|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
ثورة الذات في رواية لعنة الصفر للكاتبة حنين نصار
عاشقة
الصحراء :
د. عماد الضمور من المعلوم أن الرواية جنس أدبي حديث يحاول استيعاب الموضوعات والأشكال الفنية والأبنية الجمالية في قالبه التعبيري؛ لإيجاد حالة جديدة من الأفكار القابلة للتعايش، بل هي من أكثر الأجناس الأدبية انفتاحًا على الواقع، وأكثرها قدرة على استيعاب الخطابات الفكرية الأخرى. وكما يرى الفيلسوف الألماني (هيجل) فالرواية ملحمة بدون آلهة أفرزتها تناقضات المجتمع الرأسمالي. أمّا تلميذه المجري (جورج لوكاش) فبنى على رؤى أستاذه بأن هذا الصراع مع المجتمع الرأسمالي قد أفرز بطلاً إشكاليًّا يتّصارع مع الواقع بكافة أشكاله، وذلك في محاولة جادة منه لترسيخ القيم النبيلة التي يؤمن بها. لذلك طالما ناضل الروائيون من أجل تحرير الإنسان من العبوديّة بدءًا بعبودية الإقطاع ومرورًا بعبودية الذات وانتهاءًا بعبودية الآخر المستبد، فثمة صراعات عنيفة يصورها العالم الروائي ويحاول الروائي تجسيدها برؤى فنية. تقوم رواية «لعنة الصفر» للكاتبة حنين نصار على فكرة الصراع والتغيّر والفاعلية والتجاوز أو الرغبة في التخطي، تلك الرغبة التي يحياها بطل الرواية (عمر) في محاولته إيجاد موقع له في مجتمع متناقض. وانطلاقًا من فهم الفرنسي (لوسيان جولدمان) للرواية بأنّها: قصة بحث عن قيم أصيلة أو نبيلة في عالم أو مجتمع منحط يقوم بها فرد منحط، فإننا يمكننا فهم ما يمكن لبطل رواية (لعنة الصفر) شخصية عمر أن تقوم به في صراعها النفسي الأليم مع واقع قاسٍ، وآخر لا يرحم. أصول الإنسان الطفولية الحُلمية ورغباته الدفينة كما يؤطرها علم النفس الأدبي تشكّل نوازع كفيلة بتحليل شخصية عمر في رواية «لعنة الصفر» فهي تعبر عن حياة سعيدة مفقودة وزمن ضائع في حياة البطل، حيث بنت الروائية فكرة روايتها على معطيات التحليل النفسي للشخصية الروائية، لذلك يمكننا الانطلاق في هذه الدراسة من مجموعة أسئلة: - ما أثر حالة الإحباط وعقدة النقص التي تحياها الشخصية الرئيسية (عمر) في تشكيل شخصيته الروائية مع أخويّه فؤاد وعامر، ومع المجتمع بأسره؟ - كيف تجاوز عمر عقدة الشعور بالدونية من خلال تعويضات أو إسقاطات أخرى في الرواية؟ - كيف يمكن لنا الانتصار على أنفسنا؟ - كيف يمكن لنا تجاوز الآلام والولادة من جديد؟ ليس سهلاً على الأديب أن يكتب رواية لأوّل مرّة، لما يعتريه العالم الروائي من مواقف، وما تحتاجه كتابة الرواية من صياغة رؤى قادرة على التشكّل في قالب فني، لكن حنين نصار استطاعت في روايتها (لعنة الصفر) من كتابة رواية تلتصق بالواقع في أحداثها، وتحاول بلغة الرواية وأساليبها الفنية تعريّة المجتمع بتناقضاته الكثيرة، وسطوته المفرطة على الذات الحالمة. وهذا ما فعلته في روايتها «لعنة الصفر» الصادرة عام 2024م. ما أصعب أن تكون صفرًا! وما أصعب أن تعيش مشاعر ذلك! إنّها حالة نفسيّة مريرة يحياها بطل الرواية (عمر) يحاول أن يحتمي بذاته بعيدًا عن إخفاقات المجتمع. إنّها لعنة قاسية عنوانها الألم والحرمان، وآثارها تكاد تكون أكثر قسوة ونزفًا. حيث تقول: «فما أصعب أن تكون في هذه الحياة صفرًا، مهمشًا، منبوذًا ومكروهًا من نفسك قبل غيرك! وما أصعب أن تكون مجرد نقطة بائسة، بلا شكل يوضحها أو دور يُميّزها!» (الرواية، ص15). حادثة أليمة زلزلت حياة عمر، وغيّرت من تكوينه النفسي، إنها مشهد حريق والديه أمام عينيه دون الإفلات عنها، صورة هذا الفقد الموجع، وصورة الخيبة التي تعرض لها من أخوته، وأقرب الناس إليه، إلى جانب صور التآمر والمكر، والقسوة التي تعرض إليها في عمره هذا بعد أن فقد مصدر قوته وأمانه» (الرواية، ص 22). ذكريات أليمة وصراعات عنيفة عاشها البطل نتيجة لهذه الحادثة القاسية، فكان غدر أخويه: عامر وفؤاد ودخوله المصحة العقلية لتتأزم عقد البطل النفسية، ويتعاظم حنقه على أسرته، لذلك اعتمدت الكاتبة على إبراز الصراع النفسي الذي تحياه شخصية البطل، إذ يتصاعد عجزه وصرخاته المجنونة مكونًا خطابًا يأتيه من عقله كشظايا في كل شظية فكرة متناقضة» يا عمر، إن كنت تسأل عن العدل، فالعدل مات منذ أن مات عمر... علت أصوات عقله أكثر وأكثر، خُيل له أنها تسخر منه، ومن عجزه!» (الرواية ص 24 ـ 25). إنّ مفردات: الخيبة والخذلان والألم والإخفاق والهزيمة واليأس تنتشر في لغة الرواية لتقابلها مفردات: الأمل، والنصر والمقاومة: «لن أسمح لأحد أن يغيّر عمر القابع داخلي، لن أسمح لهم بإذلالي، لن يجبروني على السكوت، لن يرغموني على الكف عن المحاولة» (الرواية، 40). فهو لم يشعر بمشاعر الأخوة منذ طفولته، علاوة على الغيرة التي أبرزها أخوته له وهذا عمّق من المشاعر السلبية التي احتشدت في داخل عمر؛ ليخرجها بركانًا حارقًا. جاءت خلوة عمر مع الدكتور سامر في المصحّة النفسية فرصة لاسترجاع اللاشعور في شخصية عمر في ظل رعاية طبية، وصفاء ذهني، جعل عمر قادرًا على استجماع ذاته، وترميم جراحه ببطء، فبدأ بالفضفضة في ظل دعوات الممرضة إيلاف له بالتوازن، وكأن أسئلة الدكتور سامر العميقة له والمستفزة لكيانه في الوقت نفسه قد ساعدت البطل في التخلص من ثقل كبير في علاقته بأخويه عامر وفؤاد، بل وإنكاره لهما. لقد شكّلت شهادة أستاذ اللغة العربية (نزيه خير) ببطل الرواية وتلميذه عمر منعطفًا نفسيًّا مهمًا في إعادة التوازن النفسي للبطل، بعدما طلب من الممرضة (إيلاف) التواصل معه وطلب العون منه، فكان رد نزيه خير بأن عمر:» حسن الخلق، والسيرة، جميل المنطق، فصيح» (الرواية، ص 93). فضلاً عن ابتعاده عن العدوانية والاكتئاب بل أن أخويه هما مَن زرعا فيه ذلك، فكانت هذه الشهادة العادلة كفيلة بإدخال الفرح لشخصية عمر وتعزيز الأمل لديه بالانتصار على الظلم، وهي في الوقت نفسه شهادة بددت قناعات الممرضة إيلاف بأن عمر مريض نفسي، بل ترسّخت قناعاتها بأن عمر إنسان تعرض للظلم والخذلان. لكن قوى الظلم ممثلة بعامر وفؤاد منعت الأستاذ نزيه خير من زيارة عمر أو التدخل في شؤونه، اإحكام سجنه المقيت. جاءت حادثة هروب عمر من المصحّة النفسية شديدة الأثر في تحولات شخصيته التي فقدت ثقتها بالمجتمع، إذ استند لنفسه محتميًّا بها: «أنا متأكد خلال فترة وجيزة، سأستعيد طاقتي، وأُري الجميع وكل من استصغرني، مَن هو عمر، سأكون جيش نفسي، في كل مرة أخوض فيها معركة من معارك الحياة، في كل مرة أكون مضطرًا لمنازلة همومي، وأفكاري وصراعاتي، سأستجمع جنود قلبي، وأحافظ على اتزاني»( الرواية، ص 181). لقد أفسدت أخبار هروبه من المصحة النفسية والتلفيقات له بحرق المصحة ومساعدة الأستاذ نزيه له بالهرب أفسدت ظلال الحرية التي بدأ يشعر بها في عالمه خارج المصحة، حتى عاد إليها بعد حوار طويل وإقناع إيلاف، ليبدأ رحلة علاج جديدة في المصّحة النفسية بإشراف أستاذه نزيه خير الذي وجد مقتولا في منزله، لتتعاظم أحزان البطل وأزمته النفسية. تكشف أحداث الرواية أن البطل (عمر) شخصية مأزومة، فهو مريض نفسي، قتل أستاذه نزيه كردة فعل مجنونة على واقعه، وأزعج أخويّه بسلوكه المتمرد، إذ تحولت شخصية عمر بشكل سلبي بعد رؤيته مشهد حريق والديه؛ لتنتهي الرواية والقارئ لا يعرف مصير عمر، هل هو المصحّة النفسية، أم السفر خارج البلاد، أم السجن، وكأنه اختار فضاء التمرد واللاعودة مرة أخرى. يبقى المنهج النفسي هو أحد اركان الرواية حضورًا في شخصيات الرواية، وفي محاولة تحليلها أيضًا، فهو منهج يسعى إلى الكشف عن الأبعاد النفسيّة للشخصيات الأدبية وعلاقتها بتجارب ومشاعر الكاتب، إذ إنّ فهم أعماق شخصية البطل (عمر) ومعاينة صراعاته النفسية، ومعاناته، وتحليل عواطفه ومشاعره المعقدة (الحزن، الخوف، الاغتراب، الشعور بالنقص) فضلاً عن معرفة اللاشعور والرغبات المكبوتة في الشخصية، وهي رغبات تبحث عن الإشباع، وهذا كان سرّ التحولات في شخصية عمر. إنّ ربط شخصية البطل عمر بشخوص الرواية أمرّ مهم لمعرفة سلوكياتها، وعلاقاتها الاجتماعية، وتفسير التوترات النفسية، وبخاصة شخصية الممرضة في المصحّة العقلية (إيلاف) التي سارت وراء عاطفتها، وخانت مهنتها في سبيل عمر الذي كشفت الرواية أنه يعاني من حالة شديدة من الحنين والاكتئاب والشعور بخذلان الإخوة والمجتمع، وهذا سبب له ألماً نفسيًّا عميقًا، أورثه الشعور باليأس والخذلان. ثمة متقابلات مهمة في الرواية ظهرت من خلال شخصية عمر: الحنين إلى الأسرة مقابل الشعور بخذلان الأخوة، وتوهج الحياة خارج المصحة النفسية مقابل الموت في داخلها. والشعور بالعجز (لعنة الصفر) والحرمان العاطفي مقابل ثقته المطلقة بذاته عندما قرر الانتقام من الآخر، وهكذا سارت أحداث الرواية في بحر هائج من المشاعر لا يستقر على حال. يظهر أثناء قراءة الرواية تداخل المستويات السردية، فصوت السارد يمتزج كثيرًا بصوت الشخصية، وبخاصة عندما تترك الكاتبة الشخصيات تتحدث عن نفسها، فضلاً عن تدخلات الكاتبة بشخصيات الرواية، إذ تبدو أحيانًا الكاتبة غير محايدة ومنحازة للشخصية تتكلم باسمها، كما هو واضح في شخصيتي عمر وإيلاف. امتلكت الكاتبة ناصية اللغة، وبخاصة التعبير عن بعدها النفسي الذي عكسته أحداث الرواية، وهذا يعكس قراءة وثقافة في علم النفس وعلاج الاضطرابات النفسية بمصطلح علم النفس الذي وظفته الكاتبة للكشف عن شخوص رواياتها، ونوازعها النفسية المختلفة. جريدة الدستور الاردنية
الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: الجمعة 16-08-2024 01:16 صباحا الزوار: 129
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
تجليات الجزيرة في رواية المنسيون بين ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 09-11-2024 |
رواية مريم... ذاكرة وطن وحكاية أمل | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 27-09-2024 |
رواية جديدة للناشئة للأديبة الأردنية هيا ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 08-09-2024 |
«ثلاثون يوما بحثا عن مخرج» إصدار جديد ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 23-08-2024 |
لمحة عن كتاب «حكايا الغياب» للكاتبة أمل ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الجمعة 23-08-2024 |
«أبناء الأرجوان» رواية لديانا دودو تحمل ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 04-06-2024 |
السيكولوجية والبوليفونية في رواية ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 02-06-2024 |
إشهار رواية "اعتراف" للروائية ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 18-05-2024 |
"أنت والنرجسي" لسخنيني.. ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 17-02-2024 |
حفل توقيع رواية "غيمة" للكاتبة ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 11-02-2024 |
«لغة اللافا» رواية جديدة للميس نبيل أبو ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الثلاثاء 07-11-2023 |
رواية «سما هبة الله للأرض نساء» للكاتبة ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 02-09-2023 |
«جرعة زائدة».. رواية للفتيان للأديبة هيا ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 28-08-2023 |
«الثقافة» تُصدر مجموعة قصصيّة جديدة ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الخميس 27-10-2022 |
قراءة انطباعية لرواية «أنا مريم» لعنان ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 30-07-2022 |