وتمثّلَ هذا التوقيع باستخدام حرفين رمزا لشخص الأمير هما (س ذ)، أي: سامي الذرى.
وها هو الباحث في كتابه الجديد «حركة النشر وروادها في الأردن: موجز تاريخي»، يتصدى لإلقاء الضوء على حركةٍ للمعرفة والارتقاء والنمو مهمة في حياة الشعوب. وفي العصر الحديث كانت المطبعة من علائم الحضارة التي حُرمت منها شرق الأردن قبل تأسيس الإمارة.
لذا فإن الكتاب يتحدث عن إنجاز أردني تطور مع تطور الإمارة ثم المملكة. كما أنه يكتسب أهمية أخرى لأنه يعالج قضية تشغل بصورة مستمرة حيزا من تفكير المثقفين في هذا الوطن، الذي يعدّ فريدا بين أقطار الوطن العربي: فهو من ناحية، الوطن الذي تنخفض فيه نسبة الأمية إلى الحضيض، بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى، وترتفع فيه نسبة المتعلمين وأعداد الجامعات وحملة الشهادات الجامعية إلى أرقام فلكية، ويطبع من الكتب سنويا ما يقارب الستمائة كتاب، بمعدل 50 كتابا شهريا، لكن لا توجد فيه دار نشر وطنية مرموقة ذات وزن يشار إليها بالبنان، ويُقصد بذلك دار نشر تعتمد معايير دولية تعمل على الارتقاء بالحركة الفكرية، وتنتقي الأفضل لتنشره، ما يسهم في رفد الحركة الثقافية في الأردن وتعزيزها، وتعمل على إخراجها إلى رحاب عربية واسعة.
ورغم ان الأردنيين اكتشفوا أن خلاصهم يجيء عن طريق العلم والمعرفة والتعليم، إلا أن الحراك الثقافي يتدنى أحيانا إلى حدود دنيا، حين يرتبط بنخبة ضيقة، لذا لا يفاجأ المرء أن يجد محاضرا بفكر خلاق في قاعة خالية لا جمهور فيها، أو ندوة لا يزيد روادها على عشرات قليلة، مقابل قاعة تكتظ جنباتها بحشد يقدمون التهنئة بمنصب زائل. لا عجب بعد هذا أن ينعكس غياب الثقافة الفكرية على أخلاق الناس عموما، فنجد طغيان الجانب المادي والمظهري على أسلوب الحياة، والضحالة الفكرية عند العموم، إلا من رحم ربك.
في تمهيده للكتاب، يبين الباحث أن حركة النشر في الأردن نشطة، فيقول أنها تعد «إحدى حركات النشر العربية الخمس المعدودة في مساهمتها بالنسب الأعلى من إنتاج الكتب في المنطقة، إلى جانب مصر، ولها 40 في المئة من الإنتاج». ويشير إلى أن النشر في الأردن يمتلك «ميزة خاصة في إنتاج الكتاب الأكاديمي».
يشتمل الكتاب على خمسة فصول، قدم لها بمقدمة ضافية د.صلاح جرار، الذي تربطه بالمؤلف علاقة ثقافية من خلال اشتراكهما معا في تحقيق عدد من الكتب كان آخرها كتاب «ذكريات حياتي لعيسى الناعوري». ووصف جرار كتاب هاشم بأنه عمل يتسم ب «الدقة والشمول»، لما عرفه عن صاحبه من «عناية.. برصد الحركة الثقافية والفكرية في الأردن».

• البدايات
في فصول كتابه، بين الباحث أن حركة النشر الأردنية مرت بأربع مراحل. وفي الفصل الأول عرض للبدايات (1921-1948)، مبينا أن المطبعة الأولى اشترتها الحكومة في العام 1922 من القدس، ونقلت معداتها على ظهر الدواب إلى العاصمة عمان، واستقرت، كما يقول «في دكان متواضع اشترته الحكومة لهذه الغاية، وكان يرأس العمل فيها محمد نوري السمان». وعلى هذه المطبعة طبعت أول صحيفة صدرت العام 1923 (الشرق العربي)، ومطبوعات الحكومة الرسمية. وفي العام 1926 بيعت المطبعة، فاشتراها السمان الذي باشر قبل ذلك بعام في تأسيس المطبعة الوطنية التي غدت المطبعة الرئيسية في الإمارة حينئذ. ومن أوائل الكتب التي طبعت في تلك المرحلة كتاب الشيخ محمد صالح مريش (القول الصحيح في الرد على من أنكر خروج المهدي وسيدنا عيسى المسيح) الذي ظهر العام 1927.

• عام مفصلي
كان العام 1927 مفصلياً في تاريخ الصحافة الأردنية. وكما جاء في كتابي «تطور الصحافة الأردنية»، فإنه يعدّ البداية الحقيقية لظهور الصحافة الأهلية على يد القطاع الخاص في الأردن، إذ ظهرت الصحف التالية: «الشريعةط لكمال عباس ومحمود الكرمي، و «جزيرة العرب» لحسام الدين الخطيب، و «صدى العرب» لصالح الصمادي.. ولا بد أن تكون قد طُبعت في المطبعة الوطنية.
أما صحيفة «الأردنط، التي ظهرت أيضا العام 1927 واستمرت في الصدور حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، فقد طبعت على مطبعة صاحبها (خليل فارس نصر). وكان نصر قد التجأ إلى فلسطين هربا من قوى الانتداب الفرنسي التي طلبته في لبنان، وأسس في حيفا مع باسيلا الجدع صحيفة «الأردن». وخليل نصر، مثله مثل تيسير ظبيان، جاء إلى الأردن، بتشجيع من أمير البلاد، وأحضر مطبعته معه من حيفا. وفي مطبعة «نصر» طبعت كتب أخرى، منها كما يذكر كايد هاشم كتاب «بالرفاه (بالرفاء) والبنين طلال» الذي ألفه خليل نصر بالاشتراك مع شاعر الأردن مصطفى وهبي التل، وقدماه هدية لولي العهد، الأمير طلال، بمناسبة زفافه العام 1934.
وقد تفرّد خليل نصر الذي أُطلق عليه لقب «شيخ الصحافة الأردنية»، على بقية الصحفيين الأوائل، إذ استمرت «الأردن» في الصدور حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، على خلاف بقية الصحف التي صدرت لفترات قصيرة ثم توقفت.

• رواد النشر
في المرحلة الثانية، بحسب هاشم، التي تغطي الفترة من 1948 حتى أوائل الستينيات، تبرز «دار النشر والتوزيع والتعهدات» التي أسسها في الخمسينيات «مثقف وصحفي وكاتب أردني» هو عبد الرحمن الكردي. وأصدر الكردي مجلة «الأردن الجديد».
ومن منشورات الدار كتب بينت تنامي الحركة الثقافية في المملكة الأردنية الهاشمية، فظهرت مؤلفات الرواد من المفكرين والشعراء والأدباء الأردنيين. ومن منشورات الدار: ديوان مصطفى وهبي التل-عرار (عشيات وادي اليابس)، وكتاب محمود سيف الدين الإيراني «مع الناس» (مجموعة أقاصيص)، و «كنت في مراكش» لماجد ذيب غنما، وكتاب «إلياس فرحات.. شاعر العروبة في المهجر» لعيسى الناعوري، و «طريق الزمان» لشكري شعشاعة، ورواية أوسكار وايلد المشهورة: «صورة دوريان جراي» التي نقلها للعربية بشير الشريقي، وأخيرا كتاب «الحسين بن علي والثورة العربية الكبرى» للمؤرخ سليمان الموسى الذي يقول في مذكراته «ثمانون.. رحلة الأيام والأعوام» إن دائرة المطبوعات والنشر أمرت بمصادرة الكتاب العام 1957 بناء على طلب السفير السعودي في عمّان وقتئذ، الذي رأى أن الكتاب يسيء للعلاقات الأردنية السعودية. وتعدّ هذه المرحلة أساسية في حركة النشر الأردنية، لأن معظم الذين نشرت لهم الدار كان لنتاجهم الفكري دور مؤثر في السنوات التي تلت.

• مرحلة التطورات
في مرحلة الستينيات، التي أطلق عليها كايد هاشم «مرحلة التطورات»، صدرت كتب عن دور نشر حكومية، ان جاز التعبير، تمثلت في إصدارات اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر بالإضافة لإصدارات دائرة الثقافة والفنون التي نشرت كتباً لحسني فريز وعيسى الناعوري ومحمود سيف الدين الإيراني وعادل زعيتر وسليمان الموسى.
في المرحلة الرابعة والأخيرة، التي تمتد منذ العام 1967 حتى الوقت الحاضر، ازدادت المطابع، وازدادت دور النشر حتى بلغت أكثر من 160 دارا موزعة على مدن المملكة. وأثمرت جهود الناشرين في تأسيس اتحاد لهم. وفي هذه المرحلة تتصدر وزارة الثقافة وأمانة عمان الكبرى بلا منازع الإنتاج المطبوع.
إضافة إلى هاتين المؤسستين الكبيرتين اللتين نهضتا بحركة النشر في الأردن في المرحلة الحالية، تسهم دوائر ومؤسسات رسمية وأهلية بدعم حركة النشر، من مثل مؤسسة عبد الحميد شومان والبنك الأهلي الأردني والهيئة العربية للثقافة والتواصل الحضاري (بيت الأنباط). أما الجامعات الأردنية الرسمية فتصدر مجلات علمية، لكن نتاجها للكتب محدود.
في الخلاصة، فإن عدد الكتب التي نُشرت في الأردن بين 1980 و2000 زادت على 11700 كتابا، بمعدل 550 عنوانا للعام الواحد. فأين هذا الرقم من كتب البدايات المعدودة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي؟ ورغم أن كتاب كايد هاشم لا يقدم أرقاما للكتب المطبوعة أثناء العقد الأول من الألفية الجديدة، إلا أن حركة النشر في تنامٍ مضطرد.

• دار نشر وطنية
هذا العرض للكتاب يبين الحاجة إلى وجود دار نشر رصينة تعتمد سياسة واضحة لنشر الكتاب الأردني. فعلى الرغم من تطور حركة النشر في الأردن منذ العام 1927، إلا أن ما يؤخذ عليها عدم وجود دار وطنية تسهم في رفد الحركة الثقافية في الأردن لتخرج بالكتاب الأردني للمحيطين العربي والعالمي.
إن اعتماد سياسة واضحة سيسهم حتما في تقدم عملية النشر، وإخراجها من نطاقها الضيق، فتُعاد للكتاب هيبته كعنصر من عناصر الثقافة الراقية التي تصقل الفكر، في زمن تطغى فيه ثقافة إعلامية مسطحة المضمون والنتاج. ويحسن أن تعمل هذه السياسة الثقافية أيضا على النهوض بالكتاب الجامعي، وتخضعه للتمييز والتحكيم العلمي المناسب، خصوصا بعد تنامي السرقات الفكرية.
إن توفير الكتاب العلمي المناسب، مع وجود هذا العدد الكبير من العلماء في الأردن، وتوسع انتشار الجامعات في الوطن العربي، سيكون حتما له مردود اقتصادي مجزٍ على الوطن وسيسهم في توفير فرص عمل جديدة.
يشكل كتاب كايد هاشم هذا إضافة نوعية لميدان رئيس من ميادين حياتنا الفكرية، درس الباحث فيه موضوعاته بعمق ودراية، وأضاف لمعرفتنا الكثير والمهم. والمأمول أن يكون الكتاب دافعا لبداية مرحلة جديدة، فيتم التفكير جديا بتطوير عملية النشر استكمالا لبناء مؤسسات الوطن الثقافية.