|
اشكاليات الاندماج في المهجر بقلم الأديبة الشاعرة كلاديس مطر مقدمة ليس المشهد الخارجي "للهوية القومية العربية" قطعة موسيقية من دون نشاز، فتحت هذا العنوان الرفيع، وهذا الموقف الايديولوجي المبدأي تغلي التحديات في مرجل لم يبرد يوما، ولعل أبرزها؛ الاثنيات المتعددة التي تعيش منذ قرون في هذه المساحة الجغرافية التي تعرف اليوم باسم " الوطن العربي"، كأكراد شمال العراق، والأمازيغ في الأقطار المغاربية، والزنج في جنوب السودان وموريتانيا، وأقليات أخرى إما هاجرت الى منطقتنا في ظروف شتى أو كانت فيها اصلا كالأرمن والشركس والاشوريين والاكراد وغيرهم في أقطار المشرق العربي (بلاد الشام). والحق إن بناء مجتمع قومي عربي معاصر قادر وقوي إنما يعتبر أمراً شبه مستحيل في غياب "صيغة قومية جديدة" تستوعب كل الفئات الاثنية على امتداد مساحة هذا الوطن العربي الكبير، وبالتالي انتاج هوية قومية ووطنية تشتمل على هذه التعددية الثقافية والطائفية والاجتماعية. لكن هذا الأمر يواجه تحديات حقيقية مسكوت عنها - أكان قصدا أم بغير قصد ـ مع انها ليست التحدي الوحيد أمام انتاج هوية قومية متجانسة، وتتجلى على الاغلب في:
1- تنامي الأيديولوجيات القومية والسياسية والدينية التي لربما حُجب عنها انه اذا لم تتطابق الخريطة السياسية مع الخريطة الثقافيةللأمة فانه من غير الممكن انتاج هوية قومية او وطنية متجانسة تشمل كل ابناء الوطن العربي وتحتوي على اختلافاتهم الاثنية (مع التأكيد على أهمية هذه الايدلوجيات التي استطاعت في نفس الوقت ان تقدم حراكا كبيراً لم يكن ممكنا من قبل)، [1] وإن كان من الصعب العثور على جذور اثنية خالصة لدى كل مجموعة و ذلك بسبب عملية التمازج و التثاقف التي اعقبت الحروب وموجات الهجرة وظهور الديانات الكبرى في هذه المنطقة. ان هذا الاختلاف الاثني - الثقافي لا يتنافى مع الوصول الى هوية وطنية وقومية واحدة لجميع افراد البلد الواحد بتعددياته وتبايناته الاجتماعية والدينية. لكن الايديولوجيات السياسية العربية (القومية والماركسية [2] والدينية) لم تستطع ان تخلق المناخ النفسي والوجداني في الفرد المنتمي الى أقلية إثنية لكي يقول (انا عربي)، كهوية وطنية، قبل ان يعتبر نفسه و قبل كل شيىء منتميا الى طائفته او ثقافته الخاصة، وهكذا بقيت الغالبية من بينهم تشعر بالانتماء الى تميزها الثقافي الاثني او الطائفي اكتر من انتماءها للارض الواحدة المشتركة او للمصير المشترك او بقية العوامل الاخرى، وذلك لان هذه الايديولوجيات قد اهملت التعاطي مع الاختلاف بينما كان من الممكن لعملية الاستيعاب ـ عن طريق الاعتراف بهذه التعددية ـ ان تساعد اكثر في تنامي الاحساس بالهوية الوطنية والقومية. إن هذا الفشل في خلق "الهوية الوطنية" بتمايزاتها الغنية الاثنية والثقافية والذي لم يعطيها حقها "كمشروع"، جعل هذه الهوية، وكنتيجة لذلك، في حالة من الضبابية والتشظي والصراع بين سمات كانت تطغى عليها بحسب المرحلة، الواحدة على الاخرى وبشكل دوري وحسب الظروف السياسية او الاقتصادية: السمة العربية، الاسلامية والقطرية.[3] 2- التعصب والتطرف الديني الذان يمنعان وبشكل كبير جدا من رسم حدود هذه الهوية القومية او الوطنية. فحين يصل التطرف الى حدود القتل واحتكار الحقيقة لفئة دون اخرى، فانه من الصعب الوصول الى صيغة متجانسة للهوية القومية. والتعصب هو نتاج: 1) لفعل قمع سياسي أجندته واضحة تحت الشمس ؛ إن الفكر السياسي الاسلامي قد ميز بين البلاد التي فُتحت عنوة وبين تلك التي قام ببنائها المسلمون كالبصرة والكوفة والفسطاط وبغداد و واسط والقيروان.... الخ [4] ولقد بنى حراكه ـ هذا الفكر - على الامن القومي للمجتمع الاسلامي قبل أي شيىء آخر حيث كان التشدد اكبر في الدول التي فتحت عنوة عنها في الدول التي فتحت عن طريق التوافق و الصلح حيث تم ضبط الامر عن طريق شروط ومعاهدات بين الفاتحين وسكان المدن التي استقبلت الفتح من دون مقاومة، بينما في البلاد التي مصرها المسلمون ولم يسكن بها احد سواهم كان لا يجوز بناء غير المعابد الاسلامية فيها. 2) البعد الاقتصادي للتعصب، خصوصا عندما تتركز مشاريع التنمية في المركز وتهمل الاطراف التي غالبا ما تقطن فيها الاقليات بحيث يبدو الامر وكأنه انحيازا من الاكثرية المهيمنة ضد الاثنيات الثقافية الاخرى. أما الاندماج والذوبان القسري للاقليات في الثقافة القومية التي تنتمي اليها الاغلبيةمع الابقاء على هيمنة ثقافة الاكثرية وفوقيتها و تحكمها في أقليات تدور في فلكها وتنتمي الى درك اقل في سلم التراتب الاجتماعي social stratification فهو أمر عقيم. والحق إن التراتبية الهرمية للأدوار في المجتمع القطري وموقع الفرد او المجموعة فيه إنما هو محكوم: آ) بهوية هذا الفرد أو هذه المجموعة وموقعها في محيطها. ب) هوية الثقافة المهيمنة وتحكمها في ضبط هذه الادوار ضمن نظام (كوته) محددة من خلال معيار ليبرالي معين. 3) إذا كانت العروبة هي المناخ الطبيعي والحيوي (ثقافيا واجتماعيا وسياسيا) عبر امتداد أقطار الوطن العربي كافة، فان الواقع يقول ان هذه الاقليات الاثنية في بعض دول الوطن العربي لا يشعر اغلبها بأنهم عربا. وهذا أمر لا يمكن تجنبه اذا ما كان هناك رغبة قوية في خلق هذه الهوية الوطنية وهذا الرابط القومي المتين لجميع افراد الامة. فالاحساس بالهوية الوطنية ( المواطنة ) والقومية لا يمكن ان يعلو او يسمو على بقية الولاءات الاخرى الا من خلال استيعاب هذه "الاختلافات" والاعتراف بها كعامل إغناء لهذه الهوية وليس عن طريق تجاهلها او طمسها وذلك لأن هذه الخصوصيات الثقافية إنما ظهرت عبر مراحل تاريخية طويلة واخذت رسوخها الثقافي عبر الخط الزمني الطويل، وإن كنا نأخذ بعين الاعتبار كثيرا عملية التمازج والتثاقف التي عاشتها وتعيشها هذه الاثنيات عبر فترات الحروب والانزياحات الجغرافية الكبرى، او تلك التي وقعت تحت تاثيرها بشكل طبيعي في المناطق التي استقرت فيها فأخذت منها وأعطتها. إن الفكر القومي الذي شُغل بقضايا كبرى حقا مثل الوحدة والقطرية والتجزئة وتبناها كجزء من مشروعه الكبير ـ وهي قضايا في غاية الاهمية بل انها قضايا اخلاقية ومصيرية وحيوية ايضا – لم يعمل بنفس الزخم على تبني القضايا الوطنية حقا ومن بينها موضوع الاثنيات، ولم يجد لها الحل الذي يجعلها كلها في بوتقة العروبة والقومية والنهج الوحدوي. لكن إذ نبحث عن حل لموضوع الاقليات ضمن الاطار القطري اوالقومي الاوسع، فهناك قواسم مشتركة لامكانية ايجاد حل لها عن طريق: 1) قيام نظام مدني ديمقراطي مؤسساتي يضمن تطبيق القانون على كل افراد المجتمع (بكل طبقاته وثقافاته وتعدده واختلافه الاثني) بحيث يكون للجميع القدرة على المشاركة في بناء الدولة و صنع قراراتها. 2) تفعيل برامج تنموية اقتصادية حقيقية تهتم بالمناطق التي تعيش فيها الاقليات وتفي بحاجاتها الاساسية وتعمل على تحقيق مصالحها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية فتشعر بالانتماء للوطن والاندماج في مخططاته المستقبلية. 3) تمكين اللغة العربية بين هذه الاقليات من دون قسر بحيث تمشي جنبا الى جنب مع اعتراف حقيقي بهذه الثقافات والعمل على تطويرها بحيث تغني الثقافة المهيمنة وترفدها وتعطيها صورتها الاكمل عن وجه المجتمع المتعدد الحقيقي. [5] 4) البحث من دون كلل او ملل عن القواسم المشتركة التي تربط هذه المجموعات ببعضها البعض أكانت الدين أم العروبة او حتى تاريخ المنطقة المشترك او المصير(التهديد) المشترك، الامر الذي يخلق رابطة المواطنة بين كل الفئات و الإثنيات فيجعل من الحلم العربي الوحدوي أمر اكثر منطقية وقابلية على التطبيق. ولكن..
ما هو الوطن!!
الوطن ليس فقط مساحة من الارض محررة او اخرى مغتصبة قيد التحرير نكتب فيها الشعر ونذرف من اجلها الدموع متى ابتعدنا عنها. إن اغلب العرب يتطلعون الى اوطانهم انطلاقا من هذه النظرة الرومانسية الوجدانية المليئة بالفانتازيا الوطنية والتاريخية. الوطن، باختصار، "مسقط رأس" بالنسبة للكثيرين و"المكان" الذي ولدوا فيه، وهكذ فإنهم يختزلون مفهومه ليحولوه الى بقعة جغرافية ليس إلا، تجب إما استعادتها – كما أسلفت – إن كانت مغتصبة، او تحريرها إن كانت تُدار من قبل ايديولوجية لا تناسب البعض فيها. إذن، الوطن دائما "مغتصب" بشكل أو بآخر، مسروق، و"تحت الخطر" وهكذا يتحول الى ايقونة او قربان يسعى الكل اليه ولكن من جهات مختلفة وبطرق اغلبها مثير للجدل. اما اليوم فقط تغير هذا المفهوم قليلا – طالما ان المساومة على المساحة اصبحت واردة من اجل السلام!! – ليراد منه مكانا افلاطونيا يسمح بحرية التعبير وذلك على غرار النماذج الغربية ذات الديمقراطية الاستعراضية والمظاهر المثيرة التي تكفلها وثيقة حقوق الانسان التي غدت سلاحا أمضى من اي قنبلة افتراضية اخرى تهدد بها الدول الغربية الشعوب التي لاذت بثقافتها وارتاحت فوقها كسحلية ترقد على صخرة تحت شمس حارقة. اما آخرون فيرون انه المكان "الذين يسجدون فيه لله بحرية" فيحثون خطاهم بهذا الاتجاه ويعملون على ان يحيلوه الى سجادة صلاة كبيرة او معسكرات إدانة يحتكرون فيها الحقيقة وكل ملحقاتها من العيش. بينما هناك من يرى فيه "لمة" للأهل والاصدقاء وذكريات الطفولة والحي والجيران والسوق والبقال وصوت الأذان وجرس الكنيسة والاشجار الكبيرة التي كانت ترصف الطريق من المدرسة للبيت!! وهناك من هم أكثر رومانسية فيرون فيه الحبيبات القديمات البريئات اللواتي لم يعثرن على مثيلاتهن في كل نساء الوطن البديل أو "أطباق" بعينها فيرتبط في عقلهم بأنواع الحمص والكبة والفلافل وغيرها من الاكلات الشعبية الاخرى التي قد لا يكونوا من هواتها اصلا. لكن هناك من يضع كل ما ذكرت على المحك وهو يتطلع اليه بعيون التيه؛ فيرى البؤس يفترشه وكذلك فقدان الكرامة والفقر والظلم والفساد والبطالة وانتشار القيم الظلامية واستعباد المرأة..الخ ؛ وهذه تحديات امام قيام هوية قومية وطنية بامتياز. حين ينهزم الوطن في عقل قاطنه بفعل الاستبداد السياسي او الفساد فانه يتحول الى مثال متطرف في عقله، الى "جنة لوطن افتراضي" يتطلع اليه في نماذج من اوطان اخرى. والقلة هي التي تعرف كيف تفصل "مشاكل الوطن عنه" اي تفصل بين المرحلة وبينه. اما الاكثرية فيدفعها "أسفها علي" الى الاستسلام وترك الذات على هواها في التماهي مع مواصفات الوطن البديل وثقافته. الحقيقة أن الوطن مفهوم "مرتبك" غير واضح في عقل المواطن العربي أكان مقيما في بلده أو كان مهاجرا في بلد آخر. ولأن هذه الارواح المشتاقة والبعيدة جغرافيا عن الوطن تملك احساسا مشوشا غير واضح المعالم بهويتها الوطنية او القومية، فإن تعلقها القلبي بالوطن يمكن ان تطيح به نسمات "حب جديد" لأرض البلد المضيف وهكذا تحيى قصة حب على حساب أطلال قصة اخرى قديمة بينما تعيش الهوية ذروة ازماتها وتعاين اضمحلالها "الاحتفالي" والرمزي تحت مسميات كثيرة شيئا فشيئا. إننا ننتمي لزمن العولمة الذي دمج الهويات كلها بعضها ببعض – هكذا نقنع انفسنا تحت وطأة وخز الضمير الصامت المؤرق – لننتقل الى داخل السرب نحن واولادنا واحفادنا. الوطن هو تماما هذا الاحساس بأنك تموت لو خرجت منه، لو لم تدافع عنه كبؤبؤ عينيك، لو لم تتزوج منه، لو لم تستيقظ كل صباح على شمسه ورائحة ترابه المنبعثة بعد أمطاره الموسمية. انه بكل بساطة قلبك الذي لا يمكن لجراح مهما بلغت مهارته ان يقوم باستبداله بآخر (أكثر حداثة) بحجة ان القديم "انتهى مفعوله" او لم يعد قادرا على التعاطي مع الظروف المستجدة. الوطن هو اللغة بكل ما تحمله من ثقافة وفولكلور. انه ليس الدين وليس البقعة الجغرافية ولا حتى التاريخ المشترك بقدر ما هو التهديد المشترك لهذا التاريخ الذي يقرع بابي و بابك كل يوم فيجعلنا نتحد ونتبادل مخاوفنا بلغة واحدة طارحين حلا مرضيا لي ولك أمام كل التحديات. انني مسيحية وأنت مسلم وآخر يقطن معنا ملحد وآخر ينتمي لايدلوجية مختلفة. من يهمه كل هذا؟ فليس للوطن صفة، ولا طول موجة، ولا سرعة، ولا يمكن قياس ضربات قلبه او كهرباء دماغه لان لا جسد له اللهم هذا الاثر الذي يتركه عليك كل صباح عندما تصحى مدركا ان كل ما يحيط بك قد خرج منك في المساء وعاد اليك مع انبلاج الفجر.
وإذا، من هو المغترب؟
الحقيقة، إني أراه في كل فرد فقد الاحساس بكل ما ذكرته اعلاه بغض النظر إن كان في وطنه أم متجنس لوطن آخر. هناك الكثير من ابناء وطننا ممن فقدوا بوصلة الهوية وتاهوا في بؤر العولمة المتشظية ثقافيا. لقد رفضوا استيعاب الماضي وإنما ارادوا القضاء عليه بكل قسوة بحجة فقدانه لصلاحية العيش. وهكذا يحملون تشوشهم معهم الى بلد المغترب وهناك تكون الضربة القاضية التي تكون أسهل من شربة الماء. حين أعمل عقلي وأفكر بثقافتنا العربية، تجدني لا أعثر على مفهوم مطور ومتطور للأنا او للذات العربية كشخصية قومية بمواصفات مؤثرة و متأثرة من خلال صيرورة زمانية ومكانية...اي اني اراها خارج سياق التطور التاريخي الطبيعي. بالمقابل، ارى هناك عدة ذوات عربية هنا وهناك منها المتأثر بالعولمة ومنها شديد الاضطراب بسبب الشعور بالذنب من التخلي عن الماضي وقيمه. والشخصية القومية العربية في المهجر لا تشذ بطبيعة الحال عن ذلك ان لم نقل انها تعاني اكثر من تشوه في فهمها لذاتها وادراكها لماهيتها ومعرفة ما هي الخطوط الحمراء امام الاندماج وما هي العناصر المسموح استدخالها الى هذه الذات. لقد طغى التراث على الثقافة بقوة لدرجة بدا و كأنه ظلا مهولا فارها بينما قبعت الذات العربية في أسفلة كنقطة صغيرة مترددة، ضئيلة و غير متأكدة من صلابة الارض التي تقف عليها، وهذا ليس أمرا واقعا وانما يرجع الى عوامل كثيرة: 1) غياب نقد حقيقي موضوعي تفكيكي هدفه "تقويض اللاهوت والقضاء على الايديولوجية التي تقول بالاصل و الوحدة المطلقة" كما يقول محمد اراكون. وهذا أمر ليس بالسهل وذلك لانه يتطلب وجود أدوات في التفكير معينة قد لا يكون مالكا لها هذا العقل العربي الذي يطمح الى تفكيك تراثه ولاهوته الثقافي المنزل. كما انه- اي النقد التفكيكي ـ يقود كما يقول دريدا هجوماً ضارباً وحرباً عشواء على الميتافيزيقيا في قراءة النّصوص: فلسفيّةً كانت أو غير فلسفيّة. ويُقصد بالميتافيزيقيا التي يستهدفها التّفكيك في هجومه: "كلّ فكرةٍ ثابتةٍ وساكنةٍ مجتثّةٍ من أصولها الموضوعيّة، وشروطها التّاريخيّة". والتراث العربي مليىء بالغيبيات او الخطاب الضعيف الذي منحناه قوة وبأس مع الوقت ليسا له. إننا في الواقع نرمي الى التدمير من اجل اعادة البناء وفق صيرورة التاريخ الطبيعية والمتحركة. 2) إن الثقافة العربية المعاصرة غير مهيأة اليوم – واليوم أكثر مما مضى – لايجاد مثل هذا النقد تجاه هذا الواقع و ذلك لان أغلب أسسها ايديولوجية و هي ليست مبنية على قاعدة معيارية نقدية علمية او تتسم بالموضوعية كنهج. إذا، المشكلة في عقلنا النقدي انه ايديولوجي (ديني في اغلب الاحيان) ان لم نقل بشكل مستمر ولهذا فانه يتعاطى مع الواقع ونقده بروح الشمولية وهذا يعني عجزه عن تفكيك هذا الواقع في سبيل نقده. والتفكيك مفيد ايضا لا من أجل نقد الذات العربية الثقافية وإنما أيضا من اجل نقد الخطاب الغربي وهيمنته ومعرفة ضوابطه ومنطلقاته ايضا. 3) ضرورة ان نفهم انه لا يوجد قراءة واحدة للواقع الثقافي الغربي الذي نسعى الى الاندماج فيه او قبوله "عولميا". فالوسط الغربي ليس تابو او صنماً لا يمكن المساس به، وإنما هناك قراءات كثيرة لعناصره واجتهادات من أجل فهمه وهذا ما يتيحه المنهج التفكيكي اي: التنوع والاختلاف. وهكذا فإن التفكيك يُعنى: 1) بنقد القيم الاخلاقية النفعية في أي وسط كانت. 2) تقويض العقل /الخطاب الغربي نفسه مع آلياته و أدواته. فالخطاب او الثقافة الغربية هي ثقافة: أ) نفعية، ب) متمحورة حول فلسفتها، ت) لا تهتم الا الى بالمنطوق الشفاهي وتفضله على الكلمة المكتوبة على عكس ما يُظن، إذا، فهي ثقافة شفهية اعلانية واعلامية وبالتالي فهي ثقافة منكفئة على ذاتها وفلسفتها التي هي معيارها الاوحد. 3) ينسف التفكيك نظرية التمركز والفوقية والمطلق والصنمية في الخطاب ويستبدلها بالنسبية والتشظي وانعدام اليقين وضرب المسلمات الشفاهية ونقض الثوابت. انه تفكيك للخطابات الجاهزة. والحضارة الغربية مليئة بالخطابات الجاهزة التي تطلب منك ان تطيع وتطيع باسم القانون ومن اجل ان تتحول الى آلة لا تناقش ولا تنفعل حتى اكثر الاشياء قلة منطق. اذا نحن بصدد تبني فلسفة تشكيكية وذلك بغية ضرب سلطة الخطاب الشفهي للمتكلم و تفضيل سلطة القارىء الحر الذي يعمل عقله ويفكر. والتفكيكية هنا هي منهج في الدراسة النقدية تفضح الميتافيزيقيا اي الغيبيات او كل ما هو مطلق او غير مفهوم او مترجم او منقول. والمجتمع الغربي بحاجة لتفكيك لكي يُفهم و لكي يتم الاندماج فيه بشكل صحي. فهو مليىء، باعتباره استهلاكي، بهذه الغيبيات المطلقة والدعايات التي تعيد تشكيل القيم الاجتماعية والتراثية للشعوب والاثنيات. الاندماج في وسط غريب ننتمي اليه قانونيا تجعلنا فكرة الاندماج في حالة صراع بين نارين: 1) الوفاء للشخصية القومية بكل ما فيها من صالح وطالح وحبس الذات في هذا الوفاء بعيدا عن اي فهم تاريخي للواقع وهذا ما يعني اننا قيد الموت. إن الماضي بكل ما فيه بحاجة الى استيعاب و فهم و ليس بالضرورة الى استمرارية وذلك لأن استمرارية الشيء ذاته امر مستحيل ضمن فهمنا لعملية التطور التاريخي للقيم. 2) الوفاء للبلد المضيف او الذي يحمل المهاجر جنسيته مع علمه ان سياسة هذا البلد تعمل على قمع بلده و احتلالها. ولهذا اقول انالوفاء للشخصية القومية يعني تحويلها لقربان لا يمكن الاقتراب منه وهو ايضا يعني وفاءاً كاملا للماضي بكل عجره ونجره. هناك صراع فطري ذاتي فينا بالنسبة لموقفنا السياسي من الدولة التي نحمل جنسيتها والتي تسعى في الوقت نفسه الى الهيمنة واحتلال الدول وقمعها وتطهيرها عرقيا او القضاء عليها ثقافيا. لكن موقفنا امر لا يتنافى مع عملية الاندماج ويجب على الذات التي تعرف مقوماتها ان تدرك ان هذا النوع "من الخيانة الثانية" هو امر شرعي طالما يتنافى اولا مع حقوق الانسانية و ليس الانسان فقط.فالاندماج لا يعني القبول او "التواطئ" مع الموقف السياسي الامبريالي او العدواني او المعادي للشعوب وللانسانية. الحق إننا لا نريد فهما استشراقيا للهوية القومية العربية ابدا فهذا فهم يتميز بالهمينة و السيطرة والفوقية كما لا نريد بالتالي اندماجا استشراقيا يجعلنا نتبنى السياسة والثقافة الفوقية الاستهلاكية للمجتمع الغربي خصوصا الاميركي. كما لا يمكن تجاهل السياق التاريخي في فهمنا للتراث وللذات او الشخصية القومية العربية وربطها بالمستجدات والعناصر التي تطرأ كل لحظة على البيئة و العوامل الثقافية الجديدة. فهذا امر لا يمكن تجنبه لهذا نتحدث ايضا وبمعنى ما عن "القيمة الاخلاقية للخيانة" وعن ضرورة تقويض البنية الحالية للذات او تفكيكها و نقدها معرفيا لا ايديولوجيا كما نفعل كل مرة ومع ماذا بالضبط يجب على الشخصية القومية العربية ان تندمج.
بعد هذا الفهم للشخصية القومية او للذات يمكننا ان نتعرف او نقرر العناصر التي نريد او نقبل ان تكون عملية الاندماج من خلالها وتلك التي لا نريد ان نجعلها تشوه او تحرف بلورة او فهم هذه الذات. (أي ان نقوم بعملية شاملة وأمينة للفرز بين العناصر التي نريد الحفاظ عليها وتلك التي يتوجب علينا مغادرتها كليا وتاريخيا والتخلي علنها). باختصار، إن الايديولوجيا شأن خاص اما الوطن فلا وكذلك الهوية القومية. بقلم الكاتبة كلاديس مطر Gladys Matar
الكاتب:
ابتسام حياصات بتاريخ: السبت 08-02-2014 10:35 صباحا الزوار: 1616
التعليقات: 0
|