|
عرار:
قراءة في قصص (بيت جني) القصيرة أ. د. نادية هناوي سعدون * يراهن السارد في القصص القصيرة (بيت جني) للقاص العراقي حميد الربيعي على الاخر في امكانية قيامه بالحفر والتنقيب لما هو مغيب وخفي ومتوار عن الأنظار وهذا ما يكتشفه القارئ بدءا من الاستهلال الذي ذُيل بالسارد كبنية تتولى مهمة الحكي (كلما توغلت في العمق تكشف بهاءها وروعتها وفتنتها) وتتمرأى القصص في إطار فنتازي يقوم على المكاشفة السيكولوجية القلقة للبواطن الشعورية التي تختزنها الذات الرومانسية عبر ايقاظ الحواس الخمس مضافا اليها الحدس لتكون موضوعا تتحرك فيه الذات بمخيال يحول الاحاسيس الشعورية الى معادلات موضوعية تعبر عن مشاعر الكبت والحرمان والخوف والقهر بازاء واقع يعج بالاستغلال والظلم والرصاص والحروب والانفجارات ..الخ ونظرة على عنوانات القصص الخمس عشرة تؤكد الرغبة في اعطاء الحيوات المؤنثة دورا سارديا يتناصف تقريبا مع العنوانات المذكرة، في اشارة واقعية الى ان الوجود الواقعي للآخر المذكر انما يناصف وجود الذات المؤنثة حضورا ومشاركة .. واذا كانت عملية تقصي نسبة توظيف السرد الموضوعي والذاتي تشير الى ان السرد الموضوعي قد تغلب على السرد الذاتي وان السارد المذكر كان اكثر حضورا من السارد المؤنث الا ان الفواعل السردية المؤنثة في بعض القصص ظلت هي المالكة لزمام السرد مؤدية دورها كفاعل سردي تلتقي عنده خيوط الحبكة احتداما وانفراجا. وفي مقارنة مبدئية بين نسقي السرد الموضوعي والذاتي نجد أن السارد المذكر وان كان في منأى عن سلطة المرأة الا انها استطاعت أن تكون محركا خفيا اسهم بشكل فاعل في تصاعد الحبكة القصصية. فأما نمط السارد الموضوعي فجده في قصة (استبدال) التي كان فيها السارد/ البطل متأزما من جراء عدم تكيفه مع المكان مما جعله يتماهى في المدينة التي رآها امرأة تهرم وتشيخ بفروعها وبيوتها وبناتها اللائي ما عدن مليئات بالفرح والامل بل صرن يحملن ذكرى زمن ماض لن يعود، زمن اكلته الحرب فالأرامل صرن ضعفي العدد ولم يعد الزمن زمن الشراء، بل صار زمن البيع والمكان الذي كان جاذبا صار الان طاردا.. وبغرائبية التماهي بين الحيوات والمكان يزدري البطل واقعه الذي حال دون انطلاق ضحكته بعد ان دفنتها أزقة المدينة ودهاليزها.واما نسق السرد الذاتي فنمثل عليه بقصة( سروالي وردي) فالراقصة هي التي تتولى السرد بضمير الانا لتقوم بمكاشفة الاخر/ المسرود الذي يتسامى فيقع في ازدواجية يجمع فيها بين سلوك متدنٍ اعتاد ممارسته حين هاله هاجس بصري داوم على اقتناصه وبرع فيه ليسترق النظر.. وبين فعل جمالي يتذرع فيه بالشعر ترفعا وتساميا. وقد يتم توظيف النسقين معا داخل القصة الواحدة كما في قصة (مدخرات) التي تنوعت فيها الضمائر السردية الغائبة والمتكلمة تذكيرا وتأنيثا وهذا ما جعل مساحة هذه القصة تتجاوز القصص الاخرى لتكون الاطول تقريبا .. وفي هذه القصة تؤدي البطلة دورا ايهاميا تقود عبره الاخر فيظل يلاحقها كحلم مؤجل ورغبة دفينة اما هي فتقرر الصد عن القبول» سيظل مؤجلا حتى اعرف من انت / لم يتصور ان الرد سيكون عائما لهذه الدرجة لقد ظل طوال ايام ينتظر الفرصة» ص52 والنتيجة ان الانتظار والمراقبة لن تجديا نفعا في بلوغ الحلم حلم الولوج والدخول الذي يظل مؤجلا بنهاية حتمية مفتوحة ختمت بها القصة» بالتأكيد ستلج» ص57 وتشترك الحواس في تحريك الاحداث والدفع بالشخصيات نحو التأزم على وفق منظور نفسي يقوم على المكاشفة الصريحة في ظل واقعية فاضحة ومراوغة تتعامل مع واقع معيش وتستحضر أغان واساطير وحكايا ميثولوجية صانعة فضاء من الهلوسة والبوح اللاواعي وبمكاشفة صريحة لأسرار غائرة وخفايا باطنية. ويبدو أن اصرار الكاتب على عدم منح شخصياته اسماء بعينها ناتج عن مشاعية هذا التوغل الذي اراد له الكاتب أن يشمل العام لا الخاص والمتسع لا المحصور والمستور لا الظاهر.. ومثلما تختلط المخاطبة بين الحواس الخمس وحاسة (الحدس) كذلك تتشابك المباشرة الفجة والصريحة مع الغرائبية الشفيفة والغامضة، وهذا ما يجعل المباغتة تسند الى الشخصيات المؤنثة لتقوم بأدوار عاملية تتمثل في القيادة والتوجيه وامتلاك القرار ازاء ما تفعل بالآخر.. وتؤدي بطلة قصة( زردالي) هذا الدور فتحكم قبضتها على الآخر ملامسة حواسه البصرية والشمية لتتركه طوع أمرها وقد عجز عن مداراة ولعه بها. أما بطلة قصة (اذن من طين) فتؤدي هذا الدور وعلى الرغم من وجود راوٍ خارجي يسرد حكايتها؛ الا انها استطاعت ان تبقى بؤرة حدثية رئيسة متغلبة على مرض عانت منه اسمه اطناب الفوضى عبر ابقاء حاستين من حواسها متأهبتين وبهذا راوغ المسرود السارد وتغلب عليه. وتتوغل القصص القصيرة في الحواس ومتاهاتها الغريزية غير كابحة لجماحها باستعمال التلميحات النفسية المتدارية تارة او بالبوح بها بمشاعية شعورية طائشة وفاضحة تارة اخرى، لتكشف لنا علانية عن نهم جسدي وروحي غائر ومخفي يصدمنا بمكاشفاته الايروسية المباشرة كنوع من التعبير عن ضغوطات القلق الذي يدفع بالشخصيات نحو الاضطراب والعصاب لتفقد القدرة على التكيف ولتتعسر إمكانياتها في التوازن فتنتهي بالاندحار خائبة منهارة.. فحاسة الشم عند بطلة قصة (شغف) تتغلب فيها الرائحة لتغدو معادلا موضوعيا للآخر الذي يظل يجذبها جيئة وذهابا، وما اختلاط مصدر الرائحة عليها الا من تبعات اصطدام حلمها بالواقع زمانيا ومكانيا فيتشابك الماضي بالحاضر ويطاردها النزق الانثوي المراهق من دون كلل.. واذ تستولي حاسة اللمس على إحساس بطلة قصة (انتشاء) فإنها ستتعطل عند الآخر لتحل محلها حاسة الابصار وهذا التضاد في الحواس يولد قطيعة شعورية بينهما فلا هي تغويه بأوصافها ولا هو يبهرها بجاذبيته.. وفي قصة (رغبة ملحة) تستيقظ حاسة اللمس في داخل جثة ميتة فتبدو خارجيا متوهجة وتكون داخليا مدركة لنزق مؤرق يؤجج في جسدها ذكريات لمسية فتجعلها حية وهذا الاستيهام الاسترجاعي يوقظ فيها الرغبة العارمة نحو امتلاك الاخر والتي ستكون سببا في نهايتها تلك الليلة.. وتطغى على بطلة قصة (بيت جني) قدرتها في عكس رغبة الاخر في اصطيادها لتقوم هي باصطياده فيتحول المكان الذي جمعهما من بيت للجن الى بيت لجني المال ولعل هذا الانتصار الانثوي هو السبب وراء جعل عنوان هذه القصة عنوانا رئيسا للمجموعة كلها في اشارة غير علنية من الكاتب انه يقر بالتفويض للمؤنث بلا وجل او تردد فالواقع لا بد أن يصغي للحدس الانثوي الذي لا يخطئ مرامه ولا يشط عن مبتغاه.. وتمارس صاحبة اللوحة في قصة (انتشاء) دورا مركزيا يتمثل في اغواء الاخر حسيا لتتركه صريعا متضادا مع نفسه وواقعه وهي وإن كانت مجرد لوحة الا انها وبسبب جمالها وقدرتها على اقتناص الفرصة ومهارتها في المساومة اطمأنت الى ان النتيجة ستكون في صالحها ماسكة زمام الغواية التي طالما الصقها بها تاريخ السرد الفحولي وكأنها ضلع اعوج اساسه الخطيئة. اما في القصة فإنها ستغوي الاخر وستتركه سلبيا عاجزا وخاسرا واقعيا وهكذا تشظي الانثى الاخر وتقصيه جاعلة منه تابعا لا متبوعا ومهمشا لا مهيمنا فلا تقدمه الا معطلا عن العطاء متغلبة عليه انتشاء وانتصارا. ومصدر غلبتها وقوتها متأت من داخلها في اشارة رمزية الى أن الارادة احساس داخلي ما ان يمتلكه المرء حتى يصبح قادرا على العطاء والتجدد وعندذاك سيتمكن من فعل الأعاجيب. وهي اذ تنفر من واقعها المرسوم لها فلانها تجد الاخر متعريا من الداخل مثل الثور الهائج كاشفا عن حقيقته فهو بلا اسم ولا هوية وهو بسبب تراتبيته وسلبيته وبلادته ولا مبالاته خسر ما يملك لذلك يحاول أن يعوض ذلك في المرأة/ اللوحة واجدا فيها متنفسا يداري به خساراته ليغدو من الداخل كيانا فارغا لا طاقة له بما حوله. وهذا ما يمنحها قدرة الانقلاب على مالكها لتعلن وجودها وتظهر كينونتها تارة بـ(ابتسامة متوارية) وتارة اخرى بـ(حزر كلماته المتقاطعة) منتصرة لذاتها مالكة ما لا يملكه بالارادة التي بها تقلب معادلة الذات/ الموضوع لتكون هي الذات ويكون هو الموضوع، هي السيدة وهو العبد هو البدوي وهي الجميلة، وهذه التناقضية دائمة لا تصالح فيها فأما الهيمنة تسلطا والسيادة وجودا واما الرضوخ قهرا والاستسلام قسرا .. وعلى الرغم من تناوب السرد واختلافه في القصص؛ الا ان السارد لم يباعد بين شخصياتها التي انتظمت في بنية دائرية لا يبين اولها من اخرها لتبقى الفاعلية مناطة بالمؤنث كربان سفينة الحياة التي فيها كلمة البداية لملحمة انسانية تبقى فيها الانثى على مر العصور هي الاصل والاساس الذي يمنح الاخر الوجود. وهذا ما عملت القصة الاخيرة التي تحمل عنوان (في البدء) على بيانه عبر شاكلة فنتازية لكل الفواعل السردية المؤنثة التي تضمنتها القصص انفا لتجتمع داخل حافلة تقلهن الى ما هو معلوم حاضرا ولكنه مجهول مستقبلا .. وهذا الاشتغال السردي على المؤنث عاقلا وغير عاقل يجعل القصص باستثناء (أسرار) و(غسالة صاحبها سرحان) مندرجة في خانة الادب النسوي الذي يعلي من سلطة المؤنث ويجعل منه المبادر والمتسيد على صعيدي السارد والمسرود وليس على صعيد الكاتب او الكاتبة، فكون الادب نسائيا لا يعني ان كاتبته امرأة دوما؛ بل المقصود ان يكون ميدان السرد وما بعده معليا من شأن المؤنث كمركز لا يستقطب حوله الاخر الا ثانويا او مهمشا.. ليتم قلب المفهوم الابوي للمرأة ساردة ومسرودة محلا محله المفهوم الامومي الذي فيه المرأة منتفضة غالبة ومسيطرة فاعلة. جريدة الدستور الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 30-06-2017 10:43 مساء
الزوار: 1265 التعليقات: 0
|