|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
تجليات الجزيرة في رواية المنسيون بين ماءين لليلى المطوع
عاشقة
الصحراء :
الأديب منذر اللالا «جدار هو البحر/ أسمع النوارس تصرخ../ ولنا تُلَوِّح!» (نستراداموس). «إنّها النوارس تصرخ بي» «هذا الصباح لم تأتني النوارس، وقفتْ بعيدة منّي، أنثر الطعام ولا تلتفت، أشاركها حزنها على بحر سيُدفن، سيٌدفن البحر بأكمله، ونتحوّل إلى جزيرة بلا ماء. ما الجزيرة بلا هويّتها؟! وهويّتها البحر!»... ليلى المطوع. يكتب المؤلِّفون الفاجعة، ولا يمكن الحدس أو التأكّد إنْ كانوا يكتبونها وهم يتفادون الألم أم يمعنون في استنزاف جرح الكتابة الغائر. عادة نحن متورِّطون كمتلقّين في الألم، فالكاتب يحكي قضايا عصره، ومتورِّطون في تفادي الألم، فهذا ما يفعله غالبيّة الناس، ومتورِّطون بل ربّما نحن متواطئون في أداء دور الضحيّة في لعبة الازدواجيّة التي تحكم مسار الحياة على هذه الأرض. وربّما لا يبحث الكاتب المسكون بفكرة ما، ونراها تتبدّى وتتكرّر في كتاباته، عن خلاص نهائيّ في أعماله، لكنّه يجرِّب نوعا من التطهير، والبحث عن إعادة تشكيل صورة الفاجعة أو محفِّز الكتابة، وربّما صورته الذاتيّة، وصورة مجتمعه، والنزوع نحو جعل القضيّة التي يحكي عنها محكيّة بلغة يفهمها الآخرون، لغة البسطاء لغة الجميع، وساعتها يسهم الفكر الذي تخاطبه الكتابة في إيجاد حلول لها. تتركنا أحياناً الطبيعة نتأمّلها فقط. وحين ندرك كم هي لطيفة أو عنيفة، فإنّ الحديث عنها يبقى سؤالاً وجوديّاً من أسئلة الآداب والحياة. نكتب كثيراً عن البحر، وأحياناً نكتب من تأمّلاتنا له، وأحياناً لنشعر أنّه يشبه ما يحدث داخلنا. أليس ذلك ما يحدث حولنا من كوارث طبيعيّة أو كوارث صنعها الإنسان نفسه؟ فهل نقلّد الطبيعة في عذوبتها وغموضها؟ ولماذا تقسو إلى هذا الحدّ؟ في رواية الكاتبة البحرينيّة ليلى المطوع «منسيون بين ماءين». أسئلة متعدّدة، سؤال عن ماء يقتصّ من ضحاياه، وعن ماء تُرمى إليه الأجساد والنذر ولا يرتوي، وعن ماء عذب وماء مالح لا يختلطان! ذلك الموضوع الذي يجعلنا نفكر في ماهيّته وأهميّته وكنهه وفصوله وعوالمه. لكنّنا في الوقت نفسه ندرك أنّه يملأ أدبنا وأحلامنا الصّغيرة والكبيرة. ننسى أنّه رغم ملوحة مائه، يذكّرنا بأشياء أخرى حدثت معنا. في رواية «البحر» نعثر على ماء آخر، لا نعهده في غمرة حياتنا المنشغلة عنه بشتى الانشغالات، عن بحر يغادر وجهنا من دون أن نسمع الكثير عنه، لكنّه يأبى إلاّ أن نصغي إليه الآن بانتباه! وفي الحقيقة، إنّ علاقة الكاتب بالمكان علاقة حميميّة عميقة ومؤثرة، والمكان لا يستمد هويته وألفته وجمالياته من تضاريسه وتكويناته وحدوده فحسب، وإنّما من تلك العلاقة المتميِّزة معه، ولعلّ مِن أكثر مَن عبّروا عن ذلك، الفيلسوف الفرنسي باشلار في كتابه «جماليات المكان» إذ يذكر أنّ المكان الذي ينجذب نحوه الخيال، لا يبقى مكان غير مبال ذو أبعاد هندسية فقط، فهو مكان قد عاش فيه بشر، ليس بشكل موضوعي فحسب، بل بكل ما في الخيال من تحيّز، ويعلِّق باشلار على هذا قائلا: «الذكريات ساكنة وكلّما كان ارتباطهما بالمكان أكثر تأكيدا، أصبحت أوضح». ومن هنا يرى بعض النقاد أنّ عبقرية الأدب حقّاً، تكون في الحيِّز المكاني. تُقسّم الرواية في سيرة المكان الذي ترويه إلى مرحلتين زمنيتين عاشتها الجزيرة، منذ أنْ جاء جلجامش إلى الجزيرة بحثًا عن زهرة الخلود في البحر، حتّى الزمن الحالي، حيث يُدفنُ الماءان (العذب والمالح)، وتُجرَّف الحقول، وتبقى نخلة واحدة، فالنخلة في كلّ الأديان مقدّسة، وهنا يُحسب للروائية إغفالها اسم الجزيرة لتدلّل على أنّ الخطر الكامن بالبحر يشمل أيّ بقعة جغرافية تمارس عنفها الممنهج اتجاه البحر. إنّ عنوان الرواية لافتٌ يستفزّ المتلقّي؛ وهو قائم على دلالة مكانية قوية، حيث يشير مفهوم «الماءين» على وجود موقع جغرافي محصور بين مصدريين مائيين، مثل الأنهار أو البحار أو الينابيع، ووجود الماء كعنصر رئيس في العنوان يشير إلى طبيعة البيئة المحيطة بالمكان، فالماء غالبا ما يرمز إلى الحياة، عدا ما يمثله العنوان من دلالة رمزية تتجاوز المكانية. والحقيقة أنّ الرواية قد وظّفت التقنيات السردية والتاريخية والأسطورة؛ كي تستطيع أن توصل لنا بجلاء ووضوح الحيثيات التي قامت عليها ثيمة الرواية الكبرى وهي تسليط الضوء على معاناة الإنسان والطبيعة من تغوّل التوسع العمراني والاستيلاء على البحر لتلبية التزايد السكاني في جزيرة البحرين، لهذا فالتشكيل المكاني يعتبر محوراً مهمّاً وأساسيا في هذه الرواية. وقد تعدّد أنماط المكان في الرواية وضمّت شبكة واسعة من الأمكنة، وهي تتوزّع على مساحة النصّ الروائي بين الجزيرة الكبرى ومجموعة الجزر المحيطة بها، مع ذكر تفاصيل أمكنة أخرى مفتوحة ومغلقة كالشاطئ والبحر والينابيع والمعابد والممرّات المائية وقاع البحر. ولا تكاد الرواية تخلو من الأمكنة المفتوحة كالبحر والطبيعة، وهي أشبه بمسرح كبير على الهواء الطّلق تتحرّك فيه الشخصيات والأحداث بكلّ حرية وتمارس تشكيل الحدث وصنع مسيرة المآلات التي تواجهها؛ ومن الأمكنة المفتوحة التي صبغت الرواية بحضور مباشر نجد الأمكنة الآتية: الجزيرة أو مجموعة الجزر، الينبوع أو عين الماء، الشاطئ والبحر. الجزيرة فضاء مفتوح، وهي الرديف للمدينة في مجالها المكاني الأوسع في الرواية، بل هي ساحة المسرح المفتوح الذي تحرّكت فيه الشخصيات، وهي فضاء عمومي مشاع مفتوح للجميع، وهي بالتأكيد فضاء يضجّ بالحركة والحدث والتّغيير. والجزيرة الكبرى «البحرين» التي لم يذكر اسمها إلّا مرّة واحدة بشكل دالٍّ على المكان الجغرافي كما في صفحة (198) حيث تقول الروائية: «ما معنى أنْ أحمل البحرين في هويّتي، ويدفن الماء العذب والمالح؟! ففي وصف الجُزر تقول الروائية: «أدوِّن ما سجلْته على لسان أهل المنطقة، ما أدركته أنّها كانت أرخبيلَ جزٍر، حولها اثنتا عشرة جزيرة وحالة»، وفي وصف آخر تقول عن الجُزر قبل أنْ تُدفن وتُرصف وتُجرف البساتين ويختفي البحر الذي كان بينهما ليمتدّ العمران بينهما فيما بعد: «فلدينا كلّ ما نحتاج إليه هنا، أرض زراعية وبحر، وهناك في الوسط جزيرة خلابة، كلّها نخيل وعيون وثمار لذيذة، حين ينحسر الماء، نسير عليه، لا تظهر أرض البحر، ينحسر فقط ليصل إلى الركبة، ثمّ دفن ورصف، الجزيرة كانت جميلة.» (ص 201 – 203). وفي وصف آخر للجزيرة تظهر معاناتها والحال الذي وصلت إليه بعد دفن البحر، يقول الراوي العليم على لسان جدّة ناديا نجوى: «حين لم تكن الطبيعة تعترف بالتقسيمات التي وضع حدودَها البشر، تتمدّد الأشجار في كلّ الاتّجاهات، جذورها في قرية وثمرها يسقط في قرية أخرى، كانت هذه الأرض مجموعة كتل صخرية في الغرب الشمالي، وفي وسط المنحدرات الصخرية والوديان ذات المياه العذبة، ومن حولها جزر لا حصر لها. أما أطرافها، فكانت خضراء مثمرة، وعيونها متفجِّرة من كلِّ حدب، حتّى إنّه كان يعُتقد أن أسفل الجزيرة ماء، وفي أيّ ركن تضرب فأسك بشدّة، فسيتدفق الينبوع ليروي أرضك. ص 76؛ وهنا أتقنت الرّوائية وضع المكان داخل ثنائيات ضدّية بين الألفة والعداء، فالجزيرة في موسم الجفاف «حيث لا رحمة نزلت على الجزيرة في هذا الموسم، الماء في الآبار بدأ يجفّ، والعيون ثقل ماؤها عكراً ذا رائحة، يسمِّم الأجساد، لا يعود نقيّاً مهما رموا الجمر فيه» ص 12 «راح ينظر الى المكان؛ أرض عارية لا خضرة فيها، كلّ ما فيها ناله الجفاف» ص12، وفي وصف آخر للجزيرة وبصورة مغايرة للأولى: «وأزهار الربيع الصفراء التي تنتشر في الجزيرة تعلن عن موسم الربيع تقطف، فيصطف أهالي المستوطنة حول النبع، ثمّ يقذفون هداياهم وأذرعهم ترتفع إلى أعلى، يصلّون، حتّى طمس سطح الماء الذي يلتفّ على المعبد .. امتلأت حظيرة الأضاحي، يجري آيا ناصر في كلّ مكان، يساعد الكهنة، يقدِّم الخبز لأهل الجزيرة، يجهِّز أواني النبيذ» ص 98 ونجد هنا استمراراً على ملامح قسوة الجزيرة ويوضِّح الكاتب على لسان الرواي العليم حالة زوج سليمة بعد أنْ ضحى بإبنته من أجل توقف الجفاف: «الأرض تبتل بدموعهنّ، والشّمس، حين تشرق، تحرق أجسادهنّ حتّى يرتوي التراب بالماء الخارج من الجلد. يتسلقنّ الحفر، ولكن يسقطنّ متوجعات.. « ص 14. ومن تجليات الجزيرة في الرواية وذكرت بأشكال متعدِّدة وواكبت سياق الرواية؛ وخصّصت الروايئة فصلا كاملا عنه: «سيرة الساكنين بين مدّ وجَزر»، «وهي تسمّى الحالات وهي جزر رملية غير مأهولة بالسّكان، وتظهر وتختفي وقت المدّ والجَزر، وحول هذه الحالات والجزر ينابيع ماء عذبة». وكما في وصف الكاهن دوب سار ماخ: «كما تفعل السلحفاء التي تخدعنا فنظنّ أنّها يابسة، أرض جرداء، وحين تغيب الشّمس، يجد نفسه في البحر عائما، وتظهر الشّمس والقمر خيوطاً من نور تتجاذب ماء البحر، إنّها تختفي كلّ ليلة، وتعاود الظهور بعد اختفاء الإله سين» ص 73 وص 67؛ وقد وظفتها الروائية وجعلتها مشاركة في الحدث الروائي بشكل مباشر، وقد رُبطت بالقوى الخفية والأسطورة كما ورد على لسان الرّاوي العليم بصوت آيا ناصر. تتعدّد الحكايات المضمّنة داخل الجزيرة مثل حكايات سليمة وآيا ناصر والدرويش وحكايات الغواصين وصيادي الأسماك، وعلى هذا الأساس لم يقتصر الرّاوي على سرد الوقائع فقط بل أخذنا إلى داخل البيوت والأماكن الشعبية والمعابد والممرّات المائية والينابيع ليصل بنا إلى العالم السفلي! ظلت الجزيرة حاضرة وبقوّة، إذ شكّلت البطل والشخصيّة الأساسية في عملها الروائي، لهذا فهي تنعى مآلاتها في النهاية، فتقول عنها الروائية على لسان النخلة التي انتزعت من منبتها لإرضاء غرور الإنسان وتغوّله على الطبيعة: «هي الآن كائن مختلف، تعي ذلك، تغمض عينيها. تفتحهما فترى ذاكرة الجزيرة الممتدّة منذ ألوف السنين. إنّها ذاكرة النّخلات الخالدة. وهي نخلة شاهدة على جزيرة بكر. والماءان يسيران في داخلها. ص 428. ليلى المطوع ترسم روايتها «المنسيون بين ماءين» بمثل هذا الوعي، وهي تغطس مفرداتها في عالم الماء وما فيه من رهبة ولعنة وتوق إلى الخلاص، وتخوض تجربة فهم أعماقها الخاصّة وتحوّلات جزيرتها على مدى العصور، لهذا، صنعت الروائية أسطورتها وأسطورتهم وخلدتهم لهدف سام ينهض بالمستقبل بعيدا عن تغوّلات مفاهيم، كـ»الرفاهية» و»الرخاء»، اللتين لعبتا دوراً أساسياً في خلق الخطر المحدِّق بالأرض والماء، وهذه المخاطر مقسمة على ثلاث أزمات خطيرة تعدّ تهديداً للمعمورة، وهي تغيّر المناخ وفقدان التنوّع البيولوجي والتلوّث. وما يزال الكون عاجزا إلى الآن أمام كيفية وضع المخطط العلمي للتعامل مع هذه المخاطر. جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: السبت 09-11-2024 07:01 مساء الزوار: 103
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
رواية مريم... ذاكرة وطن وحكاية أمل | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 27-09-2024 |
رواية جديدة للناشئة للأديبة الأردنية هيا ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 08-09-2024 |
ثورة الذات في رواية لعنة الصفر للكاتبة ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 16-08-2024 |
«أبناء الأرجوان» رواية لديانا دودو تحمل ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 04-06-2024 |
السيكولوجية والبوليفونية في رواية ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 02-06-2024 |
إشهار رواية "اعتراف" للروائية ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 18-05-2024 |
حفل توقيع رواية "غيمة" للكاتبة ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 11-02-2024 |
«لغة اللافا» رواية جديدة للميس نبيل أبو ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 07-11-2023 |
رواية «سما هبة الله للأرض نساء» للكاتبة ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 02-09-2023 |
«جرعة زائدة».. رواية للفتيان للأديبة هيا ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 28-08-2023 |
قراءة انطباعية لرواية «أنا مريم» لعنان ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 30-07-2022 |
رواية (بوهيميا) لخالدة مصاروة وتأملاتها ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 03-06-2022 |
تفاحة بطارسة في روايتها.. «الرصاصة 666» | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 06-08-2021 |
بقلم الكاتبة أماني الراشد الأهواز رواية ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 25-05-2021 |
البحث عن الذات في رواية «قلب لاجئ» ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 26-04-2021 |