|
عرار:
حمزة السلمان* يعدّ الأدب ساحة للتّعبير وغذاء فكريّا يعكس التّجربة الإنسانيّة، ومن خلال هذا الفن الرّاقي يستطيع الكُّتاب رصْد واقع مجتمعاتهم والقضايا المنتشرة فيها. فبذلك يكون الأدب دعوة للقارئ للتّفكير والتّأمل عن الذّات والواقع. ومن أبرز الكُّتاب الّذين استطاعوا تكوين صلة بين قضايا روايتهم ومجتمعاتهم يوسف إدريس، وقد كوّن إدريس هذه الصّلة من خلال روايته القيّمة الحرام. ولكن كيف جسّد يوسف إدريس واقع الرّيف المصريّ في رواية الحرام؟ أبدع الكاتب يوسف إدريس في تسليط الضّوء على وجود الطّبقية في المجتمع المصريّ من خلال تعمقه في التّفاصيل عند كتابة الرّواية. فقد بدأت الرّواية بحدث تفجيريّ، وهو وجود اللّقيط المخنوق عند التّرعة، وقد وُجِّهت كلّ الاتّهامات نحو الغرابوة، فهم كانوا يعيشون في فقرٍ وجهل، ثمّ تصاعدت أحداث الرّواية عند ذكر قصّة عزيزة حيث أُصيب زوجُها بالمرض واضطرّت للعمل. بعد ذلك، سقطت مع محمد بن قمرين وحملت بالجنين، ثمّ وصلت أحداث الرّواية إلى ذروة التّأزم عندما قتلت عزيزة ابنَها بعد ولادته خوفًا من الفضيحة، وخُتِمت الرّواية ببوادر انتهاء الطّبقية بين العزبة والغرابوة وكلّ ما تبقى من عزيزة كانت شجرة ترمز إلى الخزعبلات الّتي آمن فيها النّاس وأدت إلى نسيانهم قصتها. يعدُّ الزّمن من مكونات العمل الرّوائي، وهو شرط من شروطه فلا يكاد يخلو من الإشارة إليه أو التّصريح به. يوسف إدريس ابن بيئته، فبنى أحداث رواية الحرام عام 1949، وهو الزّمن الّذي كتب فيها الرّواية. وفي ذلك الزّمن، شهدت مصر صراعًا سياسيًّا أدّى إلى انهيار الاقتصاد، وانتشار الظّلم، وفقدان العدالة الاجتماعيّة بين الطّبقات المختلفة. وقد انعكس هذا الواقع في رواية الحرام، حيثُ ظهرت الطّبقية بشكلٍ واضحٍ بين الغرابوة والتّفتيش. فسوء الوضع الاقتصاديّ في ذلك الوقت أيضًا أدّى إلى فقدان التّوازن من ناحية توزيع الثّروة بين أبناء الوطن، فالأغنياء ازدادوا غنًى، والفقراء ازدادوا فقرًا. ظهرت هذه المشكلة في الحرام، حيثُ امتلك الأثرياء معظمَ الأراضي الزّراعية، والغرابوة كانوا «يبحثون عن لقمة عيش.» المكان من المكونات الأساسيّة للسّرد، وهو يسمح لبناء عالم في الخيال من أحداث الرّواية. ولا يمكن بناء هذا العالم من غير تحديد ووصف المكان الّذي يجري فيه أحداث الرّواية. وظّف يوسف إدريس روايته الحرام في مصرَ بشكلٍ عام وشمال الدلتا بشكل خاص. ولولا أنْ اختار إدريس هذا المكان، لمّا استطاع أن يعرضَ قضية الطّبقية بهذه الجودة، فهو مصريّ وذلك ساعده على أن يقرّب أحداث الرّواية إلى الواقع. فمن خلال أحداث الرّواية وتنقّله من بيتٍ لآخر استطاع إدريس أنْ يجسّد قضايا ثانوية متنوّعة للقارئ. واحدة من هذه القضايا كانت عدم وجود الثّقة بين أفراد العائلة، وبرزت عند منزل مسيحة أفندي الباشكاتب حيث شك بابنته لنده بأنها كانت أم اللقيط بعد إصابتها بالمغص. ذلك أدى إلى تكوين صراع داخليّ عند مسيحة وظهر لنا أن منزل مسيحة هو مكان يسوده الشّك بين أفراده. بالإضافة إلى ذلك، مسيحة لم يحاور لنده عن الموضوع، فهو افترض أنّها ستكذب عليه وهذا دعم القضيّة. وظهرت أيضًا قضية الازدواجية في السّلوك، خصوصًا عند منزل أمّ إبراهيم. نرى في الرّواية أنّها زوجة الإمام، فيفترض أنّها تتبع الشّريعة الإسلاميّة وتبتعد عن المعاصي. ولكن في الرّواية ظهر عكس ذلك تمامًا، فهي كانت تجعل منزلها موقع للقاء العشّاق، وكان لها علاقة غير شرعيّة مع أحمد سلطان. أما من ناحية ظلم المرأة، فكان منزل فكري أفندي يمثّل هذه القضيّة بدقّة، فكان فكري يمنع زوجته من الخروج منه واستقبال الضّيوف. فهو لم يتزوّج «امرأة تشاركه في الحياة.» وظّف يوسف إدريس عدّة تقنيات في رواية الحرام لكي يتصوّر القارئ اعتقادات الشّخصيات بأدقّ تفاصيلها. وقد أكثر من السّرد الموضوعيّ، وكانت رؤيته السّردية من الخلف، فيعلم الكاتب عمّا يوجد في باطن الشّخصيات ويصفها للقارئ. هذه التّقنية سمحت ليوسف إدريس أن يوضّح لنا معظم القضايا الّتي كانت منتشرة في المجتمع المصريّ. إحدى هذه القضايا كانت ظلم المرأة، فكان فكري أفندي «مستعد أن يصدق الحرام في الرّجال، ولكنّه - لأمر ما - يصعب عليه أن يصدّق الحرام في النّساء.» الرؤية السّرديّة في هذه الحالة عكست للقارئ الاعوجاج في تفكير المأمور. ونرى في الوقت ذاته، استُخدِمَت تقنية الحوار كطريقة لكشف الأبعاد النّفسية والاجتماعية للشّخصيات وتصاعد الأحداث. وقد برزت هذه التّقنية وآثارها عند حوار عزيزة الدّاخلي، «لم تقاوميه كما يجب. لم تصرخي وقلت الفضيحة. وها قد أتتك الفضيحة الكبرى « أشار لنا هذا الحوار إلى النّدم الشّديد الّذي شعرت به عزيزة، وهذا النّدم أدّى إلى انهيار حالتها النّفسيّة. بالإضافة إلى ذلك، لجأ الكاتب للوصف أثناء عرض بُعد الشّخصيات التّكوينيّ ليشير إلى أثر أحداث الرّواية عليها. برزت هذه التّقنية عند عزيزة عندما كشف لنا الكاتب أنّها كانت «محروقة الجلد حرقته الشّمس الكاوية،» وهذا أتى كنتيجة تحملها مسؤولية تلبية احتياجات أسرتها واضطرارها للعمل مع الأنفار تحت الشمس السّاطعة. ووظّف إدريس الاستشراف في بداية الرّواية عند قوله: «سكون تامّ مطبق وكأنما ستقوم القيامة بعده.» وقد فعل ذلك لكي يشوّق القارئ ويلمّح له بالأحداث الّتي ستتبعها، ومن ضمنها الحدث التّفجيريّ (وجود اللّقيط الميّت عند التّرعة)، وعملية البحث عن أمّ اللّقيط، ومعاناة عزيزة وصراعها الدّاخليّ، الّذي أدّى إلى قتلها لنفسها. لغة يوسف إدريس واقعيّة تسجيليّة بعيدة عن الغموض والتّعقيد. وقد وظّف إدريس اللّغة العاميّة عند محاورة الشّخصيات لكي يقرّب روايته إلى الواقع ويشيرُ إلى الطّبقيّة في مجتمعه. ظهرت الطّبقيّة عند وصف التّفتيش الغرابوة بأنّهم «ولاد كلب.» وظّف يوسف إدريس هذا المصطلح العاميّ ليبيّن لنا أنّ من وجهة نظر العزبة، لا توجد أيّ مساواة بينهم وبين الغرابوة. بالإضافة إلى اللّغة العاميّة، استخدم يوسف إدريس الرّمزية لكي يترك للقارئ مساحة لتفسير أحداث الرّواية حسب رؤيته. أولُ مثالٍ على ذلك هو طربوش فكري أفندي. في بداية الرّواية، كان طربوشه أعوج، وذلك دلّ على اعوجاج تفكيره، خاصّة عن دور النّساء في الحرام. ولكن في نهاية الرّواية، بعد حلمه عن عزيزة واكتشافه لقصّتها، عدّل طربوشه وذلك دلّ على إصلاح سلوكه واعتقاداته. مثال آخر للرّمزية كان وشم البنت على ذراع عبد المطلب الهزيل. ظهرت هذه الرّمزيّة في بداية الرّواية، ولكن يستطيع القارئ فهمها بعد إنهاء الرواية. وجود الفتاة على ذراع هزيل دلّ على فشل المجتمع المصريّ في حماية المرأة. ونلاحظ أنّ الكاتب لجأ إلى الأساليب الإنشائيّة ليشير إلى قيمة الألقاب عند أفراد مجتمعه والطّبقية فيه. ظهر أسلوب النّداء عند حوار الرّيس عرفة وفكري أفندي، حيث قال عرفة «يا سعادة البيه،» وفرح فكري بذلك اللّقب. اعتزاز فكري باللّقب يدلّ على أهمّية المكانة عند كلّ فرد، لأنّها تميّزهم عن غيرهم. وأيضًا استخدم إدريس أسلوب الأمر لكي يظهر للقارئ المعاملة القاسية الّتي واجهها الغرابوة من قبل أصحاب الأراضي. وقد ظهر هذا الأسلوب عند قول الرّيس عرفة: «وطّي وله، وطّي يا بت،» فكان يأمرهم بالعمل من غير مخاطبتهم بأي احترام بسبب مستوى معيشتهم، وهذا عكس الطّبقيّة. التّصوير الفنّيّ يعتبر مولدا لمعانيّ عديدة يستنتجها القارئ من خلال ارتباطه الفريد للصّورة والموضوع. استخدم يوسف إدريس صورة فنّيّة حين وصف العزبة أهل التّرحيلة بـ»نفاية بشريّة جائعة» ليرى القارئ أن بوجهة نظر العزبة لا تعدّ للتّرحيلة أي قيمة كبشر. هذا أكد بوجود الطّبقيّة بين الطّرفين. ختامًا، نرى أنّ من خلال بناء رواية الحرام حول مصر في عام 1949، استطاع يوسف إدريس أن يقرّب روايته للواقع وأن يعكس للقارئ قضايا عديدة منتشرة في مجتمعه. فهذه الصّلة بين الرّواية والواقع تزيد قيمة هذا العمل الأدبيّ وتأثيره على القارئ. *من مدرسة الأكاديمية الدولية - عمان الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 12-04-2022 10:31 مساء
الزوار: 786 التعليقات: 0
|