زلابيا ...وحمص مقلي... وحنتوت!
في ليالي الشتاء البعيدة...
كانت جدتي - كلّ ليلةٍ - تروي لنا حكاية االقريّة السعيدة، التي أمطرتها الدنيّا زلابيا، فأمدّ أنا عنقي، أتصور شكلها، وأخرجُ لساني، أتذوق قطرها، لكنّ جدتي كانت سرعان ما تقصفُ فرحتنا؛ وتُعرّج إلى دهاليز حكاية ( أبو رجل مسلوخة) ليشتّ خيالي؛ ويزودني بإضافات أشدّ، وأعتى لشكل ساقه، ولخطوّه المتنافر القادم!
فإذا ما دفنتُ رأسي في بطانيّة الأمم المتحدة؛، صار لزاما – فورا كالعادة – أن أقوم؛ لأذهب إلى ذاك الحانوت البعيد، كنتُ أنا الملبي الساعي لجلب ما يحتاجون، سكر.. شاي... أو حتى علبة ثقاب..كانت ظلمة كوخنا تسلمني لظلمة الزقاق، ويبتلعني بئرُ الظلام.. فيأتي ( أبو رجل مسلوخة) مهرولا، يترصدني هناك، كانت تصدمني جدران الأكواخ، ويصفعُ وجهي صفيح نوافذ مخيمنا الواطئة المشرعة للظلام.. ولكم لحقت مؤخرتي – وأنا أجري - الكلاب!..
وأعودُ؛ لأغفو دوما، وثغري اللاهث يبحث عن الزلابيا التي لا تأتي من السماء!
في الغسق..كنا نحمل بعضنا، نتماسك بالأذرع، الظهر إلى الظهر، ننثني بالتوالي، وحوار لعبتنا يدور:
( شفت القمر) ( شفته) ( شو تحته) ( حمص مقلي) (انزل نقي)
مشكلتنا كانت من يحمل الحنتوت؟
مرّةً تهربت منه؛ فهاجمني، وتحت ثقله اضطررت لثقب بطنه السمين بسكين ( السمكة ) الصغير، يومها رأيت دمه، وهربت من عقاب أهلي؛ إلى أن أمسك بي شبحُ أخي الكبير في كحل الليل!
اسمُ صاحبنا حنتوت ذاك كان مثار سخرية جمعنا، ومصدر مشاكلنا المفاجئة.!
بعدها بسنوات – وقد كنا على وشك البلوغ - عبرت اليهود إلى ما تبقى من البلاد، ورجالنا - من المحيط إلى الخليجِ -جلسوا يلطمون كما النساء..!
في ميدان فلسطين الذي يتوسط غزة ، رقبتُ الحنتوت، وهو يعرض على الخواجات القادمين مسح سياراتهم، وبالقرب من البنك العربيّ؛ كان الصبيّة الذين كبروا؛ يطوفون على (الزائرين الجدد)، ويعرضون بضاعتهم الخفيفة.. جوار البنك كانت تأتي الرصيف – كل يوم في ذات الميعاد - حافلةٌ خضراء، وتتوقف...
ورأيتُ البعض يصعدها... لتغادر بهم إلى جسر نهر الأردن!
الحنتوت كان كل يوم يرتقي درجات مدخل الحافلة، ويناديني، ثمّ ينزل إليَّ مستاءً!
في يومٍ.. انطلقت الحافلة.. وصوته ينادي!
ذهب الحنتوت إلى شرق الأردن!
هاجر ببطنه الغضّة الطريّة، ولمّا يشتدّ عوده، وهناك على الرصيف تركني ذاهلا!
جاء الحنتوت ونحن كهول، قلت أذهب لأسلّم، فهو صاحبُ حقٌّ علينا، وواجب، كان – رغم النجوم التي على كتفيه - لم يزل رثّا، سمينا، شعره طائرٌ من غير ريح.. لم يعرفني الحنتوت، قلت ( إيه...سنين طويلة.. تساقط شعرنا، وما تبقى منه شاب ) لكنّ الحنتوت سمع اسمي؛ ولمّا يذكرني، عجبت أكثر حين سألني:
أظن التقينا من قبل؟
قلت: أين؟
قال: أظن في سجن غزة المركزيّ؟
لحظنها جنّ جنوني، وهتفت: أتعرف سجن غزة يا حنتوت؟
فتضاحك الحاضرون من سكان الحي.
وأكملت مرعدا: وهل ينسى المرؤ كيف رحل عن وطنه يا حنتوت؟؟
غضبت من الحنتوت، لكني هذه المرّة كنتُ بلا سكين سمكة !