«عصافير المساء تأتي سراً» .. قصص تنحاز للأطفال وفقراء الوطن
عرار:
«عصافير المساء تأتي سّراً» مجموعة للقاص محمد عارف مشّة تضم أربع عشر قصة،
تتناول اكثر من موضوع، وتقدَّم من خلال القص العادي والفنتازيا والرمز، ورغم ذلك إلا أن هناك وحدة تجمعها، تتمثل بسرعة الأفعال وتتابعها، فهذه الطريقة من علامات الكتابة القصصية عند مشّه، وهي تشعر المتلقي أن القاص يريد أن يخبرنا بأحداث مهمة، لهذا جاءت الأحداث/ الأفعال سريعة ومتتابعة، لكن هذا لم يكن حائلا أمام توحد القاص مع طبيعة القصة التي يسردها. ونجد أن طريقة القص جاءت من خلال القاص الخارجي وأنا القاص، كما تم تحديد مكان الأحداث: «صامدين أمام أطفال حي الضباط وجناعة والجبل الأبيض» (ص14 ،(فالمكان الذي يهتم به القاص مكان شعبي، وليس للنخب المترفة. ونلاحظ تركيزه على أسماء محددة في المجموعة (أحمد، خالد.. إلخ)، وكانت غالبية الشخصيات التي تناولها من العامة، وهذا يقربها من القارئ ويجعله يشعر بأنها من طينته، وتتماثل معه في همومها ومشاكلها. يفتتح القاص المجموعة بقصة «ذاكرة المخيم» التي تتناول التغييرات الاجتماعية من خلال المعلم الذي يدخل غرفة الصف ويدور حوار بينه وبين أحد الطلاب: * لم أتيت إلى هنا؟ - أبي يريد أن أتي إلى هنا. * ماذا تعني لك كلمة مخيم؟ من يعرف خيمة الفلسطيني؟ - خيمة زرقاء. - برتقالية. - لونها بنفسجي. * من احتل فلسطين وشرد شعبها؟ - الفلسطينيون يحتلون أرض إسرائيل، وقد شردوا الشعب اليهودي وقاموا يقتل الأطفال والنساء.
* تقصد اليهود قاموا بقتل أطفال فلسطين؟ - لا، أقصد أن الفلسطينيبن هم من فعلوا القتل والدمار» (ص7-8.( فعندما جعل القاص الخلل في فهم الأطفال، أراد به التأكيد على خطورة ما يجري من بث أفكار ومعلومات تهدم البنى الفكرية للمجتمع وتقلب الحقائق، كما أنه عندما تناول فئة الطلاب تحديدا، أراد التأكيد على الخلل في النظام التعليمي السائد في المنطقة العربية بعد عمليات (السلام). في الأدب، لا تقتصر الأهمية على الأفكار بقدر طريقة تقديمها، لهذا جاءت نهاية القصة بهذا الشكل: «أين تقع فلسطين؟... في العراق... في الصين... من أخبرك؟ أجب من أخبرك؟... وضاع صراخ المعلم واختفى بين ضجيج الطلبة:. ويضيف القاص: «تقول جدتي إنهم وجدوا المعلم ميتا بين مقاعد الطلبة، والغرفة خالية إلا من غبار الأتربة العالقة بالهواء المنبعث من الشباك الخشبي الوحيد في الغرفة الترابية المنعزلة» (ص8.( فالقصة تنطوي على قدر من الفانتازيا (طريقة إجابة الطلبة على أسئلة المعلم، والرمز الذي جاء في نهاية القصة)، فكان موت المعلم بمثابة احتجاج على الواقع التعليمي، وعلى طريقة تعليم/ إفهام الطلاب لما يجري. أما القصة الأهم في المجموعة الصادرة عن «الآن ناشرون وموزعون» ( 2018 ،(فهي «عذرا أيها السادة فأنا أكذب»، فقد أوصلنا القاص إلى ذروة الفانتازيا حين جعل الأحداث تجري بين مكانين، مكان عادي/ طبيعي (الغرفة)، ومكان غير منطقي (التلفاز).. وبين شخصيات (حقيقية)/ القاص، وشخصيات غير موجودة –حالا-، يشاهدها القاص على الشاشة. وجاء في فاتحة القصة: «بث حي ومباشر لكرة القدم، أجلس أمام الشاشة مترقبا فوز الفريق.. الكرة تصل المرمى، ترتطم بالعامود، تنحرف، تخرج من الشاشة، تتجه نحوي، ترتطم برأسي، أصرخ متألما. لست متيقنا مما حدث إن كان حقيقة أم خيال كاتب! فقد سار الممثل باتجاه هاوية الجبل... فصرخت على الممثل مذعورا أن انتبه، نظر لي الممثل بلا مبالاة ثم قال: (اصمت ولا تتدخل في أحداث المسلسل). خرج المخرج من وراء الحاجز وأشهر سلاحه في وجهي، أمرني أن أخرس وألا أتدخل في سير أحداث المسلسل» (ص9.(
هذا المشهد يمثل ذروة الجنون، وذلك تعبيرا عن الأثر الذي تركته الشاشة على المشاهدين، وتعلقهم بما يشاهدونه، فقد أصبحت الشاشة (الصديق/ الأخ/ القريب) للناس، ولم يعودوا يهتمون ببعضهم بعضا. لقد سرقتهم الشاشة وأخذتهم بعيدا عن الواقع، فأمسوا يعيشون في الخيال والوهم معا، فكان لا بد من الرد عليهم بطريقة «مجنونة» بعين الأسلوب الذي يفهمونه/ يعرفونه. ولم تتوقف الفانتازيا عند القاص بما يحدث في الشاشة، بل تعدته إلى إشراك القارئ: «وذاك الشاب الذي يدخن سيجارته وهو يقرأ القصة يقول لي: تبا لك! أنا لا أكذب أيها السادة. اقسم لكم، أسألوا المخرج عما حدث، سيكملان لكم القصة عني. لقد تعب من القول: الشمس تشرق غربا» (ص11 .(لهذا تعد هذه القصة الأبرز في المجموعة، إذ يول فيها الجنون إلى الذروة، ويطال ما هو حقيقي/ القاص، والوهمي/ الشاشة، والواقعي/ القارئ. هذا التنوع والتعدد في مداخل الفانتازيا، وتناولها لأكثر من حالة/ شخص/ حدث/ فكرة، يمكن أن يكون نموذجا لأدب قصة الفانتازيا، ليس لأن القصة تناولت أكثر من حالة فحسب، بل لسلاستها وطريقة تقديمها، فالحبكة وترابط الأحداث ومنطقية الجنون فيها، تجعلها قصة متميزة يُستمع بها. وأحيانا نجد القاص يدهش المتلقي في طريقة تقديم القصة، ففي «سيل الزرقاء» يحدثنا الطفل/ القاص عن مغامرته في صيد السمك من «سيل الزرقاء»، وبدت الأحداث شيقة ومنطقية ومتسلسلة: «كنا أطفالا ثلاثة... لنثبت للجميع قدرتنا على الفوز أمام أقوى الخصوم في صيد السمك» (ص14 ،(وجاءت نهاية القصة مدهشة، فبعد عودة القاص/ الصياد والاحتفاظ بصيده، يتفاجأ أن صيده كان ضفدعا وليس سمكة. واللافت في هذه القصة أن طريقة قصها تتماثل وعقلية/ منطق الطفل الذي كان متلهفا لتحقيق تفوقه على الآخرين: «نمت تلك الليلية وأنا أحتضن المرطبان في فراشي، وبأني سأدخل ساحة مدرسة المخيم مرفوع الرأس يلقي علي الطلبة تحية الصباح، وسيقدم مدير المدرسة تهنئته لي من خلال الإذاعة المدرسية، ولن يضربني معلما الحساب وال’نجليزي على تقصيري» (ص16.( نلاحظ أن هناك تركيزا على التفاصيل بدقة، وهذا يأخذنا إلى ذهنية الطفل، وطريقته التي يفكر بها، فهي عقلية طفل وليست عقلية القاص الراشد، فبما أن اللغة المستخدمة كانت لغة طفل، جاءت القصة مقنعة ومتميزة بتحررها من سلطة القاص،
فلم نجد له أثرا في القصة، حتى إننا نجد فاتحتها مختلفة عن فواتح القصص التي يكتبها مشّه، إذ انطوت على
سرد عادي يركز على التفاصيل، وهذا ما جعل السرد هادئا. ونلاحظ عدم جود قصة بعنوان «عصافير المساء تأتي سرا» في المجموعة، لكننا نجد هذه العبارة في قصة «وجع» التي جاء في فاتحتها: «عصافير المساء تأتي متأخرة» (ص26 ،(وفي خاتمتها: «فتأتي عصافير المساء سرا كل مساء» (ص29 ،(وهذا الأمر يستوقف القارئ، فالقصة تبدو عادية، تتحدث عن شخصيات من العامة. وربما أريد من ذكر عبارة العنوان مرتين في هذه القصة الإشارة إلى أن المجموعة تتناول شخصيات من العامة، بمعنى أنها الفئة السائدة، وأريد منه الإشارة إلى المكان/ القرية، بوصفه المكان الطبيعي الذي ينشده القاص، فهو بعيد عن زحمة المدن وضجيجها.