في أمسية مختلفة ومتنوعة في أجواء مشبعة بروح الشعر وفضاءاته الرحبة، أحيا الشاعر الدكتور راشد عيسى مساء الأربعاء الماضي في جاليري الدغليس للثقافة والفنون، أمسية شعرية حملت عنوان: «دمعة النمر»، عنوان مجموعته الشعرية الأخيرة الصادرة عن وزارة الثقافة، وأدار الأمسية أمام حشد من المثقفين والفنانين والمهتمين، الفنان الشاعر محمد العامري.
وقال العامري في تقديمه للشاعر عيسى: تغيرت أسباب الشعر الآن عن سابقه، فالحامض منه ربما يكون الأحلى في هذا الحاضر، والعكس، وأعتقد ان أهم ما أنجزه الشعر المعاصر هو تخفيف المدحوية والذم، ليذهب إلى ما اختبأ في ذات الكائن من تأملات جمالية وقشعريرات تضربنا في لحظة ارتطام البرد في جسد جحيمي، لسنا هنا في موقف النقد لقول الشاعر راشد عيسى في الشعرية وما حواليها، لكننا هنا في حضرة شاعر يقضي يومه في اصطياد الحياة في الشعر ذاته ولا شيء غير الشعر، إلى جانب اجتهاداته في توليد المفردة الشعرية وإعادة انتاج اليومي المهمل ليأخذا تاريخا جديدا في القصيدة، بعيدا عن ما ذهب إليه قدامى بن جعفر في توصيفه للشعر، فقد انتصر الشاعر راشد عيسى لذوقية برية ولم يتورط لما قاله هوراس في العام 65 قبل الميلاد.

وأضاف العامري يقول: فالشعر ميلاد القبض على البرد وشهاب إذا غفوت لا تقبض إلا الانطفاء، تناكفت مع الراشد بالاسم والمجنون في الكتابة فوجدته ذلك الجنيّ القلق الذي يغمس من صحن الغابة تغاريد نائية لا يرد ماء تعكرت من مستشعر هناك وهناك، يذهب إلى الصافي في روحه ليقدمها لعشاق مهزومين وامرأة غررت فيها تجاعيد المرآة، فنبدأ من قوله: يالله وحدك تعرف أن الشعراء مجانين الحرية.
إلى ذلك قرأ الشاعر د. عيسى حزمة من القصائد القصار الومضة المكثفة باللغة والدلالة، والمعبرة عن روح الشاعر التي ذهبت بنا شؤون المرأة الأم ودفء البوح حين يقول معاتبا أمه عتابا جماليا «يا أمي سامحك الرب/ ما دمت عرفت بأن الدنيا مجنونة/ كيف سمحت لطفلك أن يكبر من غير سبب/ ولماذا لم تلديني زنبقة أو زيتونة/ يا أمي لست حزينا/ لكني جبل يتثاءب في قنينة».
ويمضي الشاعر في قراءاته اللافتة والمدهشة في بنائها المحكم والتي لا تخلو من سخرية القول الشعري المتقن، حيث تلوّنت القصائد القصار بين شعر التفعيلة وشعر الشطرين وقد حافظت على بروقها عبر الشعرية المشغولة بتقنية عالية تستوقف القارىء أو المتلقي أما دهشة القول الشعري.
يقول د. عيسى في احدى قصائده: «أو لم ترى سافرت فيك بلا غد/ وسألت عن معناي بين يديك/ فرأيت أمي والطفولة والصبا/ وشربت دمع القدس من عينيك».
وتواصلت قراءات الشاعر وسط إعجاب الحضور، فقرأ قصيدة في عيد الشجرة التي قدّم فيها نماذج جديدة لعلاقة الإنسان بالطير والحيوان والنبات بأسلوب رفيع من الأنسنة والتشخيص.
نقتطف هذا المقطع الذي يقول فيه: «لا أستحيي حين أقدم كأس حليب للبقرة/ لا يزعجني أن أبتسم لكلب مسعور/ عضّ يدي المكسورة».
ثم قرأ عيسى وسط تفاعل الجمهور قصيدة «اعترافات الشاعر»، وهي أولى قصائد ديوان «دمعة النمر»، حيث اعتمد الشاعر فيها على عنصر المفارقة والتضاد، ثم قرأ قصيدة «اخلعيني»، التي أحدثت صدى طيبا من المتلقي، وختم قراءاته الشعرية التي استحوذت على إعجاب الحضور بقصيدة «تنويه»، وهي قصيدة وجدانية موجهة إلى الرمز الأنثوي رجوى ومنها نقتطف: «ورجوى لو رأى طير مداها/ لصلى في أصابعها إماما/ ورجوى لو رأى نهر خطاها/ توقف عند خطوتها احتراما».