عندما تعثر على ديوان شعرٍ جديدٍ حافلٍ بالماء والينابيع والجدل تشعر كمن وجد إبرةً ذهبيةً في كومِ قش، هذا ما أحسستُ به عندما قرأتُ ديوان «قمح في قطن» للشاعرة الفلسطينية الشابة جدل القاسم والصادر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع عام 2017، ففي هذا الديوان تقرأ المرأة بكلِّ عنفوانها وعفويتها وحزنها وأحلامها الصغيرة وتفاصيل يومها وانكساراتها وجموحها وبحثها عن عالمٍ مليءٍ برجلٍ ينمو معها وترسمه كإلهٍ بشريٍّ طاعنٍ بالقوةِ والحب .
من هذا الديوان نقرأ من قصيدة «تطوّر»:
«هأنذا أحبكَ 
امرأةٌ تقارب المستحيل 
وتفرح كحبةِ قمحٍ صارت رغيفاً 
كقطيعِ ظباءٍ عبر النهرَ 
وتحزن كغيمةٍ ضلَّتِ الطريق 
ونشرد كحقلِ بنفسج» الديوان ص 14 .
هذا الديوان مليءٌ بالدهشةِ والمرأةِ والآلهة التي تتانسنُ لتكون بيننا وتحزن مثلنا وتموتُ وتهرمُ مثلنا وتخاف الغامض البعيد مثلنا.
من هامشٍ قصيرٍ لقصيدة « سمت الوجود»  نقرأ هذا الحزن الطافح بالخيبة واللاجدوى والبحث الخفيِّ عن ممكناتٍ أخرى:
«لا شيءَ 
لا شيءَ ...
إلا أن الشِّعرَ لم يُفلح 
في ثقبِ الجدار « الديوان ص 40 .
في لغة الديوان إيقاعُ الدهشةِ والتفاصيل الصغيرة والصدمةِ والمفارقة والحبِّ المبثوثِ في كلِّ الأشياء عندما تلمسها يدا رجلٍ يتنفس كإله، نقرأ ذلك الشغف في قصيدة «حلول»: 
«آلافٌ من القبلِ 
بل ملايين 
طبعتها شفتاكَ على جسدي 
لكنني 
الآن/ بالذات 
أشعرُ أن كلَّ هذه القبل
قبلةٌ واحدةٌ على جسد الكون « الديوان ص 64،
في هامشٍ قصيرٍ ملحقٍ بهذه القصيدة نقرأ صوتاً آخرَ كأنه يقرأ ويعلِّقُ بكثافةٍ أخرى على هذه القصيدة فنقرأ: 
«لماذا تدلُّ الشفتين على القبلة 
بينما يمكنني تقبيلك 
بكامل جسدي» الديوان ص 64 
كان الصوتان في بعض القصائد يتبادلان الأدوار فالنصُّ صوتُ التفاصيل اليومية الصغيرة الشَّبِقة والشغوفة واللاواعية لدلالات هذا الشَّغف بينما الهامش كان يأتي كصوتٍ آخر يكثِّف النصَّ كومضةٍ شاهقة .
في هذه المجموعة نقرأ أيضاً نشيداً أنثوياً عالياً يستعيدُ نشيد الإنشاد الذي لسليمان بلغةٍ رقيقةٍ متماسكةٍ طازجةٍ وملأى بالعصافيرِ الصغيرةِ وبالإيقاعات الداخلية الهادئة التي تتنامى مع تنامي الشَّغف، نقرأ ذلك في قصيدة «زنابق أورشليم»: 
«حبيبي يا بنات أورشليم
حبيبي جميلٌ كحنَّاء العروس 
وقامته كصنوبر الغاباتِ 
فمهُ كرزٌ 
كتفاهُ حقولُ قمحٍ 
وعيناه لوزتان 
صدره سهلُ حوران» الديوان ص 26 .
تُدرك الشاعرة أنها تمزج الحلم - النصِّ بالواقع في جدليةٍ قاسيةٍ وحزينةٍ وربما مستحيلة، نقرأ ذلك في قصيدة « نشيدُ جدل «: 
«أنا سوداءُ وجميلة يا بنات أورشليم»
تقول العاشقة الهاربة إلى النشيد:
«ها أنتَ جميلٌ يا حبيبي وحلوٌ وسريرنا أخضر» 
والعاشقُ ؟ إله 
أيُّ الأناشيدِ تُغطي رجلاً في إله» الديوان ص 123.
جدل القاسم في نشيها الأنثوي هذا تصعد نحو المرأة العربية بحزنها وشغفها وتعبها وأحلامها المبتورة وأوطانها المقتولة ورجالها المُتعبين الباهتين وتحاول أن تبثَّ بعضَ الدَّمِ الإلهي السامي في عروقهم المتكلسة، نقرأ بعضَ ذلك في قصيدة «بصيرة»:
«لقد كنتُ على حقٍّ 
حين قبَّلتُكَ والتصقتْ 
شفتاي على حافةِ فمكَ 
فبحثتُ عن أصابعي 
ووجدتها تعبثُ بجسدك
وحينَ وضعتُ رأسي على صدركَ 
نما حقلُ قمحٍ على خدي» الديوان ص 27 .
في هذا الديوان نقرأ عشقَ المرأةِ العربيةِ للرجلَ الحلم الذي تتمناه رجلاً إلهاً قوياً صاخباً يفيضُ حياةً وماءً وعشقاً وتحدياً في مقابل الصورة الواقعية لهذا الرجل الخائف والمرتبك والمنهزم والمستسلم لواقعه القاسي، نقرأ بعضَ ذلك في هذه المفارقات الحزينة في قصيدة «بيننا»:
«إنني أراقب الله كلَّ يومٍ 
أراقبهُ وهو ذاهبٌ إلى عمله وهو قادمٌ إلى بيته 
في السوق وبين الباعة المتحولين 
أراقبه وهو يطبخ الطعام للعيال ويغسل الملابسَ الرثةَ وبرتبُ بيته ويذهب للإنتخابات 
ويشاهد نشرة الأخبار ويدفع أجرةَ القبوِ 
أراقبه حين ينظر إلى رجل الأمن خائفاً ويحاول أن يخبيءَ وجهه وجسده وهو يعدُّ السنين في المعتقل 
أراقبه يُنشد النشيد الوطنيَّ عن ظهر قلب 
يقف للعَلم، يهتف للرئيس الأوحد ويصفق للسماسرةِ والأقزام 
أراقبه ولا يراني 
رأسه منكَّسٌ وعيناه ضائعتان 
أراقب الله منذ سنين كثيرةً وهو يعيشُ ميتاً» الديوان ص 68 .
في هذا الديوان امرأةٌ عربيةٌ تبوح بمكنوناتها الداخلية والسرية بلغةٍ غامضةٍ صوفيةٍ حالمةٍ تمزجُ النشيد بالواقع وتبحث فيه عن ممكناتٍ لحياةٍ زاخرة بالشغف والحياة عبر رجلٍ إلهٍ تتماهى فيه وترسم خطاها التائهة عبر خطواته التي ترسمها كأقدام بعل وتموز وكنعان الذين بذروا هذه الأرض بالعشقِ والحلم والحياة، نقرأ من قصيدةٍ قصيرةٍ جميلةٍ بعنوان «شبهة» هذا العشقَ الأنثوي لحضور هذا الرجل الحلم الإله:
«أعضُّ على شفتي السفلى 
ليس خجلاً ولا شبقاً 
بل صلاةً مشبوهةً لتترك بابَ بيتكَ موارباً» 
وليكتمل هذا النص الضاج بالأنوثةِ تضيف الشاعرة هامشاً قصيراً طازجاً طافحاً باللحظةِ القاسية المتوارية خلف حفيف اللغةِ ومجازاتها البعيدة التي تُخفي حزنَ الحلم الذي يتبدَّدُ في الظهيرةِ اللاسعة: 
«آهِ طعم الشفةِ 
الشفةِ السفلى التي خدشتها دون قصدٍ حين قبلتكَ صباحاً 
ها هي الآن تعضُّ قلبي 
لأخدشها من جديد «  الديوان ص 56 .
هذه القصائد نشيدُ امرأةٍ عربيةٍ تحلم بالانعتاق السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وتحلم أن ترقص في ساحات بلادها حرَّةً منطلقةً كمُهرةٍ بريةٍ يتبعها حصانٌ إلهٌ قويٌّ ورقيقٌ ومُفعمٌ بالتحدي والكبرياء، نقرأ في قصيدة «صفحة» هذا الجموح الأنثويَ العالي:
«يدكَ القريبةُ من كلِّ شيءٍ 
يدكَ التي تُمشِّطُ شَعري وتداعب أذني 
تلمسُ أرنبةَ أنفي 
تقيسُ مساحةَ الكلمات على شفتي 
يدكَ التي تتفحَّصُ نضوجَ رمَّاني واستدارةَ خصري وحرارةَ شهوتي 
يدكَ التي تعدُّ التنهُّدَ وتجسُّ نبضَ الولع 
يدكَ التي في كلِّ شيءٍ كالمعجزة مسحتني 
فكنتُ النَّبيةَ وكفُّكَ كتابي! 
هامش: الشهوةُ أن أملكَ فرصةً لأغتصبَ مساماته 
أقصدُ مساماتِ كفيه 
أقصدُ أصافحه طبعا» الديوان ص 81 .
جدل القاسم شاعرةٌ عفويةٌ ناضجةٌ مفعمةٌ بلغةٍ تنحتها من مفردات يومها وحياتها وبيئتها وتؤشِّرُ لشاعرةٍ قادمةٍ وللغةٍ شعريةٍ حيَّةٍ تتكاثرُ وتتحركُ نحو جمالياتٍ شعريةٍ تنبثق من الحياة وجدلها وصخبها وخوفها وأحلامها ولا تتورط باللغة النائمة المجترةِ التي تحمل في جوفها أكفانَ من سكنوها ومضوا .