|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
هاتف الرياح.. روايــــة مـــونـــولوجيـــــة لمريم مشتاوي
عاشقة
الصحراء :
د. إبراهيم خليل بعد رواياتها عشْق، و ياقوت، و تيريزا أكاديا، وجسور الحب، تصدر لمريم مشتاوي اللبنانية السورية رواية جديدة عن المركز الثقافي للكتاب ببيروت 2021 بعنوان هاتف الرياح. وبطلة هذه الرواية ماريانا هي الساردة الوحيدة، والشاهدة التي شاركت في الوقائع والحوادث التي وقعت، أو جرت لها، أو لأي من الشخوص من مثل: إيفون وهي الأم التي رعتها في الميتم ببيروت، إذ إن ماريانا نشأت لا تعرف لها أما، ولا أبا، غير تلك السيدة التي تسميها أمي، ولا تعرف لها من الإخوة غير هاجر، وسالي، ومَلَك، وكلهنّ من رفيقات المنشأ الذي يعطف على أبناء الحرام، وبناته. والكاهن الأب جرمان الذي رسمت له الساردة صورة منفرة؛ فهو كاهن متدين أمام الناس، وفاسق في الحقيقة، والواقع، يمارس اللواط، وقد ضبطته ماريانا متلبسًا مع راوول الصغير، وعندما نهرته فاجأها قائلا: أفضّل الصبيان. كانَ قفاه لذيذًا. ومن شخوص الرواية رياض. وهذا هو الشخص الذي أحبته ماريانا بصدق، وعرفت في حبه الكثير من السعادة التي يحلم بها العُشاق، ويتطّلع إليها المحبون. لكنّ رياضًا- مثلما يتراءى لنا من المتواليات السردية- لم يكن صادقا في حبه، ولا وفيا، فعائلته تريده أن يكون أبا ذا أسرة، ولكنها لا يمكن أن توافق على أن يكون أبناؤه من سيدةٍ نشأت في ميْتم؛ فهذا شيءٌ لا يتنافى مع التقاليد والعادات فحسب، ولكنه أيضا يمسُّ ما يعتزون به من نسَبٍ وحسب، لذا يقرِّر الزواج بأخرى، ثم بعد أن يُنْجب منها أولادهُ يطلقها، ويعود للزواج بماريانا. وهذا بالطبع ما لا ينْطلي عليها، فهي ليست من السذاجة بحيث تصدق كلاما كهذا. رياض إذن يخون، ولا يفي بعهود الحب، ويختفي من حياتها، لكنها تظل دائبة الحنين، والتوق لاستعادته. على أنّ اختفاء رياض من حياة ماريانا، على الرغم مما تركه في نفسها من شجَن، وَحَزَن، ليس العقدة الوحيدة في هذه الحكاية الشيّقة. فثمة شخصٌ آخر اختفى من حياتها في لندن، تاركًا في روحها الكثير من الحسرة والألم، إنه صادقُ الذي توفي. ولهذا كان مفتَتَحُ الرواية بذكره، والعبارة الأولى فيه هي السؤال عن: كيف لها أن تحيا بعد فراق ذلك الرجل الذي تعده معلمًا تارة، ومربيًا ومساندًا، منقذًا في ساعات التأزّم والقلق: « منذ رحيلك كلّ يوم على حافة المساء أراقب السماء، وهي تسقط نجومها نجمة نجمة لأهرول إليك، لأطالبك بالعودة، بالنهوض سريعاً، باستكمال مشوار لا يكتمل بغيابك ...لقد أضعفْتني وما عدتُ قادرة على المسير ...هكذا.. وبكل بساطة أعترف لك أنك كنت قوتي .... ولكنك رحلتَ بها، وبكل جميل يتلألأ في حياتي. وأكاد أجزم أني لا أعرف إن كان الليل يختبئ في قبرك، أم قبرك هو الذي يختبئ في الليل... ولكنه الوقت يا صادق... إنه يفقد ثوانيه ودقائقه وعقاربه ويفلت من قيود الزمن ليقع أسيرك وحدك. قل لي، لمَ تحبس السماءُ دموعي؟ ألتزداد غيومها رقة، أم ماذا؟؟ « وكم من مرّة تعرَّضتْ لانتكاسة نفسية، أو صدمة عصبية أُدخلت على إثرها المشفى، لتبقى أياما فيه قبل أن تتعافى.. فموت صادق، وغياب رياض، وجنون ليث- ابن خالة صديقتها أميرة - وعجوز الكنيسة ذات المسبحة اللؤلؤية، والشعر الأشيب، والعلبة ذات الزخرفة السحرية، والمفتاح الذي يقودها لاحقا لهتك الأسرار التي تنطوي على الكثير من ألغاز صادق، وأحاجيه، والغموض الذي يحيط بشخصيته، هذا كله لا يكفي. فثمة شخصيّة نسائية طريفة روزانا، وزوجها الأكثر طرافةً طوني. وهما شخصيتان عثرت عليهما مصادفة في كتاب. وفي هذا المسار من متتاليات الحكاية تصلُ بنا نقطة حاسمة. وهي تكليف الساردة ماريانا بالمغادرة إلى بيروت لتزويد المحطة الفضائية التي تعمل فيها من لندن بتحقيقاتٍ، ومتابعاتٍ، مُصوَّرة عما يجري في لبنان من تظاهرات مستمرة، وانتفاضة شبابية ضدّ الطبقة السياسيَّة، والنخبة الحاكمة الفاسدة، والطائفية، وما إن تصل لبيروت حتى تدور عقارب الساعة بنا نحو الوراء، فإذا هي، والكاميرا، يسلطان الأنظار على المجريات: ميشال، عالم الرياضيات الذي سُجلت باسمه خمسة اختراعات، ويتقن الكلام بسبع لغاتٍ كأنّ كلا منها لغته الأم، هذا العالم الذي رفع اسم لبنان عاليًا، انتهى به الأمرُ في دار للمُسنّين. قال لها أحدهم، وقد ُذكر اسمه فجأة، إنه رآه يبحث عن طعامه في مكبٍّ للنفايات، ويستخرجُ بعض الملابس البالية منه. المصور سيف أبو جمر يتابع بعدسته شابا يقوم بعض رجال الأمن باعتقاله، والاعتداء عليه في أثناء تصديهم للمظاهرة، والشبان يتصايحون اعتقلوا الثائر (رياض).. الثائر رياض اعتُقل. ذِكْر ذلك الاسم أعاد ماريانا فورًا لحكاية العشق، والحبيب الذي غاب، أتراهُ هو الحبيب الذي تخلى عنها لكونها من تربية الميتم؟ بين الحكاية، والحكاية، ثمة ما يروى، ها هو أحد أبناء بيروت يروي لماريانا حكاية سمير الذي انتحر اثناء الانتفاضة بسبب الديون. وهذه الحكايات تطَّرد في « هاتف الرياح « كجُمل معترضة، تظهر من حين لآخر بين فتافيت الحكاية الرئيسة، حكاية العجوز التي رأتها في الكنيسة مرارًا وسمَّتها نجمة. ظهرت بصورة غرائبية بعد عودة ماريانا للندن. وحين يقعُ بصرها عليها تحاول التأكد من أنها هي، وتسير موازية لها، أو متابعة إلى أنْ تختفي في حارة وتغيبُ وراء أحد الأبواب: « وبينما أنا على هذه الحال أمْضغ خيبتي، وقلقي، لمحتُ مسبحتها تتلألأ على عتبة بيتٍ شائخ. اقتربتُ منه بخطوات حذرة، فتساءلتُ هل هذا البيت بيتها وقد سقطت المسبحة منها في مدخله؟ تذكرتُ ذلك المفتاح الذي منحتني إياه في الكنيسة. أدخلتُ يدي في حقيبتي لعله داخلها. ولما وجدته تناولته بسرعة، فوضعته في المزلاج لأفتح الباب. فُتح البابُ فعلاً. فدخلت البيت بكثير من الترقُّب، والخوف. وبعد خطوتين فوجئت بنُصْب تمثالٍ لامرأة .. هو نفسه.. صورة المرأة المرسومة على ظهر العلبة الخشبية الغريبة التي أهدتني إياها تلك العجوز..» وبخطىً متلصّصة تدلفُ بنا الساردة إلى عالم صادق الذي وصفته في تداعياتها بالمعلم. وها هي ذي تعثر على كتابٍ له على أحد الرفوف بعنوان» كم أحبَبْتها؟ « المفاجأة المذهلة أن ما فيه من خواطر، وانثيالات وجدانية موضوعها المتكرر هو حبه الشديد لماريانا، ذلك الحبّ الذي لم يبُحْ به إطلاقا في حياته، ها هو يبوحُ به بعد مماته في المكتب الذي كانَ يزاول فيه أعماله، وبمخطوطٍ كتبَهُ بيديه. وفي المخطوط تقرأ ماريانا وصْفا لأمّه ينطبق تمامًا على السيّدة العجوز التي سمَّتها نجمة، جاء فيه « أين تلك المسبحة يا أمي التي كان أريجها الصاعد من حباتها اللؤلؤية يسكنُ داخلي، وكنتُ حينها أسيرُ، ويدي ممدودة إلى المدى، أبحث عن كل المعاني في الحياة. كنتِ ترسمين في الهواء بنفَسِك المزفور آياتِ الطهارة.. والاكتمال. مع أنَّ بُنصرك الأيمن كان معوجًّا، ويؤلمك أحياناً، يعرقل مرونة يدك، كان أقوى من أن يُرى لأنه كان مرناً بسجيته مطواعاً بإرادتك «. كانت ماريانا- مثلما مرَّ - قد تعرّفَت عليها في كنيسة سانت بول في لندن. وتختار من أحد الرفوف ملفا آخر لتجد فيه رسائل تلقّاها صادق من الآخرين، ويظهر في إحداها اسم طوني، وفي أخرى اسم روزانا. والسؤال، هو: ما الجديد الذي كشفَ عنْه المفتاح؟ الجديد هو أن صادقا كان يهيم حبًّا بماريانا على الرغم من الفارق الكبير بينهما في السنّ. تجاوز هو السبعين فيما كانت في العشرينات، فأي ضرب من العشق يمكن أنْ يتحقق بين اثنين على هذا التباين والافتراق في الزمن؟ ومذكرات صادق، ولا سيما تلك التي تفيض عذوبةً، وعذابًا، في الوقت نفسه، لأنه - فيما كان يعاني من الوله بسبب ماريانا - كان يعاني من التكتّم وإخفاء الهوى أكثر من ذلك الذي يعانية بسبب مواجده. «.. لم أكن أعلم أن حبَّه لي كانَ رحبًا رحابة الأرض.. أتذكر أنه قال لي يوما: كم هي الحياة بئيسة بدونك يا مريانا، أشْتمُّ في كل جمالاتها وتفاصيلها ودقائقها أريجَك الذي يتَسامى إلى خطّ الكمال، والتمام. كلُّ شيء جميل في هذه الدنيا يلْهَجُ بمعناك ... أتحسَّس أنفاسَك في أناي، في هذا الوجود الذي يفقد جوهرَهُ بدونك.. أضعُ الآن يدي على صدري وأتحسَّس آلافَ الحكايات .. حكايات صادق.. وهو ينْسِجُ بنظراته التي لم أكن أكتشفُ سرها إشاراتِ العشق والوَلَه «. أما رياضُ، الذي رَمَتْه بالخيانة، فقد شاءَتِ الصدفة أن يكون اسم الشاب الذي اعتقل أمامها في بيروت رياضًا، وقد سمعت أحدهم يقول للشباب المتظاهر اعتقلوا الثائر (رياض) الثائر رياض اعتُقل. وَوَقَع هذا الاسم على مسامعها وقوع الصاعقة، فهل هو رياض الذي تخلى عنها في لندن، أم هو رياضٌ آخر. كم قد تمنت لو أنها نظرت في وجهه مليًا لتتأكد من أن رياضًا، حبيب الأمس، هو هذا الثائر، أم أنه اسم شبيه باسم رياض، فلا ريب في أن ببيروت الآلاف ممن يحملون هذا الاسم. ولكن الإحساس الداخلي ظلّ يدوي : ربما يكون هو، وليس غيره، وإذًا، لا بد من الاعتراف بأنّ لرياض هذا موقعه المتبقي في القلب. تجري هذه الوقائعُ، وتُروى، بطريقة لا تخلو من تحوّلاتٍ تكسِرُ حاجز التوقُّع لدى القارئ، ومن ذلك اندلاع المظاهرات في بيروت. ومنها وفاة أحد الشخوص ممن كانت لها بهم علاقة حميمة، ومنها التعرف على شخصيات جديدة كتعرف ماريانا على ليث ابن خالة أميرة مرة، وعلى طوني زوج روزانا مرة.. وعلى السيدة التي التقتها في الكنيسة، وتبين أنها أم صادق المعلم المربي ذي الأثر الكبير في حياة الساردة مرة أخرى. تضاف إلى هذه الشبكة من الحوافز؛ القراءة التي نقلتنا فيها الكاتبة من السرد المباشر إلى سرد عبر وسيط هو الكتابات. ومن ذلك الكتابُ الفلسفي الذي تحول من كتابٍ إلى حكاية أخرى داخل الحكاية الرئيسة في النص، والكتاب المخطوط الذي عثرتْ عليه في مكتب صادق. وبدا كما لو أنَّ هذه المرويات جزءٌ أساسي من سلسلة المرويات التي تقوم عليها القصة. تضاف إلى ذلك الكوابيس. وهي رؤى منامية مرعبة في الغالب، إلا أنها مع ذلك تحمل في طيّاتها مؤشراتٍ تؤثر لاحقًا في مجريات الرواية. وتسهم في إضفاء الطابع الرمزي على النسَق السردي، فهي، بما تتضمَّنُهُ من تأويلات مُفسِّرة، ومن رُموز، أوْ وقائع كالرموز، تؤدّي لمزيد من التساؤلات التي ينْشغل بها السارد، لا سيما إذا كان هو نفسه أحد شخوص الرواية، وفي هذه الرواية، عدا عن كونه أحد شخوصها، هو الذي يضطلع بدور البطولة. ها هي ذي تصفُ لنا ما يتركه الكابوس في النفس:» صحوتُ، وأنا أرتجف ... كان العرقُ يتصبب مني وكأني خارجة للتو من تحت زخات مطر عنيفٍ جارح .. دخلت الحمّام الصغير التابع لغرفة نومي، وفتحت الدوش، ووقفت تحته ربما ساعةً أو أكثر وأنا أحاول أن أستوعب إنْ كان ما عشته حلماً أم حقيقة.» مثل هذا الكابوس يتكرَّر غير مرَّة ، وفي ذلك التكرار ما يُضفي على المروياتِ شِحْنةً انفعالية تشدُّ القارئ شَدًا. ومن شأن هذا الإحساس أنْ يُسفر عن موقف إيجابي من الرواية، فتبدو كما لو أنها أكثر من جيّدة. الكاتب:
سكرتيرة التحرير مريم حمدان بتاريخ: السبت 30-10-2021 10:21 مساء الزوار: 490
التعليقات: 0
|