|
|
||
|
نظرة عامة في النقد
رضنا فيما تقدم لعناصر النقد في الموضوعات المختلفة، والآن نعرض للنقد لنذكر شيئًا عن قيمته واختلاف الباحثين فيه. ولنبدأ بالبحث فيما هو النقد؟ كلمة (النقد) critism تعني في مفهومها الدقيق (الحكم) judgment وهو مفهوم نلحظه في كل استعمالات الكلمة حتى في أشدها عمومًا، فالناقد الأدبي إذن يعتبر مبدئيًا كخبير يستعمل قدرة خاصة ومرانة خاصة في قطعة من الفن الأدبي هي عمل لمؤلف ما فيفحص مزاياها وعيوبها ويصدر عليها حكمًا، ولكننا حين نتكلم عن أدب النقد أو الأدب النقدي، أي الأدب الذي يتكون من النقد the literature of criticism فإننا نضمن تحت العبارة معنى أكثر من الأدب الذي يصدر الحكم. بل إننا نفهم منها كل الكتلة من الأدب الذي كتب عن الأدب، سواء أكان الموضوع تحليلًا أم تفسيرًا أم تقديرًا أم كل هذه مجتمعة. فالشعر والدراما والرواية تتناول الحياة مباشرة، وأما النقد فيتناول الشعر والدراما والرواية بل يتناول النقد نفسه. فإذا عرف الأدب الإنشائي بأنه تفسير للحياة في صور مختلفة من الفن الأدبي، فإن الأدب النقدي يعرف بأنه تفسير لهذا التفسير ولصور الفن التي يوضع فيها. هذه الاعتراضات معقولة تمامًا، وهي يجب أن تعطي حقها من العناية والتقدير في عصر قد أصبح فيه الأدب الإنشائي في خطر من أن تغطيه الكتلة النامية من العرض والشرح، وهكذا يمكن أن يوجه اعتراض حق عادل ضد ضرر النقد الذي أصبح ميزة بارزة في الحياة الفكرية لعصرنا. ولكننا لا يمكننا أن ننكر فائدة النقد لهذا السبب، فإن للنقد مكانه المشروع ومهمته المشروعة. النقد كأدب والكتاب النبيل هو شيء حيوي مثل الفعل النبيل، وماهيات الفن حيوية تمامًا مثل الماهيات التي يتضمنها جانب آخر من نشاط الحياة المتعددة الجوانب. وقد عبر المستر وليم واطسن عن هذا الرأي تعبيرًا رائعًا في شعره حين اعترض عليه بأنه كثيرًا ما يبحث في عمل الشعراء الآخرين، فأجاب بأنه قد اتخذ الشعراء العظام موضوعه، وقال: «قد اعتبرت هؤلاء كجزء من عظمة الطبيعة»، وهكذا نرفض هذا الاعتراض الذي يوجه إلى النقد ما دام قائمًا على اعتبار أنه مختلف في النوع من الأدب الإنشائي الذي يستمد موضوعه ووحيه من الحياة مباشرة. فإن النقد الحق يستمد أيضًا موضوعه ووحيه من الحياة، وهو أدب إنشائي أيضًا في طريقته الخاصة. ومن الهام أن نميز بين ضرر النقد وبين فائدته، وهي مشكلة ليست صعبة كثيرًا، فإننا نستطيع من تجاربنا الخاصة أن نعرف متى يصير النقد خدعة ومتى يكون عونًا لنا. ضرر النقد وهكذا يكون من المبالغة الشنيعة أن يقال: إننا يجب ألا نعتمد قط على أناس آخرين في معرفتنا بالمؤلفين والكتب، ولكن مع ذلك يجب ألا نهمل أهمية المبدأ القائل بأن اهتمامنا الأساسي هو بالأدب مباشرة، وليس بالتفسير النقدي للأدب، فإنه إذا كان الغرض الأول للدراسة الأدبية هو تنمية العلاقات الوثيقة الشخصية بين الدارس وبين الأديب فإننا إذا اكتفينا بالكتب التي عن الكتب شعرنا بأننا لا نحقق هذا الغرض تحقيقًا كافيًا، فالميزة الجوهرية لكتاب عظيم وقوته الذاتية الحيوية لا يمكن أن يشعر بهما على أتم وجه إلا في التناول المباشر فقط، ولا يمكن أن ينقلا خلال أي واسطة أو مساعدة إلا إلى حد صغير جدًّا، أخبرني أستاذ أمريكي مشهور بأنه جاءه تلميذ له يسأل: ما هو أحسن كتاب أقرؤه عن Timon of Athens لأنني أكتب عنه بحثًا؟ فكانت إجابة صديقي: أحسن كتاب تستطيع أن تقرأه عن Timon of Athens هو: Timo of Athens. فكان هذا جانبًا لم يكن قد التفت إليه المستفهم، فانصرف أكثر حكمه. وهو جانب يهمله الكثيرون منا كثيرًا، فلن يكون أي تحليل أو نقد لكتاب بديلًا صالحًا عن امتلاكنا الشخصي لهذا الكتاب بنفسه، فإن الجهد الذي ننفقه في محاولة الحصول على هذا الامتلاك هو أكبر قيمة من أي معرفة عن الكتاب نحصل عليها من الخارج. فائدة النقد مهمتا النقد النقد الاستدلالي والنقد الحكمي وهكذا لا تكون قوانين الدراما الشكسبيرية قوانين قد فرضتها سلطة خارجة على شكسبير وهو ملزم بطاعتها مسئول عن الخضوع لها، ولكنها قوانين الممارسة الدرامية المستمدة من تحليل أعماله نفسها. وإذن فنحن إنما نستعمل لغة المجاز حين نقول: إن شكسبير (يخضع) لكذا وكذا من (قوانين) القصة التمثيلية، مثلما نكون مستعملين لغة المجاز حين نقول: إن النجوم (تخضع) لقانون الجاذبية، وإذن فليست مهمة الناقد أن يفحص عمل شكسبير من وجهة مطابقته أو عدم مطابقته لبعض آراء مجردة عن القصة التمثيلية أو لقواعد قد وضعت وضعًا مستقلًّا، ولكن مهمته فقط أن يستكشف بالاختيار المباشر لرواياته المبادئ التي قد كتبت هذه الروايات طبقها، ثم أن يوجز نتائج هذا الاختبار في قول عام. وهذا يقود إلى النقطة الثالثة من الاختلاف بين نقد الحكم والنقد الاستدلالي. فالنقد الحكمي يفترض أن هناك مثلًا عليا محددة يمارس الأدب تطبيقها ويحكم عليه بها، وقد اختلفت هذه المثل اختلافًا كبيرًا باختلاف النقاد وباختلاف العصور، وهذه الحقيقة تمدنا بسبب لما نجده من أن النقد كثيرًا ما سقط إلى هذه الهوة، ولكن وجود مثل هذه المثل قد كان معتقدًا رغم ذلك، وأما النقد الاستدلالي فلا يعترف بأي مثل مقررة، بل ينكر إمكان وجود مثل هذه المثل، فالأدب هو نتاج للنشوء والتطور مثل أي ظاهرة تدرسها العلوم، وتاريخ الأدب هو تاريخ المتبدلات التي لا تنقطع، وهكذا يفشل فشلًا ذريعًا كل جهد يبذل لإيجاد مبادئ نقدية مقررة نهائية، لأنه يفرض وجود نهاية حيث يستحيل تبعًا لطبائع الأشياء أن توجد نهاية. وهكذا تكون الخلاصة «أن النقد الاستدلالي يعتبر الأدب في روح الاختبار الخالص، باحثًا عن قوانين الفن في أعمال الفنانين، ومتناولًا كباقي الطبيعة باعتباره شيئًا ذا تطور مستمر يمكن أن تدخله اختلافات باختلاف كل أديب وكل مدرسة تختلف في النوع عن بعضها البعض، ولا يمكن معرفة إحدى هذه الاختلافات إلا بأن يمتحنها ذهن مستعد لتفهم التغيرات بنفسه دون تدخل شيء آخر خارج عنه». وبناء على هذه النظرة إلى مهمة النقد لا يكون للنقد أي شأن مطلقًا بقيمة القطعة من الفن الأدبي أو بإحساساتنا الشخصية المتعلقة بها، فالناقد يهمل كل اعتبارات الذوق الفردي وكل مسائل الجودة المطلقة أو النسبية، ويقف نفسه كلها كالعالم على عملية الاختبار. فالناقد كما قال تين مرة: هو نوع من العالم بالنبات ولكن مهمته ليست ظواهر حيات النبات وإنما ظواهر الأدب. ولدينا نظرية أخرى عن النقد الاستدلالي وهي: أن قانون عمل كل مؤلف يجب أن يبحث عنه في ذلك العمل الأدبي نفسه. ومعنى هذا أن هذا القانون لا يمكن أن يطبق على عمل أي مؤلف آخر، وإذن لا يمكن أن يستخدم كمثال للحكم أو حتى كمرشد، وهذه النتيجة تثير مشكلة سنعرض لها بعد برهة، وفي نفس الوقت يجب ألا نغفل أنه من الممكن أن نفهم النقد فهمًا ينكر جمود الطريقة الحكمية القديمة، وفي نفس الوقت لا ينكر حق الناقد في التقدير والحكم، والمفتاح لهذا الفهم يقدمه إلينا مبدأ نسبية الأدب والطريقة التاريخية في التفسير. ويمكننا أن نوجز القول في هذا بالرجوع إلى الناقد الفرنسي Edmand Scherer فحين قام شيرر بدراسة قصيدة «الفردوس المفقود» دهش إذا وجد رأيين عنها متعارضين تمامًا، رأى فولتير ورأي ماكولي: فأحدهما توغل في احتقار لا حدّ له، والثاني أمعن في تقريظ لا حدّ له. فتساءل: هل الاحتقار أو التقريظ يمكن أن يؤخذ أحدهما كحكم حقيقي على القصيدة؟ هل يعطينا أحدهما أي وصف حقيقي لعظمتها ولمواطن ضعفها ولمكانها بين آيات الأدب؟ بكل تأكيد لا، فهذان ليسا حكمين مستندين على أساس مطلقًا، وإنما هما مجرد تعبير عن ميول شخصية للناقدين. وهما ينقصهما تمامًا الصفة التي يجب قبل كل شيء أن توجد في كل من يتعرض للقيام بمهمة الحكم على الأدب، ألا وهي صفة الحياد والنزاهة. فهما يخبراننا بما اعتقده في عمل ملتن فرنسيّ ذكيّ في القرن الثامن عشر، وإنجليزي ماهر في القرن التاسع عشر، ولكنهما لا يعيناننا على أن نكون لأنفسنا حكمًا خاصًّا عليه. وهما يلغي أحدهما الآخر بكل بساطة. قد تجعلنا ميولنا الخاصة نميل إلى جانب رأي فولتير، أو إلى ناحية رأي ماكولي، ولكنهما في حد ذاتهما يغادراننا غير مقتنعين وغير فاهمين وإذن فكيف نستطيع أن نأمل في أن نكوّن وجهة نظر بعيدة عن العواطف الشخصية — وجهة نظر منها نرى «قصيدة الفردوس المفقود» كما هي في الحقيقة بصرف النظر عن مسألة ما إذا كانت تمتعنا أو لا تمتعنا؟ يقول شيرر: نستطيع ذلك باتباع الطريقة التاريخية الحديثة، فهذه الطريقة أقرب إلى القطع والجزم وإلى العدل والإنصاف من طريقة المدارس القديمة، لأنها تحبس نفسها على أن تفهم الأشياء لا على أن تصنفها، وأن تشرحها لا أن تحكم عليها، فغرضها أن تصف العمل من جهة عبقرية مؤلفة، ومن القالب الذي اتخذت هذه العبقرية بتأثير الظروف المحيطة بها. فأول مهمة لنا في تناول «الفردوس المفقود» إذن تكون أن نُبعد على أقصى ما نستطيع كل ميل شخصي ناتج إما عن النفسية الفردية والاستحسان الشخصي، أو عن العادات والأذواق الأدبية لزمننا ووسطنا، ونشرحها كما هي في كل ميزاتها المختلفة من الموضوع والأسلوب، بتحليل دقيق لعبقرية ملتن وبيئته، للرجل نفسه وخلاصة المؤثرات الفكرية والفنية والسياسية التي أثرت فيه سواء أعددناها مؤثرات طبية أم رديئة، حتى هذه النقطة لا يزال الناقد يعتبر فيها كمختبر، برغم أن عناصر الشخصية والوسط — وهي أشياء لا تدخل في نظرية الأستاذ مولتون — تؤكد تأكيدًا خاصًّا (أي في نظرية شيرر) ولكن هنا يفترق شيرر عن مولتون ويرفض أن يتقدم من التفسير إلى الحكم. فيقول: «إنه من هذين الشيئين: من تحليل نفسية الأديب، ومن دراسة عصره ينتج بالضرورة الفهم الصحيح لعمله» والفهم الصحيح بدوره يعطينا مبادئ نقدية نقدر بها مكانته وقيمته، فبدلًا من تقدير نرسله وحيًا للصدفة والظروف، يكون لدينا حكم على العمل مستمد منه نفسه ومحدد للمرتبة التي ينتمي إليها بين منتجات العقل الإنساني. الطرق القديمة للنقد الحكمي الناقد العلمي للأدب هو كما يقول مولتون: «ليس له أي شأن بالجودة النسبية أو المطلقة». فهو يعرف الاختلافات في النوع، ولكنه لا يعرف الاختلافات في القدر والقيمة، وهو يبحث عن القوانين والمبادئ لمجموعة ما من الأدب مثل الدراما الشكسبيرية، ويبحث عنها في العمل نفسه، فإذا وجدها حددها، ولكن ليس لديه فكرة يقولها عنها. فمسألة ما إذا كان نقد الحياة الذي تحتوي عليه الدراما الشكسبيرية صائبًا أم غير صائب، وما إذا كانت المبادئ الفنية لصنعها حسنة أم رديئة هي مسائل تقع خارج ميدانه كباحث علمي عن الظواهر كما هي في الواقع. ولكن هذه الأسئلة وجميع الأسئلة التي من نفس النوع العام هي أسئلة لا مناص منها وهي طبيعية ومشروعة، فهي تجبرنا على أن ننتبه إليها ونحن لا نستطيع أن نتجنبها، ونحن لنا الحق أن نطلب الإجابة عليها حتى ولو لغير سبب إلا مجرد إرشادنا في قراءتنا. وهنا تنعدم كل المشابهة بين الأدب وبين العلم الطبيعي كالجيولوجيا. فالجيولوجيا تتناول ظواهر ليس فيها عناصر للشخصية، وللصدق والكذب، وللقوة العاطفية، وللنتائج الفنية. ومثل هذه العناصر هي من جوهر الأدب الذي إنما يوجد ليفسر الحياة في صور من الفن والذي لذلك يجب أن يقدر بكل من صفتي التفسير والفن، وفي الجيولوجيا لا نتساءل إلا ما هو هذا الشيء وكيف صار إلى ما هو عليه. فنشرح ذلك، وبالشرح تنتهي مطالبنا، وأما في دراسة الأدب فهذه الأسئلة تقود مباشرة إلى المسألة التالية عن أهمية الشيء الذي نشرحه بالنسبة لنا وللناس الآخرين، أي مسألة ميزاته وعيوبه الإنسانية والفنية ومن العبث أن يقال: إنه حتى أمام الذي يتناول موضوع الأدب كما يتناول موضوع الجيولوجيا في روح من الاختبار الخالص لا يكون وجود للمزايا والعيوب. فإن المزايا والعيوب يؤمن بها العلمي نفسه، كما يؤمن بها الأستاذ مولتون لأنه إذا خصص مجلدًا ضخمًا عظيمًا عن العرض الاستدلالي لفن شكسبير، فإنه من الواضح أنه يرى أنه يستحق ذلك، لأنه مثلنا قد قاده إلى البدء بذلك بعض ميول الذوق فاعتقد بتفوق شكسبير كفنان تمثيلي. وهكذا اعتقد أن طرقه الفنية هامة ليس فقط كطرق لشكسبير بل أيضًا كطرق يمكن أن تعتبرها بارعة في نوعها، وإلا فإذا كان كالجيولوجي تمامًا غير مهتم بقيمة الصخور التي يدرسها فإنه يمكنه سواء بسواء أن يكتب بتفصيل عن الفن التمثيلي لشريدان أو حتى عن مؤلف كتاب Box and cox (من الواضح بالطبع أن هذه أمور تافهة ومؤلفات عديمة الأهمية). ففي المرة الأولى نرجع إلى قطعة من النقد لاهتمامنا بالكتاب، أو بالمؤلف الذي يتناوله هذا النقد، ولكن بعد ذلك سوف نستكشف في هذا النقد شيئًا آخر يستدعي اهتمامنا، فمثلًا كتاب أرنولد Essays in criticism قد تهتم بقراءته أولًا لكي تحصل على تقدير أتم لوردسورت أو لبيرون أو لشلي أو لكيتس، ولكن بصرف النظر عن المساعدة التي يقدمها إلينا الكتاب في هذا السبيل، وبصرف النظر عن أهميته الثانوية كوسيلة إلى غاية، فإن له قيمته الذاتية كتعبير عن الناقد نفسه، عن شخصيته وفكره وطرقه وأغراضه. وحتى لو وجدنا أقوال أرنولد عن هذا الشاعر أو غيره غير مرضية، وحتى لو لم تجد في هذه الأقوال فائدة ما أو وجدنا فائدة قليلة فيها كوسيلة إلى غاية. فإنها تظل ذات أهمية ولذة باعتبارها أقواله هو، وما يصدق عن أرنولد يصدق بالطبع عن كل النقاد الكبار. ومعنى هذا أن النقد، برغم أنه قد يعتبر مبدئيًّا كأداة في دراسة الأدب فإنه يجب ألا يعتبر أداة فقط، فإنه في نفسه صورة من الأدب، وعلى هذا الاعتبار يستحق أن يدرس لقيمته الخاصة. النواحي الشخصية بعض المؤهلات للناقد الحق ومثل ذلك نقول عن نقاد المتنبي فكثير منهم عابوه وغالوا في إظهار عيوبه من غير حق حتى أتى عبد العزيز الجرجاني فأنصفه وأنصف خصومه. ذخيرة الناقد وهكذا يكون من العبث أن يحاول أحد الحكم على «الفردوس المفقود» دون أن يكون عارفًا للإلياذة والإنيد والمعرفة التامة الدقيقة بأعظم منتجات العالم في القصة التمثيلية والرواية النثرية هي شيء لا بد منه لأي واحد يحاول أن يصدر حكمًا على رواية أو على دراما، ومن العسير ألا نوافق أرنولد في قوله إن أقل ما ينبغي أن يكون عليه استعداد ناقد هو معرفة أدب كبير بجانب أدبه، وكلما كان مختلفًا عن أدبه كان ذلك أفضل، وليس هناك مبالغة قط في قوله: «إن الاستعداد الكامل يجب أن يحتوي على معرفة أحسن الأشياء في كل الآداب الأوربية القديمة والحديثة، وحتى في الآداب الشرقية القديمة، وإن انحصار المعرفة في أي نوع من الأدب سينتج حتمًا ضيق الحكم وانحرافه». ومن الضروري الإلحاح في بيان حاجة الناقد إلى المران والنظام، لأنه شيء له أهمية عملية، فمن أشد الصفات الغريبة السيئة في نقد الصحف والمجلات المعاصرة. على الأقل في إنجلترا وأمريكا، حاجتها إلى الاتزان والرزانة والتعقل. قد تظهر رواية جديدة لناشر، وقد يظهر كتاب ذو صفات خاصة تستحق كلمة من التقدير. فإذا قرأنا ما يكتب عنهما من ملاحظات في صحيفة ما، وجدنا ناقد الصحيفة وقد فقد نفسه في ثورة من الإعجاب والانفعال، فيعد العمل كآية فنية، ويعتبر مؤلفها للتو واللحظة فنانًا كاملًا إذا قيس بسكوت وديكنز. ثم تمر بضع سنوات، فيختفي الكتاب العظيم ومؤلفه أو يتراجعان إلى مرتبة الفناء؛ والناقد الصحفي الذي يبدو أنه غير قابل لأن تعلمه التجربة ينفجر بلا خجل في ثورة أخرى من الاحتقار وعدم التقدير لدى ظهور آية فنية أخرى من عبقري آخر من الطراز الأول. وهذه التصورات الباطلة للنقد الصحافي الدوري تدل بالطبع على تساهل في الذوق المعاصر، فالناقد الصحافي لا يشعر إلا قليلًا بمسئوليات مهنته، ولا يهتم إلا قليلًا بالمسائل الحقة في الأدب، إلى حد أنه لا يتوقف لكي يزن كلماته أو لكي يقدر الأهمية الحقيقية لآرائه، بينما الشعب الذي يطالع الأدب الدوري لكي يقرأه بأسرع ما يمكن وينساه بأسرع ما يمكن لا يفرض عليه بالطبع أي تقيد ولا يمكن الادعاء بأن هذا التساهل المؤسف يمكن علاجه بمجرد زيادة المعرفة والتهذيب في هؤلاء الذين يتقدمون كمرشدين للذوق العام في المسائل الأدبية، ولكن ازدياد المعرفة والتهذيب سوف يساعد بلا شك على أن يضمن بعضًا من هذا الاتزان والرزانة والتعقل التي يكون النقد بدونها أردأ من الرديء. ما ينبغي دراسته من النقد من عمل الناقد ومهما يكن رأينا عن نقد أديسون سيئًا فإننا يجب أن نعترف بأن روحه العامة رائعة. فقد كان يعتبر من واجب الناقد الحق أن يبحث عن المحاسن لا عن العيوب، وكان يعد واجبه الأساسي أن يستكشف مواطن الجمال المختفية للأديب وأن يقدم إلى العالم هذه الأشياء التي تستحق الملاحظة. وأما الروح العامة لنقد Lord Jeffray فهي على العكس من ذلك تمامًا، فإن عقيدته كانت كما يقول الأستاذ سانتسبري: «إن المؤلف قد جاء أمام الناقد بحيل على عنقه، وقد عفا عنه ولم يشنق تكرمًا وتفضلًا». وهي فكرة يقول عنها سانتسبري بحق إنها «فكرة متجبرة وسخيفة معًا»، ومع ذلك فإنها لم تنقرض بعد وقد سببت كثيرًا من الضرر للنقد. ولا ينكر أحد أن هناك مواطن تكون فيها قسوة النقد عادلة تمامًا، وأن التجبر إذا كان خاطئًا دائمًا فإن الرأفة الضعيفة العمياء لا يمكن أن تكون صائبة قط. والآن ليس علينا إلا أن نلح في أهمية أن نعتبر روح كتابات الناقد من مميزات عمله، وأن نتبين الطريقة التي بها تدخل هذه الروح إلى أحكامه وتكونها. المصدر مؤسسة هنداوي الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: السبت 29-08-2020 03:16 مساء الزوار: 322 التعليقات: 0
|
|