثها أنّ جدّه الشاعر كان يصطحبه معه في المناسبات ويحبّه ويقرّبه منه حتى مزج حبّ جدّه وحبّ الشّعر لحمه ودمه.
مرّة كتب قصيدة لابأس بها من مبتدئ وعرضها على معلّم اللغة العربيّة , فنظر إليها (بربع عين) ثمّ ألقاها جانباً دون أن يعلّق أو يشجّع أو يحاول اكتشاف موهبة وصقلها ! وأنّى له ذلك وتخصصه في الأصل رياضيات ؟!!
بدأ عيد يكبر ويتغيّر صوته وتظهر عليه علامات الرّجولة,فبرع شابّاً وسيماً ذكياً تعلّم من أبيه وجدّه نقاء القرية وعفويتها وطيبة سجيّة أهلها.
وبدأ والده يسند إليه إلى جانب رعي الأغنام بيع الخضار في السوق الشعبي المجاور لقريتهم فكان نعم المعين لأبيه.
ذات مرّة تشجّع وعرض على جدّه الشاعر قصيدة ,فصاح جده بأعلى صوته : لئن صدقت نبوءتي لهو خليفة جدّة,وما جانبت توقعات جدّه الصواب فقد صار عيد الشاعر الكبير الذي يصب السحر في آذان من يسمعه ويشده القلوب بعذوبة أحرفه ولكن القدر لم يمهل جدّه حتى يطرب بسماعه.
كان في أحد الأيام يرعى غنمه فعطش ثمّ عمد إلى بئر في طرف القرية ليرتوي ,فلمّا اقترب وإذ بإحدى بنات القرية اللواتي يرعين الغنم حائرة على (قُفّ ) البئر ,فتنحنح من بعيد وسلّم , إذ كان قد رضع الشّهامة مع حليب أمّه , فهو لايرى بنات قريته إلّا أخواته,سلّم في أدب فإذا بها "هيا" التي طالما رعى وإيّاها البهم سويّاً ,ولكن عادتهم في القرية إذا كبروا فمن العيب أن يرعى الصبية والبنات سويّاً فالبنات يأخذن جانباً والشباب في الجانب البعيد.
سألها مستغرباً : مالك أختاه حائرة ؟ ردّت : انقطع الدّلو وسقط في البئر ولا أدري ماذا أقول لأهلي؟!
شمّر ثوبه عيد وانبرى كالليث قدوماً فنزل البئر وبعد هنيهة صعد بالدّلو معه,شَكَرتْ له صنيعه في خجل عذراء وكأنّ الجوري أعارها لون وجنتيها ,ولمّا أرادت الانصراف نظرت إلى شجرة رمّان تطلّ على البئر مباشرة,وكان الموسم قد انتهى منذ أيام قلائل ولم يتبقَى سوى رمّانة واحدة تتدلى إلى ناحية البئر,نظرت إليها بلهفة ,فسألها عيد: أختي "هيا " أتريدين الرّمّانة؟ ضحكت خجلاً وأرخت طرفها وتصبّب العرق من جبينها كأنّه حبّات اللؤلؤ,صعد كالبرق إلى الشجرة فصاحت به متوسلة:أخي عيد ..عيد..عيد أرجوك انزل لا تسقط في البئر وأكون أنا السبب.
لم يأبه لها ومضى إلى ما أراد فتناوش الرّمانة الكبيرة بيده وهوى به الغصن وكاد أن يسقط في البئر لولا رحمة الله.
اقترب منها وناولها,ولأنّ العفاف يجري في خلاياهما لم تقع عين على عين,اللهمّ إلّا حين وضع الرّمّأنة في يدها لمست أطراف يده أطراف يدها بالخطأ.
وهنا لمست الروح الروح وهمست القلوب للقلوب بترانيم يعجز القلم عن وصفها,فكانت تلك اللّمسة بمثابة تيّار من العشق العذري جرى في خلاياهما ,مضت وفي قلبها وقلبه ما كان في قلبي جميل وبثينة ,فقد شهقت حبّه مع أنفاسها وشهق حبّها حتى تضلّع ولهاً.
خيّم المساء وكلا العاشقين يتقلب في فراشه ولهاً , يخفي بين حناياه شوقاً لو فنيت الأقلام وتطاولت الصحف ما قدر الأدباء والشعراء وصفه.
مضت الأيام ولم يلتقيا بعد ذلك,لكن الخيال لا يُسجن ,وميادين القلوب المخضرّة تعجّ بغزلان الهوى العذري في سكون.
يخال صورتها في تولين البدر ورذاذ الهتّان وسنا ضواحك البروق ويعرك كبديهما عشقاً ,وقلبيهما شوقاً لولا الأضلاع تحرسهما لخرجت قلوبهما مفشية سرّ الهوى.
صارا لا يلتذّان بكرى,ولا يستسيغان لقمة أو جرعة ماء ,حتى أصابهما الهزال واصفرّت الألوان,وأنّى لهوىً صاب سويداء القلب وتربّع على رياض الأرواح أن لا يدك الحال دكّ الدانميت للجبال!
بلغ عيد الثامنة عشرة ,وذات يوماً طلب منه أبوه أن يرافقه إلى المدينة التي تبعد 200كلم عن قريته.
استقلّا وانيت بيك أب من طراز هايلوكس موديل 1976م , وكان الأب حاذقاً وله هدف , فهو يعلم أنّ الأسفار مفتاح القلوب.
وفي الطريق دار الحديث في مواضيع شتّى , وصلوا المدينة وباعا في سوق الخضار ما حملاه معهما من الخضار من مزرعتهم,وتوجّهوا إلى أحد الأسواق الشّعبيّة ليكرم ابا عيد عيداً بهديّة "مسدس نصف" كاد عيد أن يطير فرحاً بهذه الهديّة الغالية وارتسمت البسمة على شفافهه بعد أن أسَرَتها جيوش العشق شهوراً .
وفي طريق العودة بدأ أبا عيد يتسلل إلى دواخل ابنه , قال أبو عيد : يا عيد يا ولدي هبني لك صاحباً وصديقاً ولنلقي بالكلفة جانباً,قال عيد: آمرني يا أبتي روحي فداك, قال أبوعيد : وتعدني بالصّراحة ؟ قال عيد: أعاهدك يا أبت على ذلك .
قال أبو عيد : يا عيد منذ عدّة أشهر وأنت شارد الذهن مكدود الطبع لا نكاد نرى بسمة شفاهك,فما الخطب؟
أطرق عيد هنيهة , ثم رد: يا أبتِ .. امممم أنا .. أنا عاشقاً يا أبتِ.
نظر أبوه إليه وضحك قائلاً : لست بالسهل يا عيد كأبيك عشقت أمّك ثم تزوجتها عن حبٍ عذري.
ثمّ أردف أبو عيد: طيب ومن هي سعيدة الحظّ التي عشقتها ياعيد؟
سكت قليلاً ثمّ قال : "هيا" يا أبي.
أوقف أبوه السيّارة جانباً ونظر إلى عيد,تلكأ عيد قليلاً ظانّاً أنّ أباه لم يعجبه ذلك,فقال الأب:يا سلام دين وحسب وجمال وبيت محترم , ولو تريد بكره أخطبها لك.
رقصت ملائكة الفرح في قلب عيد,وصعقه شئ كالبرق,وغنّت بأعماقه رسل الوصل, وانتابه شعوراً كشعور يعقوب بعودة يوسف عليهما السلام.
وبالفعل رتّبوا للخطبة ,وفي اليوم الموعود فاحت شذى السعادة بخطبة العاشقين,واتفقوا على أن يكون الزواج في الصيف , فعيد سيكون حاملاً للثانوية
( ماجستير زمانه) والوظيفة في المدينة القريبة مضمونة, وتكاليف الزواج لا تتعدّى الألوف البسيطة.
تخرّج عيد من الثانوية وعلى الفور طلب من أبيه أن يطلب من عمّه الملكة,وبالفعل اتفق أبوه وعمّه على أن تكون الملكة الخميس القادم.
وأطلّ الخميس والشوق يلهب حنايا الأرواح , والساعة تسير في تباطؤ وكأنّها تغيظ العاشقين, عُقد القران ثمّ استأذن عيد عمّه أن يدخل ليسلم على عمّته وزوجته فلم يمانع عمّه, دخل عيد ومعه بعض الهدايا لشقيقة روحه , وكتب بخطه الجميل على إحدى الهدايا [ تمازجت الأرواح حتى كأننا = = بروحٍ وقلبٍ واحدٍ نتبادله!!]
دخل وسلّم , يقول عيد:لم أرى تلك الراعية التي ترفل في أسمالٍ قديمة, وتغطّي رأسها بخمارٍ أبيضّ من الشمس, وإنّما رأيت كوكباً أزهر ووردةً فواحة يتصببّ الدّهن من جيدها!
صافحها .. وهناك ذابت كل زفرة ألم وشوق ساقها ليل الفراق والوجد,وضحكت كل خليّة في أديمهما.
لم يصدّق أنّ هذه الفاتنة ذات الشّعر الأشقر والعيون التي كأنّما تشكو مرضاً حين نظر إليها ,والمشية التي شابهت خِشف ريماً يرقص إلى جانب أمّه طرِباً!
والبراءة التي تشبه حمامة دوح تغنّي على غصن الغرب , لم يصدّق أنّها هي تلك التي رأها عند البئر!
عُقد القران وأصبح يزورهم كل يوم , ويكتب لبلسم جراح قلبه أشعاراً إحساسها يأخذ بالقلوب , كقوله :
ثلجيّة النبرات إنّ قلوبنا = = خلقت لتحيا عشقنا المعشوشبا
أو كقوله بالشعبي :
ريّان عود إليا تمايس تقل خِبّ = = توّه نشى من شجْرة الخيزرانـــــة
شبّ الفؤاد وشب روحي بعد شبّ = = وزاد الحلا زود الدّلع والرّزانة!!
لم يبقَ عن موعد الزواج سوى شهرين, وبدأت العروس تُجهّز للزواج في غير تكلّف ,جلّ ما في الأمر ثوباً تقليدي تخيطه هي بيدها وتساعدها أمّها.
ناهيك عن طوقاً من الفضّه الذي سيقدّمه لها الزوج مع أربعة حجول (بناجر) وبعض الخواتم.
في هذه الأثناء بدأت هيا تفقد وزنها بشكلٍ لافت للنظر وتفقد أيضاً نشاطها وحيوتها ورغبتها في الأكل, وظهر سواداً تحت عينيها وشئ من الصفرة في عينيها.
أخذوها للمستوصف في قريةٍ مجاورة فأعطاها الطبيب بعض الأدوية إلّا أنّها لم تجدِ نفعاً بل ازدادت سوءاً.
قرر عيد وعمّه أن يأخذوها لمستشفى المدينة,وهناك في المستشفى أجريت تحاليل تلو التحاليل وإشعّات تلو الإشعات, وبدايةً قال لهم الطبيب : يشتبه خرّاجة في الكبد,سأله أبوها : وهل من أمل في الشفاء يا دكتور: قال الطبيب: إذا خرّاجة الأمر بسيط بإذن الله.
أخذوا عيّنات تحاليل دقيقة وأخبروهم أنّ النتيجة بعد ثلاثة أيّام فاستأجروا فندقاً بالقرب من المستشفى ووقفوا على شرفة الانتظار.
وجاء اليوم الموعود ودخلوا على الطبيب ,نظر الطبيب إلى الملفّ ثمّ أطرق وتمعّر وجهه, أوجم الجميع قليلاً,ثم تكلّم أبو هيا قائلاً : يا دكتور أخبرنا ما الأمر؟
تنهّد الطبيب ثم قال : الحقيقة هي ليست خرّاجه وإنّما يظهر في العيّنة " ورم بالكبد" لكن الحمد لله الشفاء وارد بإذن الله.
أمر الطبيب بأن ترقد هيا بالمستشفى حتى تقرر اللجنة الطبيّة خطّة علاجها كما ذكر لهم الطبيب نفسه, فخيّم الحزن على المكان,وكأنّي بأقصى أفئدتهم وهي ترددّ وجداً :لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم.
أمّا هيا فصبّت من الدّموع ما لو صُبّ على جلمودٍ لأذابه,أمّا عيد فتملّكه الذهول والصّمت فلا يقدر حراكاً ولا كلاماً.
أُدخلت هيا للتنويم بالقسم النسائي , وعاد عيد للقرية ليحضر عمته "أمّ هيا" لتقف إلى جانب ابنتها.
وفي اليوم الرابع لهيا بالمستشفى انفرد الطبيب بأبي هيا وقال له: يا أبا هيا نحن مؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشرّه و.... قاطعه أبو هيا بفطرة القروي وعفويته : يا دكتور أخبرني ما الأمر وأرجوك أعطني من الأخير.
قال الدكتور: أنا أرى أن لا داعٍ لبقاء هيا بالمستشفى لأنّه لن يجدي معها علاج لا في البلد ولا في أي مكان بالعالم,للأسف الشديد الورم استشرى في صمت وسيطر على الكبد,فرحمة الله فوق كل شئ , لكن من جانب طبّي يا أبا هيا للأسف لا أمل بالشفاء, نحن فقط سنصف بعض المهدئات النفسية وبعض المنشطات لتنتعش قليلاً وليس أكثرمن هذا.
أجريت إجراءات الخروج ورحلوا إلى قريتهم يعلو الحزن وجوههم النظرة وقلوبهم النقيّة.
بعد عدّة أسابيع زار أبو هيا أبو عيد في بيته وفي تردّد وحيرة فاتحهم في موضوع الزواج الذي اقترب موعده قائلاً : يا جماعة قدر الله حصل.. والآن لا نعلم هيا كم ستعيش ولا أريد أن أعلّق عيد بإنسانة لا حيّة فترجى ولا ميّتة فتنعى.
ردّ أبو عيد: والرأي يا أبا هيا , ذرفت عينا أبو هيا دمعاً كالجمر يحرق خدّيه ثم قال : يشوف عيد حياته وتواجه ابنتي قدرها ,أرى أن ينفصلون ,ويبقى الودّ بيننا.
قال أبو عيد: أنا سأفصل الموضوع إن رضيت يا أبا هيا,قال أبو هيا: الذي تقوله لن أغيره مثقال ذرّه وأنا أبحث عن رضاكم وسعادتكم.
قال أبو عيد: نترك الرأي لعيد وهو يقرّر.
قال أبو هيا حاضر , هاه يا ولدي يا عيد.
أطرق عيد قليلاً وبصره إلى الأرض ثمّ رفع رأسه وقال : والله لو لم يُبقي الورم إلّا خنصرها لتزوجته , نعم هو لا يعلم أنّ شفائها ميئوس منه إلّا أنا وأنتم , لكن لا يهمني ذلك , لو لم يبقى من حياتها غير ساعة لما فرّطتُ بها!!
اندهش أبوه وعمّه لوفائه الذي لا يشبهه وفاء,فكيف ستزفّ عروساً وهي ميئوساً من شفاءها إلّا أن يشاء الله.
قال عيد: لا تفاجئا هو ذاك وقد عاهدتُ هيا أن لا أتركها ما دامت تشمّ الهواء.
عاد أبو هيا وأخبرأهله الخبر ,فقالوا على بركة الله .
مرّت الأيام واقترب موعد العرس ,وفي ليلة ذلك الخميس زُفّت هيا إلى عيد في منظرٍ لا يجد الأدباء والحكماء والبلغاء تعريفاً للحب والوفاء أحسن منه.
نسيت هيا في تلك الفترة المرض فقد غمرها عيد بقلب الزوج الحاني حتى بلّ روحها في سلسبيل من الحنان الذي تستجلب الزهور منه جمالها ويقتبس الورد منه عطره الفوّاح .
مضت أربعة أشهر وهي بين أمل وألم تنشط مع المنشطات وأحياناً ينهكها المرض .
وفي بداية الشهر الخامس من الزواج بدأت حالتها الصحيّة تسوء أكثر من ذي قبل فكان لا بدّ من أخذها لمستشفى المدينة الذي شُخّصت فيه,رقدت هناك خمسة عشر يوماً ثمّ توقّفت الكبد عن العمل تماما ما أضطر الطبيب لعمل فتحة تصريف في البطن عبر أنبوب.
وفي يوم الثلاثاء غابت عن الوعي تماماً وأقاربها حولها يحفّهم الحزن , بقيت ثلاثة أيام في غيبوبتها وعندما كان المؤذن يؤذن لصلاة فجر الجمعة وعيد واضعاً يده على جبينها,فتحت عيناها ونظرت إلى عيد وسقطت دمعتين من قلبها لا من عينيها ثم قالت:الله اسأل أن يجمعني بكم تحت ظلّ عرشه, وأمسكت بيدها اليسرى على يد عيد ,ورفعت سبابتها اليمين , وكان المؤذن قد ختم الأذان بلا إله إلّا الله , لتردد معه لا إله إلا الله ويتبع بصرها روحها الطاهرة إلى السماء.
أنكب عيد عليها يبكي بكاء الثكالى,فحاول أحد أصهاره أن ينحيه,فأوقفه أبوه قائلاً وهو يجهش باكياً :دعه يا خالد يبكي فوالله لو لم يفعل لانصدعت كبده وجداً.
غُسّلت وجُهّزت ليُصلّى عليها بعد الجمعة , وهناك بالمسجد اجتمعت أمّة من النّاس قال كل من حضر :أنّهم أضعاف أضعاف ما يرونه كل جمعة ,ولا بِدعاً في ذلك فالموفق يسخّر الله له في الدنيا والآخرة .
صُلّي عليها بعد الجمعة وحملت على أطراف أصابع الرّجال كالطائر يطير على رؤوسهم .
دُفنت والأسى يعتصر قلوب الجميع على نجيبة شريفة طيّبة قدّمت الخير فوجدت بوادره في الدنيا قبل الآخرة.
أمّا عيد فكان يُهادى بين رجلين تخطّ قدماه الأرض ولا يقدر على المشي,وهو يخرج من المقبرة دحرج نظرة إلى القبر مصحوبة بأسى لو صبّ على قلب بعير لفطره , وهاجساً في صدره يقول: ليت قبراً حواك يا هيا لملم شتات عيداً معك,ليلتصق الحشى بالحشى إلى يوم يبعثون.
وها هي صبيحة العيد يقرع مسامعها صوتٌ أعذب من أصوات بلابل الدّوح, فها هو "عيد" يرسم العيد عيدين , نعم لقد ولدت غلاماً أسمياه عيداً تيمّناً بالعيد.
أخذ عيد يترعرع ويكبر في كنف والديه في تلك القرية الجميلة,قرية يبهجك صوت المؤذن للفجر حين يملأها خشوعاً حتى أنّك لتخال أنّ الحجارة والأشجار والطيور لتخرّ ساجدةً خشوعاً .
وإذا ابتسم ثغر الشّمس ورأيت الطلّ يُقبّل خدود الورد مودّعاً حرّك ذلك المنظر في نفسك مكامن ( الوجدفرح) فتشهق واجماً بين فرح المنظر الطبيعي ووجد الفراق!
أمّا مزرعتهم فكانت كهُم كريمة سخيّة بها غرستين من العنب وبضع رمّانات وشجرة تين عظيمة تُدرّ عليهم كرماً موسميّاً كلّ عام.
وكان لهم قطيع شياة تدرّ عليهم اللبن والسّمن ويكرمون منها ضيفهم.
وعندما بلغ عيداً السابعة دخل مدرسة القرية المتواضعة ,فجُلّ ما كان في الفصل
" حنبلاً" مهترئ يجلسون عليه , يرتدون ثياباً بالية مرقّعة,ثمّ يدخل المعلّم ليصبّ لهم كأساً من رحيق العلم وخمسة كؤوس من حنظل العنف ,إذ كانت جزء من ثقافة معلمي ذلك الزّمن " الفلكة " على أتفه الأسباب !
كبر عيد ولّما وصل الثالث الإبتدائي أوكلت والدته له رعي البهم قريباً من البيت ,إذ هي عادة الأسرة في جيلة أسرة منتجة وليست كأسر اليوم مستهلكة وينؤ الوالد بالحمل كاملاً.
ودّع عيداً عاما دراسياً وهو نهمٌ إلى الصيف لثلاثة أسباب:أولّها لكي يرتاح من جلّاده الصفّي لأربعة أشهر, وثانيها لاقتراب موسم كرم مزرعتهم ,وثالثها أنّ جدّه الشاعر كان يصطحبه معه في المناسبات ويحبّه ويقرّبه منه حتى مزج حبّ جدّه وحبّ الشّعر لحمه ودمه.
مرّة كتب قصيدة لابأس بها من مبتدئ وعرضها على معلّم اللغة العربيّة , فنظر إليها (بربع عين) ثمّ ألقاها جانباً دون أن يعلّق أو يشجّع أو يحاول اكتشاف موهبة وصقلها ! وأنّى له ذلك وتخصصه في الأصل رياضيات ؟!!
بدأ عيد يكبر ويتغيّر صوته وتظهر عليه علامات الرّجولة,فبرع شابّاً وسيماً ذكياً تعلّم من أبيه وجدّه نقاء القرية وعفويتها وطيبة سجيّة أهلها.
وبدأ والده يسند إليه إلى جانب رعي الأغنام بيع الخضار في السوق الشعبي المجاور لقريتهم فكان نعم المعين لأبيه.
ذات مرّة تشجّع وعرض على جدّه الشاعر قصيدة ,فصاح جده بأعلى صوته : لئن صدقت نبوءتي لهو خليفة جدّة,وما جانبت توقعات جدّه الصواب فقد صار عيد الشاعر الكبير الذي يصب السحر في آذان من يسمعه ويشده القلوب بعذوبة أحرفه ولكن القدر لم يمهل جدّه حتى يطرب بسماعه.
كان في أحد الأيام يرعى غنمه فعطش ثمّ عمد إلى بئر في طرف القرية ليرتوي ,فلمّا اقترب وإذ بإحدى بنات القرية اللواتي يرعين الغنم حائرة على (قُفّ ) البئر ,فتنحنح من بعيد وسلّم , إذ كان قد رضع الشّهامة مع حليب أمّه , فهو لايرى بنات قريته إلّا أخواته,سلّم في أدب فإذا بها "هيا" التي طالما رعى وإيّاها البهم سويّاً ,ولكن عادتهم في القرية إذا كبروا فمن العيب أن يرعى الصبية والبنات سويّاً فالبنات يأخذن جانباً والشباب في الجانب البعيد.
سألها مستغرباً : مالك أختاه حائرة ؟ ردّت : انقطع الدّلو وسقط في البئر ولا أدري ماذا أقول لأهلي؟!
شمّر ثوبه عيد وانبرى كالليث قدوماً فنزل البئر وبعد هنيهة صعد بالدّلو معه,شَكَرتْ له صنيعه في خجل عذراء وكأنّ الجوري أعارها لون وجنتيها ,ولمّا أرادت الانصراف نظرت إلى شجرة رمّان تطلّ على البئر مباشرة,وكان الموسم قد انتهى منذ أيام قلائل ولم يتبقَى سوى رمّانة واحدة تتدلى إلى ناحية البئر,نظرت إليها بلهفة ,فسألها عيد: أختي "هيا " أتريدين الرّمّانة؟ ضحكت خجلاً وأرخت طرفها وتصبّب العرق من جبينها كأنّه حبّات اللؤلؤ,صعد كالبرق إلى الشجرة فصاحت به متوسلة:أخي عيد ..عيد..عيد أرجوك انزل لا تسقط في البئر وأكون أنا السبب.
لم يأبه لها ومضى إلى ما أراد فتناوش الرّمانة الكبيرة بيده وهوى به الغصن وكاد أن يسقط في البئر لولا رحمة الله.
اقترب منها وناولها,ولأنّ العفاف يجري في خلاياهما لم تقع عين على عين,اللهمّ إلّا حين وضع الرّمّأنة في يدها لمست أطراف يده أطراف يدها بالخطأ.
وهنا لمست الروح الروح وهمست القلوب للقلوب بترانيم يعجز القلم عن وصفها,فكانت تلك اللّمسة بمثابة تيّار من العشق العذري جرى في خلاياهما ,مضت وفي قلبها وقلبه ما كان في قلبي جميل وبثينة ,فقد شهقت حبّه مع أنفاسها وشهق حبّها حتى تضلّع ولهاً.
خيّم المساء وكلا العاشقين يتقلب في فراشه ولهاً , يخفي بين حناياه شوقاً لو فنيت الأقلام وتطاولت الصحف ما قدر الأدباء والشعراء وصفه.
مضت الأيام ولم يلتقيا بعد ذلك,لكن الخيال لا يُسجن ,وميادين القلوب المخضرّة تعجّ بغزلان الهوى العذري في سكون.
يخال صورتها في تولين البدر ورذاذ الهتّان وسنا ضواحك البروق ويعرك كبديهما عشقاً ,وقلبيهما شوقاً لولا الأضلاع تحرسهما لخرجت قلوبهما مفشية سرّ الهوى.
صارا لا يلتذّان بكرى,ولا يستسيغان لقمة أو جرعة ماء ,حتى أصابهما الهزال واصفرّت الألوان,وأنّى لهوىً صاب سويداء القلب وتربّع على رياض الأرواح أن لا يدك الحال دكّ الدانميت للجبال!
بلغ عيد الثامنة عشرة ,وذات يوماً طلب منه أبوه أن يرافقه إلى المدينة التي تبعد 200كلم عن قريته.
استقلّا وانيت بيك أب من طراز هايلوكس موديل 1976م , وكان الأب حاذقاً وله هدف , فهو يعلم أنّ الأسفار مفتاح القلوب.
وفي الطريق دار الحديث في مواضيع شتّى , وصلوا المدينة وباعا في سوق الخضار ما حملاه معهما من الخضار من مزرعتهم,وتوجّهوا إلى أحد الأسواق الشّعبيّة ليكرم ابا عيد عيداً بهديّة "مسدس نصف" كاد عيد أن يطير فرحاً بهذه الهديّة الغالية وارتسمت البسمة على شفافهه بعد أن أسَرَتها جيوش العشق شهوراً .
وفي طريق العودة بدأ أبا عيد يتسلل إلى دواخل ابنه , قال أبو عيد : يا عيد يا ولدي هبني لك صاحباً وصديقاً ولنلقي بالكلفة جانباً,قال عيد: آمرني يا أبتي روحي فداك, قال أبوعيد : وتعدني بالصّراحة ؟ قال عيد: أعاهدك يا أبت على ذلك .
قال أبو عيد : يا عيد منذ عدّة أشهر وأنت شارد الذهن مكدود الطبع لا نكاد نرى بسمة شفاهك,فما الخطب؟
أطرق عيد هنيهة , ثم رد: يا أبتِ .. امممم أنا .. أنا عاشقاً يا أبتِ.
نظر أبوه إليه وضحك قائلاً : لست بالسهل يا عيد كأبيك عشقت أمّك ثم تزوجتها عن حبٍ عذري.
ثمّ أردف أبو عيد: طيب ومن هي سعيدة الحظّ التي عشقتها ياعيد؟
سكت قليلاً ثمّ قال : "هيا" يا أبي.
أوقف أبوه السيّارة جانباً ونظر إلى عيد,تلكأ عيد قليلاً ظانّاً أنّ أباه لم يعجبه ذلك,فقال الأب:يا سلام دين وحسب وجمال وبيت محترم , ولو تريد بكره أخطبها لك.
رقصت ملائكة الفرح في قلب عيد,وصعقه شئ كالبرق,وغنّت بأعماقه رسل الوصل, وانتابه شعوراً كشعور يعقوب بعودة يوسف عليهما السلام.
وبالفعل رتّبوا للخطبة ,وفي اليوم الموعود فاحت شذى السعادة بخطبة العاشقين,واتفقوا على أن يكون الزواج في الصيف , فعيد سيكون حاملاً للثانوية
( ماجستير زمانه) والوظيفة في المدينة القريبة مضمونة, وتكاليف الزواج لا تتعدّى الألوف البسيطة.
تخرّج عيد من الثانوية وعلى الفور طلب من أبيه أن يطلب من عمّه الملكة,وبالفعل اتفق أبوه وعمّه على أن تكون الملكة الخميس القادم.
وأطلّ الخميس والشوق يلهب حنايا الأرواح , والساعة تسير في تباطؤ وكأنّها تغيظ العاشقين, عُقد القران ثمّ استأذن عيد عمّه أن يدخل ليسلم على عمّته وزوجته فلم يمانع عمّه, دخل عيد ومعه بعض الهدايا لشقيقة روحه , وكتب بخطه الجميل على إحدى الهدايا [ تمازجت الأرواح حتى كأننا = = بروحٍ وقلبٍ واحدٍ نتبادله!!]
دخل وسلّم , يقول عيد:لم أرى تلك الراعية التي ترفل في أسمالٍ قديمة, وتغطّي رأسها بخمارٍ أبيضّ من الشمس, وإنّما رأيت كوكباً أزهر ووردةً فواحة يتصببّ الدّهن من جيدها!
صافحها .. وهناك ذابت كل زفرة ألم وشوق ساقها ليل الفراق والوجد,وضحكت كل خليّة في أديمهما.
لم يصدّق أنّ هذه الفاتنة ذات الشّعر الأشقر والعيون التي كأنّما تشكو مرضاً حين نظر إليها ,والمشية التي شابهت خِشف ريماً يرقص إلى جانب أمّه طرِباً!
والبراءة التي تشبه حمامة دوح تغنّي على غصن الغرب , لم يصدّق أنّها هي تلك التي رأها عند البئر!
عُقد القران وأصبح يزورهم كل يوم , ويكتب لبلسم جراح قلبه أشعاراً إحساسها يأخذ بالقلوب , كقوله :
ثلجيّة النبرات إنّ قلوبنا = = خلقت لتحيا عشقنا المعشوشبا
أو كقوله بالشعبي :
ريّان عود إليا تمايس تقل خِبّ = = توّه نشى من شجْرة الخيزرانـــــة
شبّ الفؤاد وشب روحي بعد شبّ = = وزاد الحلا زود الدّلع والرّزانة!!
لم يبقَ عن موعد الزواج سوى شهرين, وبدأت العروس تُجهّز للزواج في غير تكلّف ,جلّ ما في الأمر ثوباً تقليدي تخيطه هي بيدها وتساعدها أمّها.
ناهيك عن طوقاً من الفضّه الذي سيقدّمه لها الزوج مع أربعة حجول (بناجر) وبعض الخواتم.
في هذه الأثناء بدأت هيا تفقد وزنها بشكلٍ لافت للنظر وتفقد أيضاً نشاطها وحيوتها ورغبتها في الأكل, وظهر سواداً تحت عينيها وشئ من الصفرة في عينيها.
أخذوها للمستوصف في قريةٍ مجاورة فأعطاها الطبيب بعض الأدوية إلّا أنّها لم تجدِ نفعاً بل ازدادت سوءاً.
قرر عيد وعمّه أن يأخذوها لمستشفى المدينة,وهناك في المستشفى أجريت تحاليل تلو التحاليل وإشعّات تلو الإشعات, وبدايةً قال لهم الطبيب : يشتبه خرّاجة في الكبد,سأله أبوها : وهل من أمل في الشفاء يا دكتور: قال الطبيب: إذا خرّاجة الأمر بسيط بإذن الله.
أخذوا عيّنات تحاليل دقيقة وأخبروهم أنّ النتيجة بعد ثلاثة أيّام فاستأجروا فندقاً بالقرب من المستشفى ووقفوا على شرفة الانتظار.
وجاء اليوم الموعود ودخلوا على الطبيب ,نظر الطبيب إلى الملفّ ثمّ أطرق وتمعّر وجهه, أوجم الجميع قليلاً,ثم تكلّم أبو هيا قائلاً : يا دكتور أخبرنا ما الأمر؟
تنهّد الطبيب ثم قال : الحقيقة هي ليست خرّاجه وإنّما يظهر في العيّنة " ورم بالكبد" لكن الحمد لله الشفاء وارد بإذن الله.
أمر الطبيب بأن ترقد هيا بالمستشفى حتى تقرر اللجنة الطبيّة خطّة علاجها كما ذكر لهم الطبيب نفسه, فخيّم الحزن على المكان,وكأنّي بأقصى أفئدتهم وهي ترددّ وجداً :لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم.
أمّا هيا فصبّت من الدّموع ما لو صُبّ على جلمودٍ لأذابه,أمّا عيد فتملّكه الذهول والصّمت فلا يقدر حراكاً ولا كلاماً.
أُدخلت هيا للتنويم بالقسم النسائي , وعاد عيد للقرية ليحضر عمته "أمّ هيا" لتقف إلى جانب ابنتها.
وفي اليوم الرابع لهيا بالمستشفى انفرد الطبيب بأبي هيا وقال له: يا أبا هيا نحن مؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشرّه و.... قاطعه أبو هيا بفطرة القروي وعفويته : يا دكتور أخبرني ما الأمر وأرجوك أعطني من الأخير.
قال الدكتور: أنا أرى أن لا داعٍ لبقاء هيا بالمستشفى لأنّه لن يجدي معها علاج لا في البلد ولا في أي مكان بالعالم,للأسف الشديد الورم استشرى في صمت وسيطر على الكبد,فرحمة الله فوق كل شئ , لكن من جانب طبّي يا أبا هيا للأسف لا أمل بالشفاء, نحن فقط سنصف بعض المهدئات النفسية وبعض المنشطات لتنتعش قليلاً وليس أكثرمن هذا.
أجريت إجراءات الخروج ورحلوا إلى قريتهم يعلو الحزن وجوههم النظرة وقلوبهم النقيّة.
بعد عدّة أسابيع زار أبو هيا أبو عيد في بيته وفي تردّد وحيرة فاتحهم في موضوع الزواج الذي اقترب موعده قائلاً : يا جماعة قدر الله حصل.. والآن لا نعلم هيا كم ستعيش ولا أريد أن أعلّق عيد بإنسانة لا حيّة فترجى ولا ميّتة فتنعى.
ردّ أبو عيد: والرأي يا أبا هيا , ذرفت عينا أبو هيا دمعاً كالجمر يحرق خدّيه ثم قال : يشوف عيد حياته وتواجه ابنتي قدرها ,أرى أن ينفصلون ,ويبقى الودّ بيننا.
قال أبو عيد: أنا سأفصل الموضوع إن رضيت يا أبا هيا,قال أبو هيا: الذي تقوله لن أغيره مثقال ذرّه وأنا أبحث عن رضاكم وسعادتكم.
قال أبو عيد: نترك الرأي لعيد وهو يقرّر.
قال أبو هيا حاضر , هاه يا ولدي يا عيد.
أطرق عيد قليلاً وبصره إلى الأرض ثمّ رفع رأسه وقال : والله لو لم يُبقي الورم إلّا خنصرها لتزوجته , نعم هو لا يعلم أنّ شفائها ميئوس منه إلّا أنا وأنتم , لكن لا يهمني ذلك , لو لم يبقى من حياتها غير ساعة لما فرّطتُ بها!!
اندهش أبوه وعمّه لوفائه الذي لا يشبهه وفاء,فكيف ستزفّ عروساً وهي ميئوساً من شفاءها إلّا أن يشاء الله.
قال عيد: لا تفاجئا هو ذاك وقد عاهدتُ هيا أن لا أتركها ما دامت تشمّ الهواء.
عاد أبو هيا وأخبرأهله الخبر ,فقالوا على بركة الله .
مرّت الأيام واقترب موعد العرس ,وفي ليلة ذلك الخميس زُفّت هيا إلى عيد في منظرٍ لا يجد الأدباء والحكماء والبلغاء تعريفاً للحب والوفاء أحسن منه.
نسيت هيا في تلك الفترة المرض فقد غمرها عيد بقلب الزوج الحاني حتى بلّ روحها في سلسبيل من الحنان الذي تستجلب الزهور منه جمالها ويقتبس الورد منه عطره الفوّاح .
مضت أربعة أشهر وهي بين أمل وألم تنشط مع المنشطات وأحياناً ينهكها المرض .
وفي بداية الشهر الخامس من الزواج بدأت حالتها الصحيّة تسوء أكثر من ذي قبل فكان لا بدّ من أخذها لمستشفى المدينة الذي شُخّصت فيه,رقدت هناك خمسة عشر يوماً ثمّ توقّفت الكبد عن العمل تماما ما أضطر الطبيب لعمل فتحة تصريف في البطن عبر أنبوب.
وفي يوم الثلاثاء غابت عن الوعي تماماً وأقاربها حولها يحفّهم الحزن , بقيت ثلاثة أيام في غيبوبتها وعندما كان المؤذن يؤذن لصلاة فجر الجمعة وعيد واضعاً يده على جبينها,فتحت عيناها ونظرت إلى عيد وسقطت دمعتين من قلبها لا من عينيها ثم قالت:الله اسأل أن يجمعني بكم تحت ظلّ عرشه, وأمسكت بيدها اليسرى على يد عيد ,ورفعت سبابتها اليمين , وكان المؤذن قد ختم الأذان بلا إله إلّا الله , لتردد معه لا إله إلا الله ويتبع بصرها روحها الطاهرة إلى السماء.
أنكب عيد عليها يبكي بكاء الثكالى,فحاول أحد أصهاره أن ينحيه,فأوقفه أبوه قائلاً وهو يجهش باكياً :دعه يا خالد يبكي فوالله لو لم يفعل لانصدعت كبده وجداً.
غُسّلت وجُهّزت ليُصلّى عليها بعد الجمعة , وهناك بالمسجد اجتمعت أمّة من النّاس قال كل من حضر :أنّهم أضعاف أضعاف ما يرونه كل جمعة ,ولا بِدعاً في ذلك فالموفق يسخّر الله له في الدنيا والآخرة .
صُلّي عليها بعد الجمعة وحملت على أطراف أصابع الرّجال كالطائر يطير على رؤوسهم .
دُفنت والأسى يعتصر قلوب الجميع على نجيبة شريفة طيّبة قدّمت الخير فوجدت بوادره في الدنيا قبل الآخرة.
أمّا عيد فكان يُهادى بين رجلين تخطّ قدماه الأرض ولا يقدر على المشي,وهو يخرج من المقبرة دحرج نظرة إلى القبر مصحوبة بأسى لو صبّ على قلب بعير لفطره , وهاجساً في صدره يقول: ليت قبراً حواك يا هيا لملم شتات عيداً معك,ليلتصق الحشى بالحشى إلى يوم يبعثون.