هند سليمان
استقلتا السيارة في يوم خريفي تراوغ فيه الغيوم الشمس التي مازالت خيوط الصيف تتدلى من طرف ثوبها المترامي. اليوم موعدها مع طبيبة الجلد حيث اتخذت قرارها بأن تخوض تجربة التجميل. هناك خطوط على جبينها حكت الكثير من قصص الحزن والتعب، وأخرى حول عينيها تنبئ بالكثير من الضحك والمرح، وتهدل في خدودها تأرجح عليه العمر. أرادت أن تشد تلك الخطوط وتملأ ما غار من وجهها في هاجس للعودة إلى سن أصغر. تحب رفقة جدتها وتأنس بحضورها وهي التي تربت على تدليلها لها. كثيرا ما قال الأقارب أنهما متشابهتان، فنشأت بينهما تلك الرابطة التي تنبت البهجة في تواجدهما معا. قالت جدتها معاتبة:
- (لو اني أقدر اجيب مِحرمة وردة العلي تحطيها على وجهك قبل ما تنامي وتصبحي وجهك ابيض وخدودك حمر. بس وردة قادرة، ما حدا طلع بإيده يوخذ منها المحرمة وظلت هي بجمالها وشبابها).
وردة العلي هي إحدى صبايا القرية الجميلات تسكن مع عائلتها بمحاذاة بيت عائلة الجدة.امتازت بطول قامتها وجمال وجهها. لم تُر إلا بثوبها المطرز وحطتها الحمراء المثبتة فوق رأسها بأناقة وفخر. بالرغم من الصداقة التي جمعتهما إلا أن وردة العلي شكلت للجدة المنافس في الجمال والمهارات التي تتفنن النساء في إتقانها لتسيير الحياة برضى واكتفاء. كانتا ضلعين في مثلث شكلت فاطمة الحسن ضلعه الثالث. ومن لا يعرف فاطمة فهي ابنة عم الجدة التي كانت أكثر تفتحا وأجدَّ في السعي نحو ما يوفر لها دخلا في قرية صغيرة تعلمت فيها بعض المهارات البسيطة تتقنها وتوفر من مدخولها ما يعين أسرتها في أعباء الحياة.اجتمعت الصديقات نهار يوم ربيعي وقد قررن تأثيث بيت الأنوثة بعلامات الجمال؛ مكحلة نحاسية يوسّع مرودها حدود حسُن العينين، ثوب مطرز ووشم على الوجه أقلّه «سيّال» من تحت الشفة السفلى إلى نهاية الذقن، وشكل هندسي صغير بين العينين. لكنهن أجزلن في منح المساحة للوشم فملأ كامل الذقن وتحت الخدين بأشكال صغيرة متراصة.
أدى بها الازدحام أن تقف مرتين على الإشارة الضوئية الطويلة. خلال هذا الوقت كانت تدقق النظر في الوشم على وجه جدتها؛ الوشم الذي أبرز بياض بشرتها لكنه أخفى صفحة وجهها.
- (البنت منا ما كانت تتجوز لو ما دقت على وجهها. لو اني أنام وأقوم الصبح الاقيه رايح من وجهي).
بعد انقضاء الشباب تصبح الأشياء التي شغفنا بها مجرد قناديل بلا فتائل. إن العمر هو الذي يدفع الواحد منا إلى اتخاذ قرار قد يراه بعد عقود عبثا وأحد أخطاء حياته. لكنه الشباب على أية حال، فإن لم يجازف الواحد في شبابه ويقترف الجنون فمتى يفعل؟ وهل تتلون الحياة من غير ذلك الاقتراف؟
ولعلها حين تكلل جمالها واكتملت متطلبات أنوثتها، وتزوجت وقطعت من حياتها مع الزوج ما قطعت، فقد الوشم بريق بهجته بزوال علته، فلم يعد أكثر من ستار مانع يخفي وجهها ويجعلها في خضم المدينة مثارا للاستغراب كلما نظر أحد في الأشكال الخضراء المزرقة التي تملأ صفحته. فصارت تضيق به وتتوق إلى وجه كوجوه الأخريات اللاتي لا يشغلهن قلق عُرْف لم يجزه الحاضر كما أجازه الماضي. ولكنه أجاز شكلا آخر من الوشوم لا يظهر على الوجه أو اليدين، بل في بحث عن دراسة الفتاة وعملها لتكون عونا لزوجها في بناء الحياة. لم يعد الأمر متعلقا بزينة وجه وثوب مطرز، بل شرطا اقتصاديا لبناء كيان اجتماعي.
وصلتا المكان؛ مبنى من عدة طوابق في شارع مزدحم بالمحلات التجارية والمطاعم. نزلت من سيارتها وفتحت الباب لجدتها تساعدها في النزول. قالت وهي تسير بجانبها:
- (في درج؟ أنا ما بقدر اطلع الدرج).
- (لا تخافي، في مصعد ما رح تطلعي ولا تتعبي).
- (وردة العلي تركتنا وراحت تسكن في الزرقا، بتروح وبتيجي في الباصات. أنا هون ما بعرف أدبر حالي بضيع وما بعرف الطريق. فاطمة الحسن كمان راحت سكنت بإربد وصارت تشتغل وتجيب مصاري).
فاطمة كانت تطوي الورق البني وتلصقه بالغراء تصنع منه أكياسا تبيعها لأصحاب الدكاكين. تركت هي وعائلتها حياة القرية والزراعة وصارت تزاحم في المدينة من أجل مصدر دخل إضافي فوق ما يحصله أبناؤها الذين يعملون في البناء، وابنتها الخياطة. أما وردة فقد تزوجت وسكنت مدينة بعيدة عن صديقاتها وانشغلت بأسرتها وأطفالها الكثر. لم تعد الجدة تراها إلا مزهوة بثوبها المطرز وجمالها الدافق.
دخلتا غرفة الانتظار وجلستا على مقعد ثنائي مخملي منجد. تحسست الجدة التنجيد بيدها، لضمت إبرتها الكبيرة بخيط قطني أبيض وغرستها في شماغها الذي تلفه على رأسها وتثبت به «الشنبر» الأسود الساتر لصدرها ورقبتها. فرشت على الأرض قطعة مستطيلة من القماش «الخام» الأبيض ووزعت فوقه الصوف النظيف المنفوش بالتساوي في كل الاتجاهات. بعدها غطته بقطعة خام أخرى موازية للسفلى وصارت تدخل إبرتها من فوق لأسفل عبر الصوف تنجد فرشة لجهاز ابن جارتها الأرملة. يعينها عملها هذا في تدبير شؤون بيتها بالإضافة لدجاجاتها وما تخزنه من البرغل والبندورة اليابسة وعقود الباميا المجففة المحفوظة في كيس قماشي معلق على مشجب خلف باب مطبخها. آخر مرة نجدت فيها لحافا كان في عمان بعد أن استقرت في بيت ابنها الأصغر الذي عمل مدرسا جامعيا، حيث عرفت إحدى الجارات عن مهارتها في التنجيد وأعطتها أجر ما صنعت. حين علم ابنها بالأمر استشاط غضبا لأنها خدشت هيبته الاجتماعية، فكان وعد منها أن لا تعيدها ثانية.
- (بس فاطمة الحسن ما ردت. ظلت تشتغل فيالقصب وتعمل اطباق ومجافي وما تمد إيدها لحدا يتمنن عليها).
فاطمة الحسن امرأة بارزة القوة والقسوة، لا يثنيها شيء عما تريد، وأنت أكثر لينا منها ورفقا. وإذا تفوقت عليك بكسب مالها بنفسها، فأنت تفوقت عليها باكتساب قلوب من يحيطون بك.
انقضى الوقت مع الطبيبة، اتجهت لجدتها، أخذت بيدها ونزلتا في المصعد لاستكمال طريق العودة قبل أن يحل الغروب ويخترق برد الخريف الملابس ويلسع الجلد.
في الطريق ساد صمت امرأتين؛ واحدة محاصرة باستقلال فاطمة الحسن وجمال وردة العلي الدائم، وأخرى تتحسس بين الحين والآخر وجهها بحذر، وتغرس في نفسها مخاوف كثيرة وآمالا حول ما سيصير عليه.
وصلتا إلى بيت الجدة وساعدتها في النزول ثانية. فتحت الجدة الباب، ودّعتها ودخلت.
خطر لها أن ترجع إليها وتشد على يدها وتخبرها كم هو الوشم جميل! فاستدارت لتعود، لكنها أدركت أن عقدين من الزمن كافيان لمحو اسمها عن شاهدة القبر، ولم تميزه بين القبور. قفلت راجعة وفي طريقها بين الشواهد الممحية تعثرت بقبر مكتوب على شاهدته «المرحومة فاطمة الحسن».