|
عرار:
أفلت الصوت فجأة وهز البناية ذات مساء هادىء. أفزع السكان وأخرجهم مرغمين عن طور سكينتهم المألوفة في مثل ذلك الوقت. قيل بأن مصدر الصوت كان كرسيه الخشبي، والذي بقي فارغا ومركونا على يمين المدخل الواسع لأيام. «شاه».. كان بوابا مفضلا لدى الجميع رغم عجرفته الأسيوية المقيتة. قيل بأن مافيات النظافة البنغالية الدخيلة على حينا قد اختطفته، لعناده في منحها الحماية وربما «السمسرة» على سيارات شارعنا الرافض لفكرة الغسيل برمتها. وقيل بأنه قد ذهب لصلاة العصر في جامع «لاهور» الكبير، كعادة يومية مألوفة، ليعود قبل مغيب الشمس بوقت قصير ويلحق بصلاة الجماعة في المسجد النبوي الشريف، بالمدينة.. كونه صالحا ومن أهل «الخطوة» تحديدا، لكنه في ذلك اليوم لم يعد. تخلى عنه الجن، المكلف بخطواته المباركة، ليظل بين أهله في «لاهور». كثر الحديث عن دوافع اختفائه الغامضة وعن وضع نهاية ملائمة لهذا الرجل الكريم، المبارك.. رغم جلافته. لم يعد أحد يتندر حول لهجته المتكبرة وبأنه حارس الشرق الأسيوي، صار أسطورة محبوبة وتابعا مريدا، صالحا من أهل الله الصالحين. بالأمس فقط وبعد تسعة أيام قاسية على اختفائه.. صدح صوته الجهوري من جديد وراح يجاهر بالشتائم «اللاهورية» الغامضة في وجه البعض. قال لأحد الجيران ولسانه يقدح شررا: منذ أسبوعين وأنا مرمي في غرفة القبو الرطبة، مريض كالخرقة البالية، ولا أحد يتفقدني؟ ثم صاح: «إنتا نفر ما في كويس صديق.. ما في كويس». *** سكان البناية يختفون تباعا.. كل شقة تفرغ من ساكنيها تترك بابها مشرعا على الممر الضيق، الخافت بأنواره المخفية في الزوايا. الغريب أن سياراتهم لا زالت في أماكنها، مركونة على امتداد الشارع الفرعي، أمام بوابة المبنى. هذا المساء، لم يبق سواي، وبواب البناية المتجبر. الشقق فارغة، دون أثاث، ومعتمة قليلا، هذا ما لمحته من خلال الردهة البينية للشقق وأنا أنتظر المصعد البطيء. أخذ الطابقان يغرقان في مستنقع الرائحة والسكون منذ أسبوع على الأقل، حيث العتمة في اشتدادها التدريجي تدفع بوخم الرائحة العفنة نحو الدرج، تبينت هذا منذ وقت قصير. قلت لشاه، البواب، بامتعاض، لم لا يغلقون أبوابهم في وجه الرائحة، بعد الرحيل؟ تجاهلني بغطرسة مقيتة، واندفع نحو حضن كرسيه الصغير يحرس الشارع وبوابة المبنى. تمنيت لو ينبت هذا الشوك الذي ينخز رأسي في كرسيه اللعين. تمدد فوح الرائحة كثيفا حتى طوق المبنى وغمر الحي بأكمله. بعد يومين، أدهشني «شاه» وهو يقف أمام باب شقتي، كان وجهه ممتقعا، يعلوه خذلان الملامح الزائفة تحت رأسه اليابس، وهو يتلفت مذعورا دون حرج، قال مرتبكا: رائحة العفونة بدأت تنهش مقعدي!!. عفونة الشقق المهجورة وصلت إلى مقعدي «الراسخ».. تصور؟! كدت أضحك، لكنني تمالكت نفسي. بعد يوم واحد فر «شاه» ونال لجوءا مهنيا في مكان أجهله، ولم يبق غير كرسيه الخشبي وأثاث شقتي. لمحت أفراد إحدى مافيات البنغال، وهم يغسلون سيارات الحي المتسخة، بحرية وفرح ودون خوف من أحد. أمام بوابة المبنى، كان أقزام العصابة يتناوبون على كرسي «شاه» بالجلوس والرقص. يضحك كل واحد منهم ثم يبصق على ذروة الكرسي الشامخة باحتقار وتشف. كلما بصق واحد منهم عاد النور إلى إحدى الشقق المطفأة من حولي. ظلوا يبصقون على ذروته في غل، واحدا بعد آخر.. حتى دبت الحياة من جديد، وعاد للطابقين جنون الصخب. *** الصورة لم تتضح لنا تماما حول مصير «الشاه»، بعد فراره المشين ولجوئه المهني لإحدى البنايات الأخرى. لم يكن بوسعه أن يأخذ كرسيه الرئاسي معه، كان هذاأمر بديهيا ولكنه أثار استهجاننا، فنحن نعلم مدى تعلقه الشديد بالكراسي، بل وبعمق اعتزازه بذلك الكرسي الغامض تحديدا. شغلنا السبب أول الأمر، نحن سكان هذه البناية المفجوعة بفرار حارسها التاريخي، بل وحارس الشرق الأسيوي برمته. لكننا نسينا في خضم انشعالاتنا اليومية، مع الوقت، حتى اعتلى ذلك الكرسي وللمرة الأولى، شخص آخر، غير «شاه»، شخص غريب، ببشرة داكنة وملامح ودودة، ابتسامته المستقرة على وجهه كانت تحاول اختراق كل شيء في طريقها، رجل هادىء قصير القامة، ضئيل الجثة، يضع ساقا على ساق في استحياء تام. عرفناه.. كان هو زعيم العصبة البنغالية والتي اجتاحت شارعنا الفرعي واحتلت بنايتنا المسالمة على حين غرة. ولم يتسنى لنا أن نعرف اسمه، فقد كان يصر أن نناديه بالسيد. بدت حاوية القمامة المخصصة لنا أبعد مما هي عليه بكثير، وصار لزاما علينا أن نذهب بأكياس القمامة، مسافات مضاعفة لنلقي بها هناك. وأن نرفع أغراض البقالة ومشترياتنا الأخرى بأنفسنا، نحو الطابق العلوي. ليس هذا وحسب، بل ونصعد بها «شواحط» الدرج الحجري وممراته البينية، لعطل مفاجىء قد أصاب المصعد في مقتل. استيقظنا ذات صباح غائم على ملصقات عشوائية، كثيرة، حملت لنا صورا حديثة «للسيد» الجديد، بابتسامته الجميلة، الساحرة. وقد ملأت جدران البناية كلها بل وأخفتها تماما. كان هناك تنويه هام يتصدر كل ملصق منها ويقضي بدفع أجرة مالية مضاعفة، للسيد البنغالي، لقاء حراسته وخدماته الجليلة للمبنى. وأما غسيل السيارات فهو إجباري للجميع، حرصا منه على الذوق العام وحفاظا على رقي الحي ومظهره الجميل. وكان على أصحاب الشقق المطلة ببرنداتها على الشارع الفرعي، دفع مبلغ إضافي، لقاء رفاهية الشمس ونورها الإضافي ومجانية الهواء. همس لي جاري بأنه سيغلق برندته الوحيدة ويرتاح، لنعثر عليه معلقا على حبال الغسيل في يومنا التالي. جاري الآخر أفضى لجدران بيته سرا، بأن هذا ظلم، ثم ترحم على عهد «شاه».. بوابنا السابق، وليونته الفائقة في التجبر. جاري هذا لم نعثر عليه، ربما ابتلعته جدران شقته مثلما ابتلعت أثاث بيته وسره الأخير. اختفى الجيران واحدا تلو آخر، دون سابق إنذار أو همس مسبق، حتى أنا، عندما آن أواني وأخذتني الصيحة بعيدا عن شقتي، كنت صامتا، بل كنت غارقا في صمتي تماما. بحثت عن جيراني كثيرا ولم أجدهم. بحثت عن نفسي بينهم، وطلبت الصفح من «شاه»، لكن دون جدوى، بحثت عنهم وعني كثيرا، ولم أجد غير الصدى. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الخميس 31-12-2020 08:18 مساء
الزوار: 807 التعليقات: 0
|