أو الاحتفاء المدروس بالإيقاع، عبر تصعيد الأسئلة الوجودية التي تفرضها تجربة الشاعر على أفق القصيدة، ليثير أسئلة مشروعة، ربما يتولى المتن الشعري الجديد الإجابة الضمنية عنها.  
هذه هي المجموعة الخامسة للشاعر, لكنها الأولى من حيث توجهه المباشر إلى المرأة, رغم بعض القصائد التي تخللت مجموعاته السابقة. وقد اكتسبت المرأة في قصائد المجموعة سمات نموذجية، إذ بدت على الدوام محط إعجاب «أنا القصيدة» بها، والتفكير فيها، والحلم بلقائها، وعلى الرغم من الحضور الطاغي للمرأة في النسيج الفني، فإن صور توظيف هذا الحضور تكشف عن غلبة المستوى التجريدي له تارة، والرمزي تارة أخرى، فلا يكاد حضور المرأة يطل في المتن الشعري إلا من خلال الاستحضار الذهني لصورتها، أو الحلم بها. وفي ما عدا ذلك، فإننا لا نقف على صورة للعلاقة الحية المتشكلة عبر إرادة طرفين.
تقع المجموعة في 152 صفحة من القطع المتوسّط، مشتملة على 15 قصيدة، من الشّعر الموزون.. حضر الموضوع الوجداني المباشر في بعض منها، كما في «تفعيلةُ أُنثى» التي يشكّل المشهد الوجداني بؤرتها ومركزها، وفي «إلا إذا» التي تستعيد بوحدة اللغة والحلم ما فرّقته خيبات السياسة وهموم التاريخ، فيما تحضر تجربة الشاعر الوجودية والتدويرات التي يجريها عليها، استقراءً وتصعيداً ومساءلة، في غالبية القصائد. كما تضمّنت المجموعة في مقدمتها قراءة نقدية للناقد والشاعر د.راشد عيسى تناولت الشّاعر وتجربته الشّعريّـة.
على مستوى التلقي، تتفاوت القصائد في ما بينها، ما بين وضوح سافر وانكشاف للموضوعة، مروراً بالغموض الشفيف الموحي بما ورائه للقارئ المدقق، وانتهاء بضروب التجريب المختلفة، ممثلة في الإفادة من معطيات الفانتازيا وعوالم السريالية. من هنا يبرز التعبير عن العالم الواقعي في قصائد الشاعر إلى جانب تشييده عوالم وهمية. بل إن ذلك لم يمنع من مزاوجة قصائد بعينها، بين العالمين الواقعي والتخييلي في معطياتها. وكما جمعت المجموعة بين عدد من الاتجاهات والأساليب المختلفة فإن لغتها، وإن غلب عليها الطابع الإيحائي، تتفاوت بين لغة ذات استخدام خاص ومظاهر انزياح ثرّ في معظمها، وأخرى واضحة، وثالثة وصلت إلى حواف اللغة الإشراقية، كما هي الحال في المقطع التالي من قصيدة «مرأة من غمام»:
«يُبَعْثِرُنِي القَلبُ - يا امْرَأَةً –
في مَهَبِّ الهَوَى والهُيَام
أُعَلِّقُ أَشلاءَ روحي على شجرِ الريح
والريحُ تهجسُ بي وهيَ تمضي بتطوافها.. لا تنام» (ص 61).
وإذا كان طول القصائد في المجموعة يتفاوت في عمومه بين 6 و8 صفحات، بوصفه ملمحاً غالباً على جلّ القصائد، فإن هذا الملمح لم يخلُ من استثناءات تمثَّلت في قصائد تراوحت صفحاتها بين 10 و12 صفحة، كما في «عُد من غيابك» و «إلى مجرد قارئة Email» و «عازفة عن وتري» و «همس التراب» و «محترف الهوى» و «وجعٌ أربعينيّ». ولا ريب في أن هذا التمثيل البانورامي للملامح والأساليب في المجموعة يعبّر لا عن انتماء قصائدها إلى مراحل زمنية مختلفة فقط، وإنما يعبّر، في جانب منه، عن رغبة الشاعر في التحرر من أسر المواقف الجاهزة أو الانحياز إلى أسلوب دون سواه، في محاولة لجعل بنية القصيدة معادلاً وفياً لتجربتها المعيشة ومضمونها الدال عليها.
تتبنى هذه المقالة تقنية تتعمد القفز على المجموعة بأكملها، والانتقال مباشرة من العنوان إلى قائمة المحتويات، في محاولةٍ للقبض على بعض السمات الشعرية التي تنفلت من بين الأصابع كما الماء، وهو العنصر الحاضر بشكل طاغٍ في جميع القصائد.
أول ما يسترعي الانتباه في هذه المجموعة عنوانها الخارج عن المألوف، فالشاعر بدلاً من أن يستخدم العنوان التقليدي «عازفة على وتري» لجأ -بالتواطؤ مع اللغة- إلى استخدام عنوان «عازفة عن وتري»، أي أن الصوت الشعري، ومنذ البداية، يغرد خارج السرب، وهدفه الوحيد هو الإنصات لنشيد الحياة. 
ليس من قبيل الصدفة إذن أن يجترح الشلبي مجموعته الجديدة بعنوان كهذا. إنه يراهن على شعر المراوغة والتمويه. ويجعل من سؤال الشعر سؤالاً محموماً بواقع الحياة، ومن المتلقي طرفاً في معادلة الكتابة. 
ما يسعى إليه الشلبي في لغته وتكويناته النصية هو البحث عن تساؤلات تبدو مهملة، فهو لا يدّعي بحثه عن مقاربات عميقة تختص بالتكوين الوجودي للإنسان، ومأساة الأوطان والعوالم العربية المأزومة، ولا عما تعانيه من ركام الخيبات والانكسارات والهزائم المتتالية، بل إنه يقف على النقيض من ذلك، إذ تدعو قصيدته القارئ إلى أن يتمهل فيما هو منهمك في أزمة البحث عن حقائق الأشياء، وتفسيرها.
تأسيساً على ما سبق، تبدو مجموعة «عازفةٌ عن وتري» غير معنية بالواقع الراهن، بل إنها مسكونة بالهاجس الأنثوي الذي أرقّ أنا القصيدة، وهي تنتصر للشخصي في مواجهة الكوني، وتدافع عن الحب في مواجهة الزحف التقني والعمراني.
إنها مجموعة عابقة بالسحر والفتنة المميزين لحركة الحياة، يحاول فيها الشاعر فهم الحياة عن طريق التأمل في عناصرها الأولية، بخاصة البحر والبر والهواء، حتى يتسنى له سبر أغوار الحياة فاجعة الجمال الكائنة في هندسة العالم. 
«أيا ماءُ اشتعل» هو اسم القصيدة الأولى في المجموعة، إذن فالمجموعة تبدأ كما الحياة نفسها بواقع حصار الماء، أو العنصر الأول لكل شيء، ومن كل الجهات. هكذا بدأت الحياة، وهكذا تبدأ المجموعة، وهكذا يخطو الشاعر خطوته الانسيابية الهادئة لردم الهوة القائمة بين الكلمات والأشياء؛ بين الشعر والحياة، محاولاً مماثلة المجموعة بالحياة ومزجها بها:
«تستوي الأشياءُ في ظُلُماتِها 
فتضِلُّ في البيداءِ بوصلَتي 
تتعثَّرُ الأرضُ الطريَّةُ عند أقدامي 
وتنسكبُ البِحارُ على أكُفِّ الملحِ 
ظامئةً إلى شَغَفِي 
فيقطُرُ ماؤها وجعاً بأوردتي
فيا ماءُ اشتَعِلْ بَرقاً
هُناكَ على حواف القلبِ
يا ماءُ اشتَعِلْ.. 
وأضئ مُخيِّلَتي» (ص 19).
هذه المجموعة هي محاولة جريئة للغناء على خشبة العالم. ومن الإهداء الذاهب نحو الحبيبة أبداً، وصولاً إلى «شاطئ الأنثى»، يُطلق الشاعر أغانيه، ويأخذ أغصانه المثقلات بميراث الخصب الممتد، نحو شواطئه المنسية حيث يسود الماء والهواء والموج والرياح ، هناك حيث الوُد والشوق الذي يُشعلُ النبض:
«أَبْحرْتُ في حُلُمٍ
تَهادَى فاهتَدَى 
لِجَزيرَةٍ أُنثى 
تُسَيِّجُ هادِرَ الإعصارِ في قلبي 
وأُبصرُها..
على بُعدَينِ مِن غَرَقي
على مرمى نِدائِي 
وهيَ تَفْرُكُ بالحَصَى غَيْبِي 
فأُمسِكُ في يدِي زَبَدَا..
وكان البحرُ
أزرقَ من سَماواتي
وأعذَبَ مَوْرِدا» (ص 143).
ثم تعود الأنا لتأخذ شكلاً آخر عبر ضمير المتكلم، حين يقول الشاعر في قصيدة «علياء الشعر»:
«يا سيِّدي 
يا أيُّها الحَرْفُ النَّبيل 
يا غايتي في البوحِ 
إشراقي على طَلَلٍ 
يؤانِسُهُ النخيل 
عُدْ من هناكَ 
مِنَ المُؤجَّجِ في لَظَى الصحراء 
مِن رَحْبِ الهديل 
أَتَصَفَّحُ الوجهَ المُطِلَّ بلا ملامِحِهِ 
فَيُفْزِعُنِي بِغُربَتِهِ 
وأنشُجُ دَمْعَتِي
في بحرِ صاحِبِيَ (الخليل) 
وأُسِرُّ نَجوى مُهجَتِي
وأَبُثُّكَ اليومَ اصطباري 
إذ يموجُ
السَّهلُ حولي 
ثُمَّ يَركُضُ عكسَ تَيَّاري 
فأَنزِفُ حَسرَتِي ويَضيقُ في رئتي السَّبيل» (ص 109-110).
يمكننا في هذا السياق تأمُّل هذا المجتزأ اللافت من قصيدة «عُد من غيابك»:
«عُدْ من غيابِكَ 
أيُّها الولدُ الشَّقِيُّ 
مِنَ الهروبِ وراءَ موجِ المستحيل 
لا تَدَّعِ: يَدُها تَدُقُّ القلبَ 
هذا العمرُ لا يكفي
لِتَدْخُلَ مَرَّتينِ إلى القصيدةِ 
من فضاءِ اللَّونِ
قبلَ عبورِها حرفي
ولا يكفي
لأَنْ تَأوي الغزالَة 
حينَ تتعبُ من لُهاثي 
نحو كهفي في الأصيل» (ص 25).
هذان المشهدان يبينان أن الشاعر رجع إلى الوراء ليرسم لنا لوحةً لطفولته وشبابه، كأنه يُريدُ أن يقول إن التقدمَ إلى الأمام لا يعني نسيان الماضي، وهو يجر القارئ إلى الماضي جرّاً كي يريه ما رآهُ في الماضي من مرارات متصلة: الماضي فقدانُ الأحبة، وساعات الهجير، والرمادُ الذي يُعمي العيون، لكنه على جانبٍ آخر، ملعبُ الصبا، ولحظاتُ الحنانِ البارقةِ، والأغاني، الماضي أيضاً هو الرفاقُ الذين مضوا والذين قضوا تاركين ركامَ الذكريات.
وفي موقعٍ آخر من قصيدة «عُد من غيابك» ما يؤكد هذه النظرة، حيث يقول الشاعر مستحلباً طعم الماضي:
«وأنا أُحَدِّقُ في سنيني
وهيَ تربضُ فوقَ كتفي 
مَن أنا؟ 
سألَ السَّوادُ بياضَهُ
فتَلَوَّنَتْ كَفِّي
أنا ضيفي 
وبعدَ قليل 
سأترُكُ ها هُنا طَيفي 
وها يَدُها تَدُقُّ الليلَ 
هذا الوقتُ لا يكفي 
لأَترُكَها تنامُ على شِفاهِي
أو تطيرُ كما الفراشةِ باتِّجاهي» (ص 26).
إنه الخيال الجامح الذي لا يعرف خوفاً أو خجلاً، خيالٌ بوسعه أن يضمّ الماضي إلى الحاضر في قبضة واحدة، من دون أن يطرفَ له جفن، أما الغدُ فملامحه غائمة، الغدُ كوةٌ سوداءُ لا أمل فيها، إنه أرضٌ متكلسةٌ نقف عليها في انتظار بعثٍ لا يجيء. المستقبلُ إذن كما يرى الشاعر، ليس سوى ماضٍ آخر لا جدّة فيه: 
«ولكنني.. 
بعدَ عشرينَ عاماً من الريح
والطُّرُقِ المُهْمَلَةْ
بعد أكثرَ مِن ألْفِ.. 
هاتِفِها الذي لا يَرِنُّ 
بعد عشرين صيفاً مِنَ البَردِ والأسئلة 
ومليونِ نافِذةٍ 
شَرَّعَتْها يدايَ
ولمّا تزَلْ مُقفَلَة
كانَ هذا الذي سِرْتُهُ 
شارعاً لا يُطِلُّ على أرصفةْ» (ص 129).
لعل من أبرز ملامح البناء الفني في قصائد المجموعة، اتخاذها تقنية الحلم وسيلة فنية للتعبير عن رؤية الشاعر. ففي هذه الوسيلة فرصة للنفاذ إلى مساحات العقل الباطن وتجلياته التي جاءت مزيجاً من التهويمات والعوالم المستندة إلى منطق النفس أكثر من استنادها إلى منطق العقل، ما أكسبها قدراً من الشفافية لا تخطئه عين القارئ، كما في قصيدة «شاطئ الأنثى»: 
«والبحرُ يشربُ مائيَ المسفوحَ
يغسِلُ رغبتي من حَرِّها ودُوارِها
هيَ لَوحةٌ في الرملِ 
أبدَعها هنا
جسدٌ أَضاءَ فَمِي على عُنَّابِها 
فتلألأت ألوانُها
كحديقَةٍ تحتَ النَّدى 
لَيلاً أكونُ كشَعرِكِ الهادي 
أموجُ على ارتِغَابِكِ
قبلَ أن تجتاحَ أورِدتي 
ويملؤها صهيلُكِ 
عَسْجَدَا» (ص 146). 
ويغلب على بناء الصورة في قصائد المجموعة مفارقتها النسق التقليدي، إذ يعمد الشاعر فيها إلى هدم العلاقات المنطقية للصورة، مُخرِجاً إياها من سياقها المألوف تارةً، مستبدلاً بعض علاقاتها ببعض تارةً أخرى. وهو ملمح يكاد يطغى على جلّ النصوص التي تظهر الصور والعلاقات الأسلوبية فيها وهي تمارس خُروقاً وانتهاكات لأنساقها المستقرة في ذهن المتلقي، ومن الأمثلة على ذلك المقطع التالي من قصيدة «وجع أربعيني»:
«مرَّ بي شارعٌ ضيِّقٌ لم يُلَوِّحْ بِساعِدِهِ 
لم يَقُلْ مَرحَبَا 
ينحني لليسارِ قليلاً
وينثُرُ في جانِبَيهِ الحصى مُتعباً مُتعبَا 
مرَّ بي وَلَدٌ جالسٌ عندَ بابٍ قديم 
ساهِماً كانَ ذاكَ الغُلام 
فلم يستجب للغناء الرنيم 
مَرَّ بي وانطَوَى
مَرَّ بي شاحباً كالخريف 
مرَّ بي وجلٌ
مرَّ بي ضجرٌ
مرَّ بي وترٌ هاجسٌ وانزوَى» (ص 134). 
«عازفة عن وتري» عمل ضد النمطية السائدة، وضد القوالب الجاهزة، وضد الاستجابة لروح القطيع التي تريدُ للشعر أن يكونُ سجينَ أقفاصها البائسة، ومن هنا تكمن أهميته وأهمية رسالته. فها هو يجمعُ ما يُعتَقَد أنه لا يجتمع؛ الغنائية، المشهدية، السرد، النسق الاستعاري الجامح، النفَس الصوفيَّ، الحكمة، الموسيقيّ الصاخب، النثريّ المربك، كي يقيمَ الشاعر من كل هذا دليلاً على سخف النظرة النقدية الضيقة إلى الشعر في كثير من الأحيان. 
يبدو الشاعر إيهاب الشلبي قادراً على مواجهة الفخاخ المنصوبة في طريقه أولاً وفي طريق القصيدة ثانياً، وقد حاول استغلال الإمكانات المتاحة كافة للإمساك بالشعرية التي تمنح القصيدة هويتها على نحو مذهل، ليخرج العمل بهذه الصورة المتوازنة من الجمع بين تحقيق الغرض الشعري، وتحقُّق البنية الفنية. ومن هنا يمكن القول إن مجموعته هذه قد ارتكزت في هذا الفعل الشعري إلى دعامتين مهمتين:
الأولى: قدرة الشاعر على الإصغاء إلى أنشودة الحياة، وهي التي منحته تلك القدرة الجذابة على تحويل العالم، وتغييره من بعده الذكوري، وإعادته إلى أصله الأنثوي؛ ذلك أن إعادة اكتشاف الجانب الأنثوي في ظواهر العالم هو ما منح المجموعة نَفَسَها الوجداني والصوفي.
الثانية: استخدام مفرداتٍ تدفع المتلقي إلى التفاعل الحي مع النص من خلال تحفيز التصور لديه ومدِّه بعناصر الصورة، في محاولة من الشاعر لإيجاد تقاطع مفترَض بين ما يشكل على البياض شعراً أو لوناً ومادة، وهذه هي السمة الفنية الأبرز لهذا العمل.