|
عرار:
عمر أبو الهيجاء كثيرة التحولات والتغيرات التي طرأت على الحياة الإنسانية على كافة الصعد الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلى المفاهيم أيضا لوظيفة الشعر وأداته، تلك التغيرات أحدثت جدلا عميقا لحداثة النص الشعري؛ ما منح هذا الشعر بعدا فلسفيا ووعيا أكثر حداثة مما كان عليه في السابق، وهذا بالطبع أوقع القارئ والمتلقي في دهشة القول الشعري وتجلياته الروحانية والفلسفية والفكرية ورؤاه الجديدة. من هنا، نلج إلى عنونة الديوان الرابع للشاعر الإماراتي محمد البريكي «الليل سيترك باب المقهى» الصادر حديثا برؤاه الفلسفية وعمق الفكرة يأخذ الدارس إلى الدلالات والتأويلات العديدة للوقوف على جدلية العنوان والمراد من فلسفة الليل حين يغادر بوابة المقهى بما فيه من حكايات وتفاصيل كثيرة في متون القصائد وحركة الحياة التي تفيض النفس الشاعرة على محيطها لتلامس من خلال سردها الشعري أحوال الذات التي تعبر عن الأنا الجمعية المسكونة بالفقد والخراب والأمل. «الليل سيترك باب المقهى» بقصائده الكلاسيكية ذات الطابع الحداثي والمشغولة بفنية ولغة إيحائية تنفذ إلى الرؤى التي تتجلى فيها مرايا الروح ساعية لاستشراف الحياة والأشياء وتحريك الساكن في عتمة هذا الليل وعوالمه ضمن نسق شعري درامي منتظم، وكذلك قصائد الديوان «التفعيلة» فنجد اشتغال الشاعر البريكي على قصيدته بترو يحفر عميقا في تربة الأشجار الذاتية بنفس صوفيّ كما العارف والراقص في النور مولدا دهشة الروح واحتراقات الشاعر وغربته ليعرج بنا عاليا بتجلياته.. كما في مفتتح الديوان وعتبة الأولى «إلى الحياة وهي تفتح لي بابا للخروج إلى سماوات القصيدة»، هذه العتبة تترك لنا مفاتيح للولوج إلى متن قصائد الديوان، وتصور لنا قصيدته التي تحمل عنوان الديوان حالة أكثر انفتاحا على عالم مصاب بالفوضى والترنح والخوف والدمع والقسوة على مصطبة الحياة، لنرى الشارع يلبس ثوب الليل.. ومغادرا هذا الليل تاركا باب المقهى.. ليتركنا الشاعر على نوافذه وتأويلاتها الكثيرة : «لا تعنيني نشوة من في الحانة أو ضجة من المقهى فالشارع أكثر .. من أؤلئك لا من خمر يترنح لكن طال عليه الصير». إلى أن يقول: « قرر هذا الشارع أن يلبس ثوب الليل، على باب الحائط، فالليل سيترك باب المقهى» أيُّ فلسفة في هذا النص الشعري الفاتن؟ ويضم ديوان «الليل سيترك باب المقهى» قصائد: «ضفاف الحياة، رقصة في الريح، لا سماء فوق هذا الرأس، غدر الطواحين، أحب البلاد، أنا البحر، اقطا، سُلم الدعوات، احتفاء بما تبقى، لسان الماء، قرويّ يربي الحجل، غيمة الأنفاس، عائلة الطريق، العابرون، واقف في السماء، وردة في الطريق، جناح مثقل بالغيم، طير المعنى، استعدوا للقيامة، معذرة أيها البحر، من وجهة الريح، البحر يفيض بما يكفي، ويحدث الآن، كي لا نموت، كم أحب العصافير، سيل من الدعوات، ومنجل لا يقص الشجر». الملاحظ في هذا العمل الشعري الذي يتوّج تجربة الشاعر محمد البريكي ليضعها في مصاف التجارب الشعرية المسكونة بخطاب البحر، البحر الذي شغل الشعراء حتى غدا حالة أكثر حضورا وأكثر شأنا في الشعر العربي، لما للبحر من صور وفعل وتأثير في مخيلة الشعراء لأن له الفضاء المنفتح على المعاني والتأويل والدلالات العميقة للنفس الإنسانية ، فهو يأخذنا إلى المعاني والتوصيفات من مثل «الشتات، الغربة، والعشق، والذكريات»، وكما يرمز إلى الكثير من الأمل والحنين، ويحضر البحر عند شاعرنا البريكي في غير شكل ورؤية، يحضر بطقوسه و خوفه ورعبه وحكاياته، فنرى فيضان روحه على شواطئه كما «البحر يفيض بما يكفي» على سواحل الأرواح العاشقة لمعنى العطر والحكايات.. أيُّهذا البحر الذي بفيضانه على الكائنات يترك الفجيعة والرحيل المباغت ويضفي أحيانا طقوس الراحة وفعل الجمال، تاركا خيال الشاعر وباله في تلك الفكرة ليخط لنا لوحة واقعية لمشهدية الألم، وراسما لنا صورة لنا تقوده لمعنى الحجر لتلك الكائنات بفعل «الجائحة» ليهجس داخله و يتساءل بدفق شعوري فكري (هل قلت كلاما «بالشعر النبطي» عن الجائحة) أسئلة تجرح حلّق الروح في حالة الفقد للأحبة، شاعر بفطنته يطلق عنان خياله مراقبا ومستحضرا مادته التاريخية والموروث الديني على توحش العالم المريض بما يكفي : « في الحجر القسريّ أراقب هذا العالم من ثقب الفكرة هل قابيل توحش جدا من هابيل» وهل ضاقت هذي الأرض بما رحبت فأصرَّ على أن يقتل؟ هل ثمة طحن منتظر؟ فالبحر يفيض بما يكفي للرعب». ويمكننا القول بأن مجموعة الشاعر البريكي تعاين الواقع وتترجمه بأفكار وفلسفة ضمن سياقات القصائد الممعنة في التخييل الشعري إلى أسئلة وتساؤلات تستقرئ معنى الحياة «والعابرون على الغيم، والفاتحون ومن حوّلوا رملة البيد مجدا» ها هو يحضر البحر بغموضه وعنفوانه في شبكة من العلاقات الجدلية لماهية الحياة والإنسان، إنه البحر الذي يسافر بالروح الشاعرة لتستحضر الرموز حين يترك لمخيلته أن تلقي أسئلة عميقة لنرى شعراء مثل: بشار والمتنبي وابن زيدون، ذاهبا إلى فتح عموريا لنرى شاعرا مثل ما قال في هذا الفتح ... هنا وهناك في فضاءات هذا الديوان مساحة من الحزن والأسى والأسئلة أفرد لوحات شعرية ومنولوج درامي يفتح آفاقا وبعدا ثقافيا وحسّا معرفيا وتوظيفا متقنا للأحدات يحلق بالقارئ في سماوات بعيدة متشحة بموسيقى الحرف المبلل بندى نخل الرصافة والأمنيات. «وهل سوف تشهد عصرا ترى فيه بشار والمتنبي؟/ هل سترى شاعرا مثل من قال/ عن فتح عمورية؟/ سقطت كل تلك القلاع/ وما زال الغريب يؤانس اغمات/ يمنحها دفء اشعار من خلف القصر/ والانس فيه واشبيلية/ وغرناطة الآن لولا مآثرهم لن تكون بأشعارها/ فالمدينة قد ذكرت بابن زيدون/ والحاملين إلى أرضها النخل والأمنيات». مجموعة «الليل سيترك باب المقهى» للشاعر محمد البريكي بحاجة إلى وقفات وقراءات أكثر لنستقرئ رموزه ومعانيه ودلالاته لنفي حقه بالدرس النقدي الفاحص والجاد. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الجمعة 29-10-2021 08:30 مساء
الزوار: 887 التعليقات: 0
|