|
|
||||
هيئة إدارة تحرير مجلة عاشقة الصحراء التي تعنى بقضايا المرأة العربية والأدب والفن | ||||
اليك بنيتي :نثار الذكريات «1»
منذ ساعات وأنا أراقب الظّلام. أنتظر أن يزورني النّوم. ولكنّه أبيّ عصيّ عليّ خاصّة في اللّيالي الّتي تسبق مناسبات هامّة في حياتي. هذه اللّيلة سيشرق صباحُها فيكون أوّل يوم تستقبل فيه كبرى بناتي حياتها الجامعيّة. عاشقة الصحراء :أوّل يوم في الجامعة، أراه شبيها بأوّل يوم أخذتها فيه إلى روضة الأطفال، وما أكبر شبهه بأوّل يوم دخلت فيه المدرسة الابتدائيّة. ليس الأرقُ ما يمنعني من النّوم ولا الخوف عليها، وإنّما هذه الصّور المتهاوية من ذاكرتي على ظلام الغرفة فتنير قلبي. هنا، أراها تلعب، وفي هذه الزّاوية من البيت أراها منشغلة بدميتها، وهنا ألمحها منكبّة على قطع متناثرة لصورة تركّب أجزاءها بحماس، وفي هذا الرّكن أراها منزوية تكتب على دفتر خاصّ تخفيه كلّما دخلت عليها، وهناك أراها وفي يدها كتاب تطالعه، وها هي في الحديقة بين الأزهار البريّة تحاول مسك الفراشات، وها هي تتعرّف إلى كلّ حمامة وتسمّيها باسمها، وتلقي الحبّ للدّجاجات. هنا أراها تبتسم للشّمس وتضحك. وها هي على شاطئ البحر تلاعب موجه ويلاعبها وتندفع إليه برجليها الصغيرتين في صخب بريء. وها هي توسع الخطى كي لا يفوتها درس من دروسها، أراها تدخل فتلقي محفظتها في أقرب مكان لتتهالك على أقرب كرسيّ تطلب الرّاحة، وهنا تجلس أمام الكمبيوتر تداعب مفاتيح لوحته بمهارة... بل أسمعها، ترسل ضحكاتها الصّاخبة، أو تغنّي متعمّدة إزعاجي وتطلق العنان لصخب تعرف أنّني لا أحبّه. وها هي ترفع صوتها بالنّقد لكلّ ما تراه أو تقرأه. صوتها الآن يصلني مستهزئا ساخرا من مواقف لا تعجبها. أسمعها تناديني، وتسألني ترجمة كلمة أو عنوان أغنية، أو عنوان كتاب أو اسم كاتب. وأسمعها تضحك بجنون لأنّها تسمع منّي لفظا لا تعرفه تقول إنّه من قاموس لغة غريبة لم يعد لها محلّ في لغة أبناء هذا الجيل. صوتها يرتفع تارة وينخفض أخرى حسب المواقف الّتي تعيشها، ولكن يكثر صمتها، لأنّ حديثها مع الكتب كثير ومع لوحة مفاتيح الكمبيوتر صار أكثر، وصوتها أجمل عندما يكون صمتا إذْ هو دراسة أو مطالعة أو كتابة أو تفكير في حلّ مشكل رياضيّ أو فيزيائيّ أو تصميم لما لا أفهمه على الكمبيوتر. أصغي إلى الظّلام الصّاخب في غرفتي وفي نفسي، أميّز من بين كلّ الأصوات المتعالية في أرجاء البيت، صوتها الغاضب يرتفع بالشّكوى من فوضى إخوتها. بل ها هي تلاعبهم وتنصحهم وتشجّعهم أو تعينهم على دروسهم، أسمعها الآن وهي توشوشهم فيصمتون وينتبهون إليها ويأتمرون بأوامرها ويسود الهدوء.... كم هي رائعة عندما تكون هادئة، ولا يصدر من غرفتها غير موسيقى كلاسيكيّة لبتهوفن أو موزارت أو تشايكوفسكي... أو مستمتعة بسماع أمّ كلثوم واسمهان،... وحتّى « المالوف» ووصلات «الرّشيديّة» والموسيقى التّونسيّة من العتيق تسمعها بمتعة. صار للظّلام عطر مميّز يحمل أوّل عطور ابنتي، رائحة مولودة جديدة، أميّزها به عن كلّ المواليد، إلى اليوم لا أحد له عطرها. ولكن كلّ شيء يتغيّر وصارت تختار لنفسها ما تريد ثمّ اختارت أن نستعمل أنا وهي نفس العطر. فرحت للفكرة فقد شعرت أنّها تحاول أن تتشبّه بي، وليس في الدّنيا أجمل من أن أرى ابنتي تقلّدني مع أنّي أسعى إلى أن تكون مستقلّة في شخصيّتها وأن تكون لها بصمتها. وهذا أيضا ألاحظه عليها جيّدا. يتسرّب من ظلام الغرفة عبق الورد والياسمين وها أنا أمسح عنها ما تبقّى من قطرات ماء على جسمها الصّغير بعد حمّامها الصّباحيّ المنعش وأغمرها قبلا فتضحك وتغطّي وجهها بيديها وتحاول أن تبعدني ثمّ تدفعني إلى أن أغمرها أكثر. كم لعبنا معا، وكم كبرت اليوم عن مثل هذا اللّعب ولم أعد أعطّرها كما أريد أنا. أصبح لها اختيار خاصّ وذوق لا يجب أن أناقشها فيه. ما زال الظّلام يُسْقِطُ عليّ صورا من هنا وهناك، وتغزوه بقع من الضّوء خافتا مرّة وساطعا أخرى. وها أنا أرى السّنوات تمرّ وأرى ابنتي أمامي تنظر إليّ فلا أجد غير صوتي يدعو لها. كَبُرْتِ بنيّتي، ولا يسمح الوقت بالنّصيحة، فقد انتصحتِ بنصحي دائما، وليس الوقت يسمح لأُثْقِلَ عليك بخوف الأمّ. بنيّتي، الآن ليس لي غير عطر الدّعاء أرشّه عليك وعلى أحلامك الهادئة ليحفظك الله من كلّ سوء. فاجعلي دعائي عطرا تتجمّلين به وتحملينه تميمة وليس غير قدرة الله ترعاك. بنيّتي، حتّى الدّعاء صار يكتظّ في صدري وعلى لساني فلم أعد أعرف أيّ الأدعية أفضل في مثل هذا الوقت، يستجيب الله لكلّ دعاء فلا تشغلي بالك بما يزدحم في قلبي من المشاعر وأعلمي أنّ هذا القلب في صدري يتعطّر نبضه بعطر وجودك فيه. وسيرافقك حيثما كنت. بدأت خيوط الفجر تنشر نسمات رقيقة في مثل رقّتها. وأراني الآن أمشط شعرها وأعدّها ليومها الأوّل في روضة الأطفال، وها هي تغرقني أسئلة بصوت عذب وبكلام لا تنطق نصف حروفه. وتسألني عن الهديّة الّتي سأكافئها بها لأنّها ستكون هادئة وأفضل البنات. كانت كذلك حتّى صار هذا الهدوء يزعجني. كلّما سألت عنها منشّطة فصلها تخبرني أنّك الهادئة الوحيدة وأنّها تخفي وراء الهدوء نبوغا وتميّزا لأنّها الوحيدة أيضا الّتي كانت تنجز أنشطتها دون أخطاء، حتّى صار خوفي عليها أضعافا. فكلّ الأطفال يلعبون في الفصل أثناء التّنشيط وهي تهدأ وتُظهر خجلا لتندفع في البيت بكلّ الأسئلة وبالأناشيد الّتي حفظتها إضافة إلى الهدايا المفروضة الّتي ألزمتني بها منذ أوّل يوم. بنيّتي، هل تريدين هديّة لمثل هذا اليوم؟ بكلّ حبّ نختارها معا وترسمين بها ذكرى أوّل يوم في الجامعة. ما أجمل ذكرياتنا إذا تساقطت منها بقع من النّور على عتمة المكان، أعيشها من جديد وأراكِ كما أنتِ، وكما كنتِ. هل تذكرين أوّل درس اتّخذتِ فيه دور المدرّسة المجتهدة؟ كان في وسط العاصمة أمام الإشارة الضّوئيّة في أكبر شارع، لم تتجاوزي حينها الرّابعة. وقفنا أمام الضّوء الأحمر فأمسكت يدي بيدك الصّغيرة ونظرتِ إليّ بعينيك اللامعتين وأفهمتني متى علينا أن نعبر الطريق ومتى على السيّارات أن تعبر، وأجمل ما في الدّرس عِبْرَتُهُ» علينا احترام إشارات المرور حفاظا على أنفسنا من حوادث الطّريق». وهيبة حمادي قويّة / تونس الكاتب:
زهور العربي بتاريخ: الثلاثاء 11-09-2012 01:05 صباحا الزوار: 1865
التعليقات: 0
|
العناوين المشابهة |
الموضوع | القسم | الكاتب | الردود | اخر مشاركة |
السَّرد الرّسمي والسَّرد غيرُ الرّسمي ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأحد 31-03-2019 |
"شومان" تدعم "حكايات ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الأربعاء 20-03-2019 |
دلالة المفارقة في قصة المنجل للقاصة ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | السبت 07-04-2018 |
الحكواتية سالي شلبي تعرض سيرة الظاهر ... | القصة والرواية | سكرتيرة التحرير مريم حمدان | 0 | الإثنين 19-06-2017 |
الكاتب الروائي سليم عوض عيشان " ... | القصة والرواية | ابتسام حياصات | 0 | الخميس 19-09-2013 |