تقول الرواية الشهيرة إن ملكة فرنسا ماري أنطوانيت أفاقت ذات صباح على أصوات جلبة حول القصر فأطلت من شرفتها لترى الجماهير الغاضبة، فسألت: لماذا يصرخون؟ أجابها أحد أفراد الحاشية: يريدون الخبز! فتساءلت بلا اكتراث: لماذا لا يأكلون البسكويت؟! لكن جان جاك روسو الفيلسوف الفرنسي نسب هذه القصة في أحد كتبه إلى إحدى النبيلات، كما كذّبتها رواية أخرى تقول إنها قالت: «لماذا لا يأكلون القحاطة؟»، أي ما يلتصق من الطعام المطبوخ كالأرز في القدر، معتبرة تطلّبهم بطراً، إلا أن أنصار الثورة الفرنسية اعتبروا ترويج قصة تمس رمزية الخبز من أكثر أدوات تأجيج مشاعر الغضب والانتقام نفعاً. فرغيف الخبز نتاج عبقرية البشرية منذ آلاف السنين، استولدته من رموزها المقدسة: قمح الأرض، وملح البحر، وماء النهر، وانحنت لعظمته الآلهة المتخيلة في بلاد الرافدين ومصر القديمة وكان قوت الجميع حتى الخالدين منهم، ولإجلاله نُحتت صور كيفية صناعته على الجداريات الفرعونية، كما وجد علماء الآثار قطعاً من الخبز مدفونة مع الأموات لإطعامهم خلال رحلتهم نحو الآخرة.
وعلى قطعة خبز منسية متعفنة قرب صحون البكتيريا المعقمة في معمل، عرف ألكسندر فليمنغ أهم اكتشاف في عالم الطب، إذ تسبب هذا العفن في قتل البكتيريا وإيقاف نموها، وتحوّل يوماً بعد يوم بمجهود العلماء إلى بنسلين، أنقذت بسببه حياة ملايين البشر ومازالت ..
في بلاد تئن، هي مسقط رأس الخبز وبرزخ الأبدية، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولا له وحده يموت، فلا عاش به من بقي حياً، ولا استزاد منه من مات، وليس بالدم وحده تُغمس لقمه، ولا بالعرق ولا بالحنين، ليس لعفن فليمنغ مكان على كِسرة خبز، ولا لبنسلينه فسحة على رف مستشفى، ليس لكل الروايات التي خبزتها الثورات عبر التاريخ بصحيحها وكذبها في فرن التضحية نص واحد في كتاب ألمه وشقائه، فمنذ سنتين تقريباً لم يضحك لوجه رغيف خبزه القمري الساخن، أو البارد، اليابس، أو البائت. أفواه تشتهيه، ولا شفاه تبتغيه، ولا أمعاء أطفال خاوية ترتجيه، بعضهم دُفن مع رغيفه كما أسلافه منذ آلاف السنين، وبعضهم دُفن ولم يتسنّ له أن يأخذ جسده معه حتى.