إعادة تركيب ذلك الواقع ولمّ شظاياه قطعة قطعة كلعبة "بيزل" ضخمة، تأكيدا أنّ الإبداع وحده يحمي ذاكرة الأمم ويصون لحظاتها الكبرى حتى لا تسقط في النسيان أو في التكلّس.
الرؤية الأولى منهما احتفت بالجسد منذ اندلاع الثورة، منذ سقوط أوائل الشهداء. وقد كان جسد البوعزيزي المحترق الرّمز الإبداعيّ الأوّل عند كثير من الشعراء والمبدعين التونسيين. حقّقت لنا الثورة التونسية "أن نشهد ميلاد أسطورة"، هكذا قال عبد المجيد الشرفي في كتابه "الثورة والحداثة والثورة" (ص 35 ــ 36)، مثّل الجسم المشتعل بالنار القادح الأوّل للثورة ولقصائدها الأولى، في هذا السياق كتب محمد الصغير  أولاد احمد "قصيدة الفراشة"، تخيّل فيها حوارا بين البوعزيزي وجلاّده، وقد ظهرت القصيدة قبل 14 جانفي:
وأنت تنظر في الرّماد رأيتني
... سوداء مثل حذائك البرّاق
لا أقوى على التحديق فيك..
لا تعطني قلما فإنّ أصابعي طارت مع النّار الرّهيبة للسّماء
أتشمّ رائحة الشّواء؟
ماذا تقول لصاحبيك؟
ومن هما؟
لم يفهما أنّ الخريف ببابه فصل الشتاء؟
أنا تونس الوسطى
أعيش على القناعة والمطر
أنا تونس الكبرى، قدر
أنا تونس الأخرى
رماد مبتكر
(محمد الصغير أولاد أحمد، "قصيدة الفراشة")
دخل مشهد الاحتراق ضمن الرؤية الشعرية عند المبدع التونسي، ونحن نعتقد أنّ محمد البوعزيزي الذي احترق ليحيا شعبه قد استعاد مشهد احتراق طائر الفينيق في التصوّر الأسطوري، وجعل الناس يعيشون المعنى مجدّدا، ونعتقد أنّه مشهد سيكون له أثره القريب والبعيد في جميع الفنون العالمية، تقول الشاعرة فاطمة بلال:
في الباحة كان الصمت يبدّد نفسه ليل نهارْ
لا رقص ولا نمرود ولا قيتارْ
رسّام خلف اللوحة ثارْ
أشعل ألوان "الباستيل"
وراح يشاهد..
لوحة رقص النّارْ
(فاطمة بلال، "رقصة الفلامنكو") 



ثم تتالى الشهداء وأصبح الجسد / الشهيد قادح قول عند شعراء تونس، يملأ اللغة الشعرية بالبكائية وبنفس رثائي شفيف:
ليس لي غير سارية من دخان
لأسند ظهري إليها
وليس لهذا الطّريق نهاية
لأدخل عصرا إلى قلب أمّي
أبشّرها بالأماني السعيدة (فوزية العلوي "إلى شهداء تالة والقصرين")   
وقد يتصاعد النفس الرثائي حدّ التماهي التام بين جسد الراثي وجسد
المرثيّ:
كان المقفّي بآهات الجليد
..جسدي وليس في جسدي سواك
لأختم فوق حبرك السرّي
أيها الشهيد فيّ تتلاشى ككائن هلاميّ
(فوزية العكرمي، "المغتسلة")
وقد يرقى النفس الرثائي أحيانا إلى نوع من الخطاب التراجيدي يضخّم معنى الفجيعة أمام دم الشهيد، وينقله من مطلق الموت الحسّي إلى مطلق الحياة الفنية.
نسترسل في احتدام أحمر الشهيد..
لي شهيد ما زال حيّا في عظامي
باقيا في البلاد، طائعا للبلاد

(رياض الشرايطي "لي كلّ الذي لي")
الرّؤية الثانية قوامها "الجسد الأنثوي" هذه المرّة، إن رمزا للثورة أو استبطانا للخوف من نتائجها السياسية بالتحديد.  في المستوى الأوّل يشترك الشعراء والشاعرات في غنائية الجسد الأنثوي وهو يحمّل وظيفة الترميز الثوري كالحمل والولادة والوضع والانعتاق وغيرها من المعاني الشعرية المتداولة في مثل هذه السياقات المرجعية:
سأزرع فكرتي في السماء
تخبّئها الغيمات لي
وأحبل كي ألد في الشتاء المطر
(راضية الشهايبي، "وعود الجن")
إلاّ أنّ القصيدة التونسية وبالتحديد قصيدة المرأة قد تلوّنت بهاجس جديد لنسمّه "هاجس الجسد" دفعه إلى سطح الوعي الخوف على مكانة المرأة في تونس بموجب ما كشفت عنه الثورة من تيارات إيديولوجية معادية لحرية المرأة داعية بعنف وشراسة إلى مراجعة مكتسباتها وعاقدة العزم في ما تقول وما تفعل على فسخ الخطوات الجبارة التي قطعتها المرأة التونسية على طريق التحرّر والمساواة، فجأة وجدت المرأة التونسية نفسها "جسدا" يواجه من جديد بكلّ صنوف التحريم والمنع والحجب، وكان على مبدعات تونس أن يقفن في مواجهة هذه النظرة الدونية المتوحّشة إلى جسد المرأة. لقد كان القادح ذاتيا هذه المرّة، معركة كيان، ورغم ذلك فقد حافظت كثير من شاعرات تونس على كثير من الموضوعية الفنية، وأبقين "قصيدة الجسد" فنّ قول لا خطاب إيديولوجيا، نلتقي في القصيدة بمستويات مكثفة من الإيحاء وبشبكة من الرّموز الحاوية لمعاني الانغلاق والظلمة والسواد تستمدّها الذات المبدعة من ذاكرتها السحيقة كـ"البئر" و"الحفرة" و"المخدع".. وقد كتبت الشاعرة راضية الشهايبي نصوصا قيّمة في هذا الاتجاه وعرّت بكثير من الجمالية كثيرا من القبح. 
تعالي إلى ظلمتي الظامئة
كوني عذابا..ودمعا
تنيرين غرفة امرأتي الثانية..
تعالي دعي عنك ألوان الربيع
ردّيها للحلم أو للزّهر أو للشجر
فلا أنسبَ من عويل السّواد لك..
(راضية الشهايبي، "وعود الجنّ)
وقد كان الليل بسواده وحلكته وتعتيمه الحسّي والروحي أداة من أدوات شعر المرأة لتعلن مخاوفها من آفاق ثورة لا تبوح بآمالها كما ينبغي أو كما تنتظره المرأة / الشاعرة:
بماذا تعدني أيّها الليل المتناسل
في جنح وجعي مهزوزة أنا يا ليل كفراش في معتقل العناكب
علياء رحيم، "كشارع بلا عصافير")
وقد يحضر الجسد الأنثوي وجها من وجوه الوقوف ضدّ الوعي الحادّ بأنّ جسد المرأة مستهدف استهدافا حقيقيا حين يحاصر بمقولات الضعف والحماية والحرام والخطيئة وغير ذلك من المقولات الرائجة في خطاب بعض التيارات السياسية، وهذه المواجهة قد تتمّ بالنفي:
أنا لست بسارية في بلاط الأمير
لكي أستلذّ بياض الرخام
ولست بجارية كي أعدّ الليالي التي
لم أكن وردة في حماها
(فوزية العلوي، )
أو بالإثبات:
التقطي نبضك
يا امرأة جذعها غابة
قلبها طاحونة هواء
وانتشري في رائحة الأرض
فأنت النّخيل..
(علياء رحيم، "الصنوبر لا يرى ظلّك")
أو بالتصعيد الفرويدي الماكر:
كان حلما ورقيّا
وكانت الطفلة فيّ
كحزمة ورق من غضب الريح
تخاف..
وكانت الأنثى فيّ من المقصّ تخاف
(فاطمة الشريف، "أرجوحة")
وأحيانا أخرى بالسخرية السوداء من مفهوم الجسد الأنثوي المضمّخ بروائح القصص المهدورة على أعتاب الرغبة المكبوتة، وبين يدي ذكورة يمكّنها جسد المرأة "الهشّ" من ممارسة وهْم رجولة عجزت عنها في معتركات أخرى:
صاحب شهريار
حمّال الجثث
أحيانا يلحق بجارية تحتضر
يجعلها له
ثم يقتلها وينادي نفسه
يا حاجب، ارم جثتها بعيدا
تلك فرصته الوحيدة
ليتذوّق طعم الــ"ـشهريار"..
(راضية الشهايبي)
اختلفت الأدوات والمقصد واحد، تعدّدت الرؤى الشعرية ولكنّ القطب هو نفسه: تونس وهي تكتب تاريخها مرة أخرى وتكتبنا معه وتعطي شعراءها فرصة المشاركة في هذه الكتابة، رمزا وواقعا، أرضا وسماء، شاعرات وشعراء.

آمنة الرميلي (من مقال "المشهد الشعري التونسي ")