|
عرار:
غسان إسماعيل عبدالخالق على الرغم من الانقلابات المتوالية في منظومات القيم والمشاعر والصور النمطية على امتداد قارات العالم ، وعلى الرغم من التسارعات الشديدة على صعيد تطور وسائل الاتصال والتواصل بأنواعها ، فإنّ أسطورة الحب العذري أو الحب الأفلاطوني أو الحب المبرّأ من الغرائز والرغبات والنزعات ، ما زالت تستأثر بقلوب وعقول الملايين من البشر ؛ بدءًا من نيويورك مرورًا بنيودلهي وليس انتهاء بالقاهرة . وليس أدلّ على استبداد هذه الأسطورة بوجدان الجماهير ، من تلك التحف السينمائية التي ما انفكّت هوليوود تنتجها وتمطر بها دور العرض في العالم ؛ فتدر عليها مئات الملايين من الدولارات المضمّخة بدموع المشاهدين وآهاتهم وتنهداتهم ! هذه مقدمة ضرورية لتذكير القرّاء الأعزّاء ، بأنّ الهوس بالحب العذري ليس مقتصرًا على العرب أو على الثقافة العربية التي ما زالت مأخوذة بهذا الضرب من الحب المستحيل ، سواء في مكتوبها أم في مغناها أم في أفلامها أم في مسلسلاتها ، وعلى الرغم من كل علامات الاستفهام التي تحيط بمصداقية الحب العذري عند العرب تاريخيًا وموضوعيًا . من حيث المبدأ يمكننا أن نتفهّم اتجاه شباب وشعراء البوادي العربية الفقيرة في العصر الأموي ، إلى إظهار التماوت في الحب والتغني بحبيباتهم الاستثنائيات ، بوصفه رد فعل متوقّع لاتجاه شباب وشعراء الحواضر العربية المترفة التي أغرقها الأمويون بالأموال والجواري والمغنّين ، لصرفها عن الانشغال بالسياسة ؛ فأطلعت لنا نفرًا من الشعراء الحسّيين مثل عمر بن أبي ربيعة والأحوص والعرجي . لكن ما يصعب أن يصمد للقبول ، الزعم بأنّ قبيلة بأكملها مثل قبيلة ( عذرة ) قد تفرّغت للموت حبًا، إلى درجة مطالبتنا بتصديق قول من قال بأنه خلّف ثلاثين شابًا من شباب هذه القبيلة وقد أجهز عليهم العشق ! كما يصعب أن يصمد للتسليم أيضًا ، الزعم بأن من اشتهروا بالحب المستحيل مثل كُثَيّر عزّة ، قد ظلّوا يمتلكون الوتيرة نفسها من الشغف ، بعد أن تزوّجوا وأنجبوا وانشغلوا بتكاليف الحياة ، وخاصة بعد أن قطع ابن سلام الجمحي بأن كُثَيِّرًا كان يتقوّل ولم يكن عاشقًا ولا صادق الصبابة ! والأنكى من ذلك مطالبتنا بتصديق وجود عشّاق ظلّل الوهم حيواتهم حتى غلب الحقيقة ، إلى درجة أن شيخ شيوخ العربية الأصمعي ، قطع قطعًا لا لبس فيه أيضًا ، بأن عاشقًا مثل مجنون بني عامر لم يوجد على أرض الواقع وأنه محض نسج من خيال ! وإذا نظرنا بعين الاعتبار ، إلى حقيقة واقعية المشاعر والشخوص والأماكن والحوارات والتفاصيل في قصائد الشعراء الحسّيين ، حدّ اعتبارها وثائق تاريخية واجتماعية واقتصادية وثقافية تصلح لدراسة المجتمع العربي الإسلامي في صدر الإسلام والعصر الأموي ، وإذا نظرنا أيضًا بعين الاعتبار إلى حقيقة تعالي وغموض المشاعر والشخوص والأماكن والحوارات والتفاصيل في قصائد الشعراء العذريين ، حدّ اختلاط نسبتها واضطرارنا إلى التساؤل عن مدى استواء الحالة الذهنية والنفسية لهؤلاء العشاق الذين لا يتوهّجون إلا بالصدود والمنع والهجر – وكأن الوصل يخيفهم ويبعدهم ويفقدهم مبرّر معاناتهم _ صار بمقدورنا تخيّل الدور الإيهامي والتضخيمي الذي اضطلع به الرواة والقصاصون ، لإشباع مخيّلة الجمهور وإرواء تعطّشه لسماع قصص الحب المستحيل التي ما لبثت أن شغلت مئات الصفحات من كتب الأخبار لاحقًا ، مثل الأغاني للأصفهاني والفرج بعد الشدّة للتنوخي . ما تقدّم لا يعني أنّ المجتمع العربي الإسلامي قد خلا من الحب العذري ، ولكنه يعني أن هذا الحب _ كمًّا ونوعًا _ لم يصل الحدود الخارقة التي لم يدخر القصاصون وسعًا لإيهامنا بها ؛ فمن يمكنه أن يتنكّر مثلاً لقصة الصمّة القشيري الذي أحب (ريّا) ولم يتمكن من الزواج بها ؛ فالتحق بالثغور وظل يلهج بذكرها حتى استشهد ، وأورثنا رائعته الخالدة : بروحي تلك الأرض ما أطيب الرّبى وما أجمل المصطاف والمتربّعا وأذكر أيام الحمى ثم أنثني على كبدي من خشية أن تصدّعا ومن يمكنه أيضًا ، أن يتنكّر لحقيقة أنّ الإسلام قد أسهم إلى حد بعيد ، في صقل عاطفة الحب عند العرب؟ حتى تصدّى لمعاينتها وتحليلها وفلسفتها نفر من الفقهاء والفلاسفة مثل ابن داود في (الزّهرة) وابن حزم في (طوق الحمامة) . ومن يمكنه أن يتنكر كذلك لحقيقة أن ( ليلى ) التي صار كل العشّاق وكل الشعراء يدّعون وصلاً بها _ وهي لا تقرّ لهم بذاكا _ قد أصبحت أيقونة الصوفيين لاحقًا ، بل صارت عتبة الولوج إلى الفناء في الذات الإلهية . ومن المؤكد أنّ الحب الحقيقي يقع في الوسط الذهبي الذي فُتن به الفقهاء والفلاسفة والنقاد العرب والمسلمون ، وأعني بهذا الوسط الحد الماثل بين حسِّيّة عمر بن أبي ربيعة وتفريطه وعذريّة كُثيّر وإفراطه ، لأنه مزيج من العواطف والمشاعر والحاجات والرغبات التي يحدّها الواقع ويحكمها العقل الجمعي . الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 04-08-2023 05:46 مساء
الزوار: 647 التعليقات: 0
|