|
عرار:
مقدمة ها هي ذي قصة عليّ عبد الخالق كما يقدّمها لنا الكاتب حسين ياسين في روايته عليّ: قصة رجل مستقيم الصادرة عن دار الرعاة للدراسات والنشر في رام الله وجسور الثقافية للنشر والتوزيع في عمان. صدرت الطبعة الأولى للرواية منتصف عام 2017 والطبعة الثانية بداية عام 2018. ثمّة روايات نقرأها لا نلبث بعد الانتهاء من قراءتها أن ننتقل من عالم الخيال الذي نختبره في الرواية إلى عالم الواقع الذي نعيشه وكأن شيئًا لم يكن؛ وعلى العكس من ذلك، هنالك روايات تترك فينا أثرًا عاطفيًا وفكريًا قد يغيّر من مفهومنا للحياة، ويساعدنا على تعميق تجاربنا وتوسيع مداركنا. وهذا في نظري من أهم صفات الأدب الجيد، وهذا ما نجده أيضًا في رواية علي: قصة رجل مستقيم مما جعلها تصل إلى القائمة الطويلة في القائمة العالمية للرواية العربية "البوكر". يصف الدكتور سمير الخطيب الرواية في مقالته بعنوان "عليّ: قصة رجل مستقيم" الصادرة في دنيا الوطن بتاريخ 19 آب 2017 بأنها عمل مُبدع ورائع. للرواية أبعاد ملحمّية. أولا، تتحدث الرواية عن قضية عالمية في غاية الأهمية تخص كل إنسان في كل زمان ومكان، هي قضية الحرية والعدالة؛ ثانيًا، اللغة جاءت روائية متماسكة ومبدعة، وكما تقول الدكتورة رباب القاسم سرحان في مداخلتها عن الرواية أثناء حفل إشهار وتوقيع الرواية الذي دعا إليه نادي حيفا الثقافي في 17 تموز 2017، إنفردت الرواية "بلغة مميزة سلسة شعرية مطعمة باللهجة الفلسطينية"؛ ثالثا، تركّز الرواية على شخصية رئيسية واحدة هي شخصية عليّ المغامر الجريء المؤمن بقضيته، ولكن على عكس أبطال الملاحم التقليدية لا يتميز عليّ بأي صفات بطولية خارقة للطبيعة ولا يقوم بأعمال أسطورية، بل هو رجل عاديّ بسيط يعيش يتيمًا ويعمل في الحقل وينضّم لاحقا في صفوف الحزب الشيوعي، ويقاوم الاحتلال البريطاني والصهيوني ثمّ يرحل إلى أسبانيا كي يتطوع للمحاربة في الحرب الأهلية الأسبانية. أخيرًا، تتميز الرواية باحتوائها على الكثير من الأحداث والشخصيات واتساع المساحة الجغرافية التي تدور فيها الأحداث. هكذا يصف الناقد الدكتور رياض كامل عالم رواية عليّ: قصة رجل مستقيم في مقالته بعنوان "الراوي، الوصف وعملية الإيهام بالواقع" الصادرة في مجلة صوت العروبة بتاريخ 8 نيسان 2018: "عالم الرواية واسع ورحب، يشمل أحداثا وشخصيات متنوعة، فضلا عن اتساع رقعة الأمكنة في الداخل الفلسطيني وفي الغربة، وامتداد مساحة الزمن من سن الطفولة فالشباب حتى الثلاثينات من عمر الشخصية المركزية". ويضيف الدكتور سمير الخطيب: "الرواية غنيّة بالمواقف الرومانسية والمواقف البطولية ووصف دقيق للجغرافيا التاريخية والأحداث السياسية ... وتفتح الكثير من المواضيع التي بحاجة إلى دراسة معمّقة". أهمية الرواية ما يشهد على أهمية الرواية الكمّ الكبير من المقالات النقدية التي تنطوي على تحليل أدبي وسياسي وحزبي لمحتوى الرواية، وتقييم شكليّ لمواطن القوة والضعف فيها. ولا بدّ من الإشارة في هذا الصدد إلى أن هنالك اتفاقا عاما بين أغلبية النقاد على أن أهم ما تتسم به الرواية هو أنها تتحدث عن شاب فلسطيني، شارك في الحرب الأهلية الأسبانية بعد طرده من وطنه عقب رحلة كفاح مريرة ضد المستعمرين البريطانيين والاحتلال الصهيوني لفلسطين. وفي الحقيقة، هذا ما أدى بالأستاذ حسين ياسين إلى كتابة روايته، فقد اكتشف مصادفة أن عليّ عبد الخالق بطل روايته حارب في أسبانيا وقُتل ودُفن فيها. تكشف الكاتبة بديعة زيدان في مقالة لها بعنوان "حسين ياسين ... ورحلة البحث عن عليّ " تمّ نشرها في جريدة الأيام بتاريخ 30 كانون ثاني 2018 كيف عثر المؤلف على معلومات عن عليّ: "قبل خمس سنوات، قرأ ياسين كتابًا للمؤرخ الألماني هارت هوب، عميد كلية التاريخ في لايبزيغ، يتحدث عن فلسطينيين إثنين أحدهما عليّ، والثاني فوزي قُتلوا ودُفنوا في أسبانيا خلال مشاركتهم في الحرب. وقال: بدأت البحث ... فتوجهت لأرشيف الحزب الشيوعي، ولم أعثر على شيء لا في هذه الأرشيفات ولا لدى كبار الس،. في العام 2016 صدرت مذكرات محمود المغربي وحرّرها ماهر الشريف، وتضمنت سطرًا حول علي ... وهنا الحديث عن شخص يُدعى علي عبد الخالق، وبعدها صدرت مذكرات نجاتي صدقي، وأشارت إلى أن عليًا كان عضو لجنة مركزية في الحزب الشيوعي حارب وقُتل ودُفن في أسبانيا. توجهت إلى المراجع العبرية، فوجدت 23 مرجعًا حول الحرب الأهلية الأسبانية، وفيها عثرت على اسمه وصورته، وبدأت الكتابة." تكمن أهمية الرواية أصلا في أنها تسلّط الضوء على شخصية شاب عاش في النصف الأول من القرن الماضي، حارب في أسبانيا لكنه لم يترك خلفه أي أثر عن الحرب، على عكس الكثيرين من قوميات أخرى ممن شاركوا في الحرب، ولهذا السبب طواه النسيان، ولم يحظ إلا بذكر ضئيل ونادر في بعض الكتب، إلى أن اكتشفه مصادفة الكاتب حسين ياسين وقدّمه للقارئ العربي. عندما سُئل الكاتب حسين ياسين في مقابلة ضمن برنامج "صباحنا غير" في أيلول 2017 عن تغييب شخصيات عربية مثل عليّ في كتب التاريخ، أجاب: أن العرب لم يكتبوا أبدًا عن الحرب الأهلية الأسبانية، ولذلك تمّ تغييب دور المحاربين العرب الذين تطوّعوا في الحرب، يقول الكاتب بامتعاض: "هناك نقص فينا، خلل في المؤسسة الفكرية العربية". إضافة إلى ما سبق، تكتسب رواية "عليّ: قصة رجل مستقيم" أهمية خاصة لأنها تتحدث عن حقبة حرجة في تاريخ فلسطين أوائل القرن العشرين، حيث يعالج الكاتب الوضع الفلسطيني خلال فترة زمنية تراوحت ما بين ثورة البراق عام 1929 وما بين مقتل عليّ في آذار عام 1938. تزخر الرواية بالأحداث السياسية، وفي نفس الوقت تقدّم صورة حيّة عن الحياة الاجتماعية الفلسطينية في ذلك الوقت، فضلا عن ذلك، تتناول الرواية العلاقة ما بين الحزب الشيوعي الفلسطيني عربًا ويهودًا وعلاقة الإثنين مع الحركة الوطنية الفلسطينية ومع الحركة الصهيونية، وهذا "موضوع لم يسبق التطرق إليه"، يقول الكاتب حسين ياسين. علي رجل المبادئ تشكل المبادئ خارطة الطريق لسلوك الإنسان، ومن الواضح أن الدافع وراء تصرفات وأفعال عليّ هو مبدأ الحرية والاستقلال والعدالة للجميع. يقول عليّ: "الدنيا سياسة سلاحها مبادئ وعقيدة" (ص 44). وهذا في الواقع ما يجعله رجلا مستقيمًا. وكان عليّ يؤمن بأنه "لا يوجد شعب واحد على وجه البسيطة يمكن أن يرضى بغير الحرية" (ص 53). عزاؤه في من وراء تطوعه في الحرب الأسبانية أنه يخدم "قضية عادلة"، وهو يؤمن "بعدالة النضال"، وأن الحرب الأسبانية ستظل نبراسًا وقدوة لكل انصار الحرية" (ص 298). يؤمن عليّ أن رسالة الحزب الشيوعي الذي ينتمي له هي تحقيق العدالة والحرية ليس فقط في فلسطين، بل في أيّ مكان آخر من العالم، ولهذا السبب هو لم يمانع في أن يذهب إلى أسبانيا، ويلتحق بالألوية الأممية كي يقاتل إلى جانب الجمهوريين ضد القوميين. وبعد انضمامه إلى الحزب يشعر بسعادة كبرى وأن أمانيه للمساهمة في تحقيق الحرية والعدالة سوف تتحقق، ولذلك نراه ينخرط في الحركة الوطنية والنضال السياسي ضد المستعمر البريطاني في فلسطين، فتارة يشارك في المظاهرات ويعلّق الملصقات ويقرأ كتابات ماركس ولينين، وتارة أخرى يتضامن مع العمال والفلاحين. يقول عليّ مزهوًا بنفسه: "مساهمتي في النضال تتكثف، دخلت النضال من أوسع أبوابه، ما فاتني شيء من الفعاليات الوطنية" (ص 80). في القدس تُلقي السلطات البريطانية بالتعاون من اليشوف القبض على عليّ، وتقوم بترحيله إلى أسبانيا، يُرحّب علي بفكرة ترحيله إلى أسبانيا؛ لأن المعركة من اجل العدل والحرية والسلام هي معركة عالمية وإنسانية، هي معركة "بين قوى الظلام وأنصار الحرية، بالنسبة للثائر، كل جبهة ضد الظلم هي جبهة نضال عادل" (ص 236). ويتساءل بعض النقاد أليس من باب أولى أن يبقى عليّ في فلسطين للنضال ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني؟ على سبيل المثال، في مقالته "نوستالجيا شيوعية نمطية" الصادرة في مجلة فلسطين ultra الإلكترونية بتاريخ 18 شباط 2018 يتهم الباحث عز الدين التميمي الكاتب حسين ياسين بانشغاله "بمحاولة تجاوز التناقض الفجّ في فكرة ترك الصراع الفلسطيني البريطاني الصهيوني والالتحاق بمعركة على أرض أخرى". لكن من وجهة نظري لا أعتقد أن هنالك أيّ تناقض وذلك لسببين هما: السبب الأول: هو أن عليّ يُجبر من جانب قوات الاستعمار البريطاني والصهيوني على الرحيل والتهجير من فلسطين إلى أسبانيا والحصول على موافقة حزبه للذهاب إليها، فلم يكن لديه أيّ خيار آخر في ذلك. يقول عليّ: "فراق الوطن صعب! التهجير، صعب. لو تطوعت بمحض إرادتي، لو كان وطني ينعم بالحرية، لكان الأمر أهون وأبهج" (ص 241). والسبب الثاني هو أن عليّ لم يتخلّ عن مبدئه لتحقيق العدل والحرية، وما لم يتمكن من تحقيقه في فلسطين يحاول تحقيقه في أسبانيا. يقول عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل في كتابه البحث عن معنى الحياة بانه يمكن حرمان الإنسان من كل شيء عدا شيئًا واحدًا هو حرية اختياره للطريق الذي يسلكه، بصرف النظر عن المكان والزمان. فالمبدأ هو الدافع الذي يذهب عليّ من أجله إلى اسبانيا، أمّا المكان وأمّا الجغرافيا فما هما سوى المسرح الذي يؤدي فيه علي دور المناضل المؤمن بقضيته. بخلاف الصراع في فلسطين الذي هو أصلا صراع على الأرض، كانت الحرب الأهلية الأسبانية (1936-1939) بالدرجة الأولى حربا ايديولوجية أو فكرية. بدأت الحرب عام 1936 عندما قام القوميون المؤيدون للفاشية بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو؟ن وبتشجيع من الكنيسة الكاثوليكية والطبقة الأرستقراطية بالتمرد على الحكومة الائتلافية ذات الميول الاشتراكية، والتي وصلت إلى الحكم نتيجة انتخابات ديمقراطية. وفي تلك الفترة (الثلاثنيات والأربعينيات من القرن الماضي) كانت دول العالم تعاني من الكساد الكبير نتيجة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بها؛ مما أدى إلى زعزعة ثقة الكثيرين بجدوى النظام الرأسمالي والسوق الحرة، ولذلك بدا للكثيرين أن الاشتراكية القومية والشيوعية توفران بدائل للرأسمالية، وأصبحت اسبانيا ساحة معركة بالوكالة حيث كان بالإمكان اختبار هذه الإيديولوجيات عسكريا. كان ذهاب عليّ إلى أسبانيا والتطوع في الحرب الأسبانية اختبارا لإيمانه بالاشتراكية الشيوعية ومدى إمكانية تحقيقها للعدالة والحرية. يقول عليّ: "إنني متطوع عربي ]فلسطيني[ جئت لأدافع عن الحرية في مدريد" (ص 270). ولأن الحرب الأهلية الأسبانية كانت في الأصل والجوهر حربا أيديولوجية فكرية فقد جذبت العديد من المتطوعين بلغ عددهم بحسب المصادر المختلفة نحو 40 ألفا من أكثر من 56 قومية، ومن ضمنهم كان المفكرون والأدباء الذين شعروا وآمنوا بضرورة تصوير الحرب وتمثيلها فنيا وأدبيا. أذكر على سبيل المثال الكاتب البريطاني جورج أوريل الذي قدّم شهادة حيّة عن تجربته في الحرب في كتابه "الولاء لكتالونيا"، والذي يقابله عليّ في مدريد ويصفه بأنه "طويل القامة، يبدو عليه الوقار، لغته إنجليزية ... لاحقا عرفت أنه الكاتب البريطاني، جورج أورويل" (ص 247). وأيضا الكاتب الأمريكي إرنست همينجوي الذي كتب روايته الشهيرة "لمن تقرع الأجراس" وفيها يسرد قصة الشاب الأمريكي روبرت جوردن الذي ينضم إلى صفوف الألوية الأممية إبان الحرب الأهلية الأسبانية. مثل أورويل وهمنجواي، ينضم عليّ إلى صفوف المقاتلين الأمميّن في الحرب الأهلية الأسبانية بوصفه رجل مبادئ يؤمن بالحرية والعدالة. علي والتاريخ لم يترك علي أي أثر عن مشاركته في الحرب الأهلية الأسبانية، لذلك لا نعرف بالتفصيل عن طبيعة نضاله في أسبانيا، كما أن المؤرخ الألماني هارت هوب لا يتحدث إلا بشكل عابر عن فلسطينيين إثنين هما عليّ وفوزي اللذين قُتلا ودُفنا في أسبانيا. ويرد اسم عليّ أيضا في مذكرات محمود المغربي ونجاتي صدقي وبعض المراجع العبرية التي لجأ إليها الكاتب حسين ياسين أثناء بحثه. وبكلمات الكاتب حسين ياسين: "فالهيكل العظمي (علي) حقيقي ... بينما بقية التفاصيل خيالية". ومن منظور الدكتور عادل سمارة في مقالة له بعنوان "قراءة في رواية عليّ قصة رجل مستقيم" صدرت في مجلة كنعان الإلكترونية بتاريخ 25 أيار 201: "ليس الأدب، ولا سيما الروائي، بالعمل التاريخي الموثق واقعيا. ولكن، هل من قبيل المبالغة القول بأن الأدب حاضنة فضفاضة مرنة للتاريخ الذي هو نفسه حاضنة الوجود البشري"؟ وعليه لا يمكننا اعتبار رواية عليّ: قصة رجل شجاع على أنها رواية تتمتع بمصداقية تاريخية لأن الأحداث سواء في فلسطين أو في أسبانيا هي من نسيج خيال المؤلف، وهي محدودة زمانيا ومكانيا. من ناحية أخرى، لا بد من الإشادة بالكاتب حسين ياسين لأنه أبدع في التحرر من قيود الكتابة التاريخية وأطلق العنان لخياله، وبالفعل أنتج عملا أدبيا عن حقبة تاريخية وحدث تاريخي بالغ الأهمية لطالما تمّ تجاهله من جانب المؤرخين والكتاب العرب. يعرض الكاتب لمحة خيالية موجزة عن مجريات الحرب كما يرويها بطلها عليّ. فنرى عليّ يحارب ويأسر الجنود، ويحقق معهم ويُطلق الرصاص ويُصاب وفي النهاية يُقتل. وقد نجح المؤلف في تصوير أحداث الحرب بواقعها الأليم، فنقرأ مثلا: "كأننا حمم خرجت من بركان، أو سهام تطايرت. نطلق الرصاص ونعدو نحو العدو. نقذف القنابل ونعدو نحو العدو" (ص 317-318). يقضي عليّ نحو سنتين في أسبانيا يحارب في صفوف الجمهوريين وبالتحديد من تشرين أول 1936 حتى إصابته واستشهاده في 17 آذار 1938. موقف عليّ من الحرب يرى عليّ أن الحرب تعكس صورة مصغرّة لكارثة إنسانية عالمية، وهذه الكارثة يختبرها عليّ في خضم الحرب الأسبانية بين القتلى والجرحى والدمار. الحرب في نظره مأساة عالمية: "في الحرب يهجرك الإنساني ... عندما يصبح محيطك أجساما ممزقة وبقايا بشرية، لا تعود تقوى على الإيمان بشيء. الحرب آلة جهنمية تذيب العقل وصفاء الضمير ... لم أتصّور أن الموت، الذي يمثل الشيء الأكثر استثنائية وخرقا للمألوف في حياة الإنسان، يصبح الشيء الوحيد المنهجي والمألوف. لا شك أن الحرب هي خطيئة الله على الأرض" (ص 312). يُبدي عليّ تعاطفا ورحمة مع ضحايا الحرب وضحايا العنف. يصف عليّ موت طفلة بأسلوب شعري يزخر بالعاطفة الصادقة: "رصاصة شاردة شقت صدر فتاة صغيرة، سال الدم عللى فستانها الأبيض، سقطت من يدها لعبتها الصغيرة وانكسرت على رصيف الشارع، زعيق الأمّ يتردد في أذن السامعين، أخذت ابنتها ولاذت في البيت، يركض خلفها طبيب الكتيبة، يُصدر شهادة وفاة للطفلة الصغيرة، ما ذنب الصغار في لعبة الكبار"؟ (ص 273). مثل هذا الوصف يخلق تفاعلا قويا بين القارئ والنص، ويؤدي بالقارئ إلى خوض نفس التجربة التي يخوضها عليّ ولكن ليس واقعيا بل خياليا. لم يكن عليّ يعلم قبل وصوله إلى اسبانيا والتطوع في الحرب ماذا يتوقع أو ماذا سيحدث له. فقد كان مدفوعا بمثاليات ومبادئ آمن بها وورثها عن الحزب الشيوعي الذي ينتمي له. ومما لاشك فيه أنه صُدم من هول ما شاهده واختبره في الحرب الأسبانية على الرغم من تجربته النضالية الطويلة والواسعة في فلسطين. هكذا يصف عليّ شعوره بعد إطلاق أول رصاصة من بندقيته نحو جندي فاشي: "تلك كانت أول مرّة في حياتي أوجه فيها بندقيتي نحو إنسان، نحو رأس جندي فاشي، تسارعت دقات قلبي، ضجيج حاد في الأذنين، علا لهاثي ... الشعور بأنني اقتل إنسانا أقلقني جدا، عرق غزير فاض من جميع مسامات جسدي.، أغرق في عرق لزج" (ص 274). يؤمن عليّ أن الحرب هي النقيض التام للإنسانية والحياة: "يا إلهي! لا أريد أعداء، أحب الكل، أحب الإنسان. أحب الحياة" (ص 283). ويرى عليّ أيضا أن الحرب تملأ الإنسان بالوحشية والحقد: "الحرب تفعل بي مثلما تفعل النار بالهشيم، تجردني من إنسانيتي، ينتصر الوحشي في داخلي. أمتلئ غيظا وحقدا وعدوانية، يا إلهي! لا يزال الحب أجمل من الكراهية، والحياة أشرف من الموت ... (ص 284). لكن عزاءه الوحيد أنه في الحرب الأسبانية "نخدم قضية عادلة" (ص 298). يناضل عليّ كي يُبقي مشاعره الإنسانية حيّة مشتعلة وسط القتل والدمار والدماء الغزيرة: "الحرب تعطيل الحواسّ وإخراج الإنساني من الإنسان" (ص 312-313). خلاصة المبادئ تغيّر التاريخ وليس الإنسان؛ لأن الإنسان يزول وتبقى المبادئ، فبعد وفاة عليّ بحوالي ثمانين عاما ما يزال الإنسان عامة والإنسان الفلسطيني خاصة يكافح من أجل الحرية والعدل والسلام، في عالم معاصر تكاد تفقد فيه هذه المبادئ جوهر معناها. يعلمنا عليّ أنه مهما بلغت الصعاب والتحديات ومهما كان الثمن الذي ندفعه فإنه علينا دائما الالتزام بالمبادئ الإنسانية في كل مكان وزمان، ويعلمنا عليّ أيضا درسا هامّا هو أن وطن الإنسان ليس قطعة من الأرض، بل هو المبدأ الذي نؤمن به، وأن الوطنية الحقيقية هي الولاء والإخلاص لذلك المبدأ. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 07-06-2018 11:50 مساء
الزوار: 871 التعليقات: 0
|