|
|
||
|
كتاب «النقد الأدبي» لكارلوني وفيلو .. من الأحكام المطلقة إلى الإبداع
تعددت المدارس الأدبية، وتغيّر معها مفهوم الأدب والنقد الأدبي، طبقا لما يستوجبه تغيّر وتنوع النص والمنجز الأدبي مع مرور الزمن. وقد شكلت كلّ مرحلة خطابها النقدي الخاص ومنهجها الذي اتبعته في تقديم وقراءة النصوص وتحليلها وتفكيكها. يقدم لنا كتاب «النقد الأدبي» لمؤلفيه كارلوني وفيلو، الصادر عن منشورات كتاب الدوحة عدد 96 مايو/أيار 2019 في حلة جديدة ــ صدر في لغته الأصلية سنة 1955 ــ ترجمة كيتي سالم، لمحة تاريخية موجزة تنتهج قراءة ملخصة، لأهم تلك المدارس والتوجهات التي عرفها النقد الأدبي الغربي، خاصة في فرنسا. ينقسم الكتاب إلى تسعة فصول يعالج كل منها مرحلة من مراحل تاريخ النقد الأدبي، وصولا إلى منتصف القرن الماضي، في محاولة لمعالجة مجمل التوجهات النقدية الكبرى، إضافة إلى علاقة النقد بالإبداع والفلسفة. قبل عصر النقد انطلق الكاتبان في فحصهما هذا من النقد التقليدي (ما قبل القرن 19) وصولا إلى ما عرفه النقد من قفزات نوعية في حدود منتصف القرن الماضي مع رولان بارت وغيره، هذا الأخير الذي يعرّف النقد بأنه «لا يسعه أن يدعي ترجمة العمل الأدبي إلى صيغة أوضح، إذ لا صياغة أوضح من العمل الأدبي ذاته»، فالناقد بات كاتبا (موازيا) بهذا المعنى، وإن النقد صار ولا بد أن يُقرأ ككتابة، كنص مواز للنص المقروء. وهذا ما يخالفه النقاد القدماء الذين أولوا اهتماما كبيرا بالكاتب على النص، إذ اتخذ النقد (في تلك المرحلة، القرن 17)، في أغلب الأحيان، شكل الهجاء. حيث «إن من مسلمات النقد التقليدي الضمنية اعتبار العمل الأدبي مرآة لمؤلفه تعكس ذاتيته النفسية والاجتماعية والأيديولوجية، بحيث يتعين على الناقد أن يعبئ دراسته بركام من المعلومات المتعلقة بسيرة المؤلف الشخصية، يموت تحت عبئها النص، الذي يتحول، طبقا لهذا التصور، إلى مجرد شواهد تمثيلية وتوضيحية تشبه الشواهد النحوية. ونتيجة ذلك، ينحرف النقد عن غايته الأساس، أي دراسة الأدب ليصبح دراسة الأديب». وبالتالي لم يكن هناك نقد «حقيقي»، أو بالأحرى لم يكن هنا في الأصل نقد بالمعنى الصريح، قبل القرن الثامن عشر. حتى إن بوالو في كتابه «الهجاء» يبدو هجّاءً أكثر منه ناقداً، وهو نفسه يعترف أنه لم يقرأ بعض المؤلَّفات، التي أدانها بقسوة شديدة. سعى النقاد الكلاسيكيون إلى الإتيان بنقد يحتكم إلى «المعيار»، نقد مطلق يليق بقراءة كل الإبداعات والنصوص، وهي «محاولة قوية لجعل الحُكم مرسوما مطلقا، بدلا من أن يكون تعرُّفا، والحكم على النتاج الأدبي على ضوء القواعد العقائدية، عوضا عن شكله الحقيقي» الكلاسيكية سيعرج بالتالي كارلوني وفيلو إلى تتبع الخيوط المؤسسة للنقد «الحقيقي»، منذ منعطف القرن التاسع عشر، حيث ظهرت تيارات تحاول إيجاد نقد مطلق (النقد الكلاسيكي)، وأخرى تسعى إلى البحث عن موضوعية علمية، وتيار ينطلق من رؤية ماركسية أو سيكولوجية وآخر يوالف بين النقد والإبداع وتيار أخير يربط بين النقد والفلسفة. فن النقد لاحقا، بدأت تظهر توجهات تعي كون الإبداع والكتابة – في جميع أنواعهما – ليسا مرآة لصاحبهما، ولا تحملان بالضرورة قيما مثالية ومطلقة، مكرسة لحضور شخصيات أكسيولوجية، تلهج بقيم الخير والحق والجمال، كما يقول كونديرا. ويُعدّ سان بوف (1804-1869) من الأولين الذين وجّهوا سهام نقدهم صوب النقد المطلق. ومجمل القول إن معه قد أصبح النقد، منذ ذلك الوقت، وبفضله فنا أدبيا كغيره من الفنون. وجاء من بعده فرديناند برونتيير (1849-1906) ليبحث في النقد عن موضوعية «علمية»، إلا أن النقد في تلك الفترة لم يكن نقدا نسبيا كما ينبغي، إذ ظل تلاميذ برونتيير يميلون إلى الرؤية المطلقة في التعاطي مع الآثار الأدبية. وكان لا بد من انتظار بروز نقد اجتماعي، إذ أخذ مفهوم «النقد العلمي» مضمونه الجدّي اعتبارا من هانكان. ما سينتج عنه نقدا مبنيا على المبادئ الماركسية، أي على الرؤية الاجتماعية والطبقية لهذه النزعة الفلسفة والاقتصادية، حيث ينظر النقد الماركسي إلى الأدب والفن، باعتبارهما انعكاسا للوضع الاقتصادي والطبقي، الناتجان عن جدلية البنية الطبقية. فيعتبر لوسيان غولدمان أن العناصر النفسية التي يقترحها العمل الأدبي تؤدي بالضرورة إلى قراءة العناصر الاجتماعية. ما سيقود بيير بورديو لتأسيس علم اجتماع المؤسسة الأدبية (كتاب، أكاديميات، دور النشر، مؤسسات ثقافية). في الوقت ذاته ظهرت تيارات تنتهج نقدا انطباعيا يذهب إلى الاعتماد على اللذة، وكان من رواده لوميتر وأندريه جيد وأناتول فرانس وريمي دوغورمن. وفي السياق الزمني سيبرز نقد مختلف وأكثر جرأة وصدمة، متعلق بالبعد السيكولوجي للأثر ومبدعه. إذ إن تراكبية النصوص تكشف عن شبكات مرتبطة، أو صور، حيث تظهر فيها الأسطورة الشخصية للكاتب، وتنكشف بنية شخصيته. إذ يسمح لاوعي الأديب وحياته باختبار صحة القراءة، كما يذهب إلى ذلك مورون. بالتالي فللاوعي دور كبير، شأن حياة الطفولة (فرويد)، في تكوين النص؛ ومنه فعناصر النص تكمن في الشبكات (الأصوات والألوان والأنماط والمواضيع) المنكشفة في الأفكار اللاواعية. وعلى عكس كل هذا فقد ذهب باشلار إلى أن يبقي على مستوى الصورة الواعية، عوضا عن أن يذهب إلى المدلولات اللاشعورية، كما فعل مورون مثلا، إذ يعمد نقد باشلار إلى إعادة بناء الصورة، لاكتشاف العالم، حيث تود روح الفنان أن تعيش. النقد والفلسفة يختم المؤلِّفان كتابهما، بالتطرق إلى وجهة النظر الفلسفية، أي العلاقة الجامعة بين النقد الأدبي والفلسفة. وهو النقد الذي تولدت عنه ـ بعد منتصف القرن الماضي- مجموعة كبرى من التيارات والتوجهات النقدية التي نعرفها اليوم، من سيميائيات ولسانيات، وبنيوية وما بعد بنيوية، وتفكيكية وتناص وشعرية وحوارية وسردانية وتوليدية. وهي توجهات تعالج النص من أبعاد لا تبحث عن أي شكل مطلق فيه، أو في النصوص المرتبطة به، أو ادعاءات موضوعية وطبقية ولاواعية، تهتم بذات الكاتب أكثر من النص عينه، فالكاتب «يموت» مع نهاية النص، كما يقول بارت. ذلك أن النقد، شأن القصد الفلسفي، يحقق جهداً ليدرك الإنسان في شموله، وليحدد مكانه بالنسبة إلى وضعه البشري. ٭ شاعر وباحث مغربي عز الدين بوركة الكاتب: هيئة التحرير بتاريخ: السبت 29-08-2020 03:30 مساء الزوار: 240 التعليقات: 0
|
|