يستذكر رئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز حياته البسيطة جداً، وعدم وجود فوارق بين الناس، أيّام زمان، مستعيداً «الحارة» باعتبارها مخزوناً توعوياً يكبر مع الإنسان، متحدثاً عن طفولته، حيث عربات السلوك والبيليا والطائرات الورقية و»السبع حجار».

كما تستجمع «نجمية حكمت» التي لا تكاد تستذكر شيئاً من حياتها في دمشق، خيوطاً من طفولة لم تكن فيها تتجاوز الثانية من عمرها، ولكنها تذكر بصورة غامضة كيف اقترب «القطار» بعرباته السوداء ومنظره الكئيب من رصيف المحطة، حيث كانت تقف ممسكةً بيد والدتها، مثلما تستذكر دخانه الأسود يتصاعد مصحوباً بشهقات مرعبة كانت تخالها تصدر من غولٍ خرافي.

هذه وحكايات شائقة تضمّنتها أربعة أجزاء جديدة من «موسوعة عمان أيّام زمان» للمؤرخ الموثّق عمر محمد نزال العرموطي التي يشهرها عقب عيد الإفطار في المركز الثقافي الملكي بعمان، إذ يتحدث الفايز عن منزل عائلته الأول بجبل اللويبدة، حيث بساطة الأثاث وأخوال والدته من آل البكري، وجيران أهله من بيت الشربجي والحمصي وآل خير وآل أبو جابر وآل السعودي ومنزل العائلة عند الدوار الثالث بجبل عمان عام 1966، ووعيه على الحياة وتبوئه المنصب السياسي في ما بعد، مستعيداً الأيام العذبة، ورحلة الطفولة مع أبناء خالاته سليم هاني خير ومحمد مطلق الحديد وآخرين.

وبمثل هذه الأحاديث التي تبدو قطعةً أدبيّةً لكلّ شخصيات الموسوعة تنطلق نجمية حكمت والدة القاضي الدولي العين تغريد حكمت، مطلقةً لذاكرتها العنان وهي تربط بين طيوف الذكريات ورحلة القدوم إلى عمان، وأحياء الشابسوغ، حيث «سارت بنا العربة في طريق طويل يحدّه سيل ماء من اليمين وجبال شاهقة من اليسار».

ويتحدث «سنديانة مؤرخي الأردن» الدكتور رؤوف أبو جابر في رواياته التي اعتادها منه الإعلاميون والأدباء والمسنّون ومجالس الكبار، عن سجل الإحصاء الذي كانت أجرته الحكومة العثمانيّة عام 1595/1596 حول قرية السلط التي كان يقطنها في تلك السنة 40 عائلة (خانة) و(5) أفراد (مجرد)، أي ما مجموعه حوالي 245 نفس، لتتزايد الناس بعد ذلك. ويسوق أبو جابر حديثاً شيقاً جداً حول مضافة أبو جابر في اليادودة بعمان، في هيئتها وحجمها وعنايتها بالضيوف، متحدثاً عن أمير البلاد سمو الأمير عبدالله الأول، مستذكراً أنّه في حزيران من العام 1942 ، وكان وقتها أبو جابر في اليادودة أثناء عطلة الجامعة الصيفية عندما وصل هاتف مستعجل إلى سعيد باشا أبو جابر بأنّ سموّ الأمير عبدالله أثناء رحلته على ظهور الخيل من عمان إلى الكرك وفي معيته حوالي الثمانين من رجالات الدولة والحاشية الأميرية سيصلون اليادودة خلال نصف ساعة، ويتحدث أبو جابر عن استقباله وعمه سمو الأمير بما في ذلك من ذكريات عذبة يحتفظ بها أبو جابر بعد كلّ هذا المشوار مع التأريخ.

كما يتحدث الفايز عن جبل اللويبدة القديم، مستذكراً مشاركته المرحوم مظهر السعيد في رياضة الركض في النادي الأولمبي، مستذكراً «نادي الملك حسين»، وبيت عائلته في جبل عمان، القريب من مجلس النواب حينما كان والده رئيساً لمجلس النواب في الفترة من 1962-1966، حيث كان النادي مطبخاً سياسياً مهماً في ذلك الوقت. كما يستعيد الفايز بدايات عمان التي كانت نهايتها جغرافياً عند الدوار الأول بجبل عمان حيث كانت البنايات تمتد إلى شارع خرفان والمناطق المحيطة، وكانت تزرع بالقمح، معرباً عن أسفه لأن تدمّر الأرض الزراعية في مغاريب عمان فنخسر كلّ تلك الرقعة الخضراء المهمة.

ونقف في روايات تعود بنا إلى فترات مبكّرة من تاريخ عمان على شخصيّة الحاج إبراهيم منكو وأخيه حمدي منكو من واقع روايات طيبة لمجايليه والعارفين بدوره الاقتصادي، حيث كان يمثل ثنائياً مميزاً مع الحاج حمدي منكو، إذ لعب دوراً ثقافياً واجتماعياً وخيرياً وسياسياً في عمان القديمة، لدرجة أنّ الناس كانت تقول على سبيل المثال «يا فلان، شو إنت عندك مالية منكو!!»، وهو الشخصية التي وُلدت في السلط ثم ارتحلت إلى عمان فعملت بالتجارة، وكان متجره بسوق السكر «مال قبان» وكان لديه مكتبة ضخمة وكان مولعاً بالقراءة والمطالعة، وكان منزله بشارع منكو بجبل عمان. كما نستعيد مع الشيخ عايش الحويان، بوصفه مرجعاً مهماً عن عمان أيام زمان، عادات عشائر البلقاوية وخصالهم وحياتهم العامة القديمة، إذ عاصر هذا الشيخ بدايات عمان وأخذ عن والده الراحل رجا الحويان الذي عمّر 140 عاماً، ولذلك جاءت أحاديثه مشتملةً على الكثير من الحكم والعبر وتحديات الحياة.

ومن واقع ملازمته والده الدبلوماسي والوزير الراحل محمد نزال العرموطي، يتحدث المؤلف عن شهيد الأردن رئيس الوزراء هزاع المجالي، الذي كان أردنياً أصيلاً شديد الانتماء للأردن والعائلة الهاشمية، يعتز بأخواله من آل أبو وندي من عشيرة الونديين بماعين، وقد تولى مناصب رفيعة في الديوان الملكي العامر، وكان أول أمين عاصمة لأن من شغل هذا المنصب قبله كانوا يسمون رئيس بلدية عمان، وينقل المؤلف عن والده كثيراً مما يضيق المقام عنه في هذه العجالة عن شخصيّة الشهيد رئيس وزراء الأردن هزاع المجالي. هذه عيّنات على منهج الباحث العرموطي في الموسوعة التي أودع في أجزائها الثمانية مع ما يستجدّ من أجزاء، سيرة المدينة التي مرّت عليها حقب وحضارات، وشهدت تطوّراً عمرانيّاً بفعل النسيج المجتمعي الذي قام بإعمارها والمتكوّن من طيوف تلقائيّة من الهجرات السكانية المحيطة من سوريا وفلسطين ولبنان ومن الشيشان والشركس والأرمن وسواهم ممن أعطوا لـ»ربّة عمون» تشكيلةً تراثيّة متنوّعة أسهمت في تكاملها ضمن هويّة وطنيّة جامعة مميزة.

عمان التي تحتفل هذا العام بكونها عاصمةً للثقافة الإسلامية بقرار من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة « إيسيسكو»، ترفل بذكريات شخصيّاتها في الموسوعة التي كان أشهر العرموطي منها أربع أجزاء سابقة، كما تعجّ برائحة البدايات والزمن الأصيل من واقع روايات شفويّة بادر إليها الباحث الحاصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من الجامعة الأردنيّة، وألّف كتباً مستقلة تناولت ذكريات شخصيّات وطنيّة وعسكريّة ودبلوماسيّة تحدثت عن بدايات نشأة الوطن وتأسيس الإمارة والنهضة العمرانيّة المتواصلة في ما بعد.

مثل هذه الأحاديث الكثير مما هو ماتع وشائق شيقة ويضعنا بجوٍّ آسر في متابعة الروايات والحديث عن بدايات المدينة الطيبة الوادعة التي تقع على سبعة أجبل، وما يزال يحتفظ لها كلّ عاشقيها بالعرفان والحب والأيام العتيقة وسيول الأصالة والذكريات.

جريدة الراي