|
|
||
|
ابتسام الخميري: الوعي الحاد بالواقع المتردي والاحتفال الدائم بالذات الملتهبة.. الأستاذ مصطفى مدائني
ابتسام الخميري: الوعي الحاد بالواقع المتردي والاحتفال الدائم بالذات الملتهبة..
الأستاذ مصطفى مدائني
الرواية أو القصة الطويلة جنس أدبي يُجمِع أغلب النقاد علي أنه الجنس الأكثر ملائمة لعصر يسعي فيه العالم بوعي أو دونه لعولمة قادمة علي مهل. وهو جنس له قدرة عجيبة علي استيعاب كل الأجناس ولعله الجنس الأقدر علي كشف الخوافي الدفينة لذلك يعمد أغلب الكتاب إلي الانغماس فيها وهو يسعي بوعي ودراية حينا ودون ذلك أحيانا. والكاتبة ابتسام الخميري وجدت نفسها في لحظة ابداعية مخصوصة تخط نصا راودها مغناه الدفين كي تمرره عبر الرواية لأنه نص جديد فرض نفسه فرضا وقوض تلك الراحة التي يكون المبدع قد استقر عليها وفق جنس أو أجناس تمرن عليها واستقر نهجه فيها فأصبحت له مطواعة منقادة لينة سلسة.. فكيف جاءت رواية العاثي"{1} ؟ درج أهل الاختصاص في تحليل الرواية أو القصة على دراسة عناصر هي أس البناء نعني السرد باعتباره الفعل عبر الفضاء بعنصريه الزمان والمكان {الحدث}. وهو البند الذي يقوم عليه القص وبه تتكون خميرة النص ينضاف إليه عنصر الشخصية وهو القائم بالفعل الدافع إلى مسار هو بالأساس مسار حياتي تنتهجه الشخوص فتصور الحياة في تطورها وهي في الغالب شخوص معينة للبطل وأخرى مثبطة له معاكسة لرؤاه.. ثم عنصر الأسلوب وهو اللغة التي بها يبني القاص نصه عبر سلسلة لغوية هي جمل وتراكيب يأخذ بعضها برقاب بعض حتى يستوي النص كلا متكاملا يمكن للدارس أن يستشف منه مدى قدرة الأديب على كشف الأسرار اللغوية وما تختزنه ذاكرة اللغة من لوحات فريدة لا ولن تنجلي إلا لذاك الذي يمتلك خيالا يسميه الشابي "خيالا فنيا"{2} ويدعوه يوسف سامي يوسف {3}"الجمالية". وبواسطة هذا الثالوث تتضح المداليل الدفينة التي يسعى السارد ومن ورائه مبدع متخف إلى انكشافها بلطف تحيل... ولبيان ذلك مع مزيد التحليل كشف النقاد لنمطين من البناء هما عمدة القراءة والفهم.. فالنص السردي يأتي وفق بناء مخصوص فيكون خطيا وهو البناء الذي "يتبع مسار الحدث وفق منطق الأحداث". وقد يكون دائريا وهو البناء الذي ينفتح بالنهاية ليعود الحدث بعدها إلى منطلقه. وقد يتبع المبدع نمطا ثالثا يزاوج فيه بين الطريقتين..{4} فكيف أبدعت القاصة نصها الذي وسمته ب "العاثي"؟ للإجابة سنورد الأسئلة التالية ونشرع في تقديم خصائص طبعت النص و قد تلهم القارئ في ولوجه له والتفاعل معه دون أن نقدم كل المعطيات. فقراءة النص ومطالعته وكشف الخوافي التي أرادت الكاتبة أن ترسلها عبر نص روائي لم يكن ليكون لولا تجربة فريدة اختبرتها وعايشتها وانغمست فيها تصورا فنيا خالصا... كيف بسطت الكاتبة منطق الأحداث الروائية؟ ما هي الخصائص البارزة في شخصيات النص؟ وأي أسلوب مهدت به الكاتبة لبيان مداليلها ؟ ألا يكون النص موقفا من الحياة والكون يستبطن رؤية مخصوصة تقوم بها شخصية بقدر ما آمنت بالقيم الأصيلة إلا أنها تلحظ أن المجتمع الإشكالي إنما يحمل في ذاته أسباب تلاشي إنسانيته التي طالما تبجح بها وتغنى... "العاثي" نص سردي يبسط لنا تجربة حياتية لفرد إشكالي منتم لمجتمعه منحاز إليه تربى على قيم أصيلة تقوم على العطاء والبذل إلا أنه يكتشف أنه وسط مجتمع متدهور منحطّ محنّط. فيسعى للنجاة من براثن الموت البطيء{5}. فنحن أمام تجربة إيناس نحس بقدرتها على المسايرة مسايرة الحياة الصعبة من ناحية وقدرة تقبلها للواقع المرير من ناحية أخرى... منطق الأحداث: القصة باختصار شديد هي حكاية إيناس وقد تزوجت فارس أحلامها إلا أنها في لحظة اكتشفت سرا صدمها كلية ففقدت الذاكرة لكنها كيفت حياتها وأصرت على العيش كما هي العادة إلا أنها ودون وعي واصلت حياتها بكل حرية انتقاما من نفسها ومن العالم المحيط ولم يكن ذلك إلا انتقاما سريا من "العاثي" حبيبها وقاتل الروح فيها... ولعل المبدعة باختيار هذا العنوان تجعل القارئ يتساءل عن "العاثي" من هو؟ ولم وسمته بهذا الاسم؟. فالعاثي هو من يعيث في الدنيا فسادا أو لعله المتمرد على كل القيم والقوانين لكنه في نفس الوقت يتشبث بالمظاهر مسايرة لما يعتمل في داخله من انخرام نفسي مقيت. تنفتح الرواية بلحظة فارقة فإيناس حصلت على الإجازة وتستعد للعمل محامية : "لا بد أن أنهض باكرا فأمامي العديد من الأماكن والأبواب التي يتوجب علي طرقها يجب المضي إلى الأمام نعم لا بأس من التوقف لحظة والنظر فيما حل بالأمس. كان آخر همس قبل أن تغط في النوم" {6}. وتنهي الساردة ووراءها كاتبة متوارية بفقرة تميزت بالدقة والبلاغة والعمق: "أخيرا أفقت من غفوتي وأنت من جن لرحيل: كيف أقولها ؟ خليله ؟ زوجه؟ لا أجد لها تسمية سوى أني قد أضعت سنوات عمري مع شبه رجل بل لا رجولة أبدا لمن يضع نفسه ...؟ما نسميك؟ يومها كان العرق يتصبب منك... .... لم يجد ما يجيب والوقت سكون ما يقول؟ مضى في الطرقات وحيدا مضت في الطرقات بأحلام كل من هم حولها... والصوت يصدح: ما تزال الشمس تطلع في أوانها ما تزال الشمس تطلع..." {7}. ترحل البطلة من النوم الحالم إلى واقعها ومن ثمة يعرف القارئ عبر فصول معدودة إيناس ما قبل التخرج والدراسة نعني ما عايشته طفلة في أسرة وجدت نفسها فيها اضطرارا لا اختيارا تقوم بدور ليس منوطا بعهدتها فكانت أما لأخواتها كما يكتشف المطلع الفطن ما سيؤول إليه أمرها في مستقبل الأيام والأعوام. نحن إذن أمام مراحل ثلاثة: ــ مرحلة الطفولة. ــ مرحلة الدراسة. ــ مرحلة تحقيق الذات.. لن نتعمق أكثر في هذا الجانب وإنما نعلم القارئ الطلعة أن القاصة حبرت نصها فيما بين 2000 و 2006. يعني بداية الألفية الثالثة. وفي هذا الزمن كانت تونس ترزح تحت ثقل مشاكل جمة وقد بدأت العولمة تفرض نفسها على المستوى العالمي وخاصة في الوطن العربي وبصفة أخص في تونس حيث انعقد المؤتمر العالمي للإعلامية سنة 2005... وأعادت النظر فيه فيما بين سنتي 2015 و 2016. {8}. الشخصيات: نحن أمام نص أرادت صاحبته أن يكون رواية شخصية{9}. فالبطلة إيناس تحكي حياتها وتبثها على الورق ساعية إلى بيان مسيرتها في الكون. ومن ثمة جاءت الشخوص كلها تحوم حول محور شخصية مليئة بالحياة محتفلة بها منغمسة فيها لا تتردد في الضرب أشواطا في تشعباتها دون أن تستسلم للمشيئة. نحن إذن أمام شخصية متطورة فقد ولدت في أسرة مخضرمة تجمع بين أب تقليدي وأم قوية بثت في أطفالها وخاصة الابنة الكبرى إيناس القدرة على تحمل المسؤولية فقد تمكنت إيناس من الدراسة. وفي الوقت نفسة تؤدي أعباء المنزل وكأن أمها لاتكن لها أدنى محبة... ولما أحبت فارس أحلامها "وليد" عرفت قدرتها على التغني بالحياة والارتماء فيها فعملت وناضلت وتمكنت من فرض نفسها محامية كبيرة كما تزوجت حبيبها إلى أن أصيبت بالصدمة التي أرهقتها وجعلتها تعيش لحظات انسلاخ تام وفقدان تام للذاكرة ولم تسترجع أنفاسها إلا عندما رحلت وزوجها لابنتهما في اوربا وتحديدا في ألمانيا ثم فارقته لتعيش ردحا من الزمن في تجربة فريدة هائمة مع صديق قديم وعند عودتها استعادت الذاكرة في لحظة وعي شديدة قوية بواسطتها قررت كما هي عادتها أن تستعيد ذاتها المفقودة وقررت الانفصال. حاولنا في هذه الفقرات أن نبين للقارئ ما يحف بهذه الشخصية الرئيسية من أحداث وأردنا تقديمها بالاختصار شديد غير مخل بالمعنى لندعو القارئ لحسن الاطلاع والدرس. فنحن أمام نص تجابه فيه الكاتبة مجتمعا متطورا متغيرا يستعد لثورة لها مسبباتها المتعددة {10} لعل من أهمها العولمة التي جعلت الشعوب تنخرط في دوامة مجتمع بدأ ينخر من داخله. فالقيم الأصيلة تداعت وما على البطل الإشكالي إلا أن يتبع مساره سعيا وراء تجديد لهذه القيم وبعثا لها رغم أن الأمر على غاية من الصعوبة حد الاستحالة... الأسلوب والمداليل: الأسلوب بحث في السجل اللغوي للنص وخصائصه لتحديد معجمه الغالب. ومن ثمة نستخلص مميزات العبارة لدى كاتب ما. ونص "العاثي" يتميز بلغته العربية السليمة البليغة. فالكاتبة مؤمنة بأن خير الكلام ما قل وأبلغ المراد. إنه الاختزال المعبر عما في كنه الضمير بدقة جلية. وهي في نسيجها التعبيري لا تسرف في الوصف ولا في السرد إلا بما يؤدي من معاني مخصوصة . ويلحظ القارئ الفطن أنها تزن ألفاظها وعباراتها وجملها بما يخدم محتوى النص. ولعل الكاتبة اعتبرت من تجربتها القصصية من خلال مجموعتها "غواية السكين"{11} أو نصوصها الشعرية فجاء النص مضمّخا بذلك الامتزاج الراقي بين النمطين من التعبير. وقد اختارت المنحى الفني في تلك المواقف التي تكون فيها النفس متشنجة مهتاجة قد بلغ منها الإحساس المفرط مبلغة. فتكون العبارة مشحونة مليئة تنتظر من القارئ تفجير ما تحتمل مما لا يطاق من المغاني...ويكفي أن نشير إلى تلك المناطق الحية الملتهبة كتلك التي بلغت فيها إيناس قمة حبها لفارسها أو تلك التي بلغ منها المرض مبلغة وأصيبت بالهلوسة. نقرأ معا: "أرسل البرق ومضات متتالية وتلبدت السحب في السماء ثم انهمرت الأمطار بصمت رهيب كأنها تخشى إفزاع إيناس من نومها. فجأة هبت الرياح بقوة وكان صفيرها حادا كأنها تندب رحيل أحد..." {12}. والكاتبة في كل ذلك تسعى لتصوير المجتمع وهو في تحولاته الجمة وترسل رسائلها بلطف تحيل فني. فهي تصف ببراعة وتنقد بتؤدة وتمرر رؤيتها دون أن تفقد ملكتها الإبلاغية الرصينة وقد جاء الحوار لديها مشحونا رغم شح العبارة والكلام. نقرأ معا: " قال وليد وهو يمد فنجان القهوة لضيفه: ــ "كثرت الأحزاب وتعددت الصراعات بينها كأن تونس وليمة تجمع حولها الغربان. ــ لا تنسى الغلاء الذي استفحل صديقي لقد وقع القضاء على الطبقة الوسطى للأسف. ــ نعم أصبحت الأغلبية في بلادنا تتمنى أن نعيش يوما من الماضي ليته يعود. ــ لا، رجاء، لا نزاع في الحرية التي بتنا نعيشها اليوم. .....{13}. "العاتي" نص مثير بدءا من عتبته الأولى نعني العنوان. ولا شك أنك أيها القارئ الكريم وأنت تقرأ هذا التقديم المختصر قد انفتحت لك رغبة ملحة وأنت الطلعة للانغماس في لذة اطلاع على نص هو نصك نصنا جميعا لأنه في الحقيقة إنما يفجر فينا واقعنا في عصر أصبح فيه "إنساننا المستقل" يسعى لاسترجاع أنسنته التي بدت وكأنها تنقرض {14}.. فمرحبا بك أيها القارئ المجيد والله ولي التوفيق...
الهوامش: 1 ـ "العاثي": رواية جديدة للكاتبة ابتسام الخميري الأديبة الشاعرة القاصة والمنشطة في الحقل الثقافي. 2 ـ الخيال الفني عند العرب: محاضرة للشاعر أبي القاسم الشابي قدمها في دار الخلدونية سنة 1929 وفيها أبان خلو الأدب العربي من الخيال الفني وأثارت ضجة زعزعت الفكر العربي في النصف الأول من القرن الماضي. ونشرت عديد الطبعات. 3 ـ الجمالية: أنظر: القيمة والمعيار: مساهمة في نظرية الشعر. يوسف سامي اليوسف. دار كنعان ط 2 . دمشق 2003. وفيه أبان أن الأدب العظيم هو الأدب الباحث عن الجمال العلوي الذي نطاله والجمالية هي الجامعة للثالوث: الحميمي و ال "ما يذاق" والخيال الابتكاري المؤدي إلى الجمالية المطلقة. 4 ـ أنظر البنية في قصص يوسف إدريس. دراسات في السرديات مصطفى مدائني . الدار العربية للكتاب 2007 ص ص 179 ـ 186. 5 ـ أنظر: Goldman L. Pour une sociologie du Roman Gallimard Paris 1968 p 23. 6 ـ "العاثي" ص 1. 7 ـ م ن ص 120. 8 ـ من حوار مع الكاتبة. 9 ـ رواية الشخصية عرفت في أواسط القرن الذهبي لفن القص أواسط القرن التاسع عشر في أروبا نذكر على سبيل المثال لا الحصر السيدة بوفاري ل ق. فلوبار. Flaubert G. Madame Bovary 10 ـ عرفت بثورة الياسمين حيث عاشت تونس تحركات شعبية عفوية في أواخر شهر ديسمبر 2010 وبداية جانفي 2011 خاصة بثلاث مناطق سيدي بوزيد والقصرين وتالة. وكانت عارمة بحيث غيرت المسار السياسي لا في تونس بل في الوطن العربي والعالمي. 11 ـ غواية السكين ـ ابتسام الخميري ـ المركز العربي للنشر 2003. 160 ص. 12 ـ "العاثي" ص 1. 13 ـ م ن ص 55. 14 ـ الإنسان المستقل مصطلح سوسيولوجي لمنظر العولمة عالم النقس سكنر فريدريك برهاس Skinner Burrhas Frederic خاصة من خلال كتابه القيم "فيما وراء الحرية والكرامة" الصادر سنة 1971 وفيه نظر لقتل "الإنسان المستقل" الذي بواسطته يحافظ الفرد بخصوصياته وإنسانيته. أنظر كتابه "فيما وراء الحرية والكرامة". الأستاذ مصطفى مدائني تونس 11 جوان 2018
الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: الخميس 19-11-2020 05:32 مساء الزوار: 185 التعليقات: 0
|
|