|
عرار:
د. إبراهيم خليل صحيح أن الجيل الجديد من الشعراء، وربما الكتاب أيضا، يجهلون الكثير عن رواد الأدب في فلسطين، وفي الأردن. فاتصالهم بالأدب يكاد يقتصر على ما ينشر في الصحف، وعلى بعض الإصدارات الجديدة، وقليل منهم، ونادرٌ من يتجاوز ذلك لقراءة ما جادت به قرائح الشعراء، والكتاب، من إبداعات منظومة، وأخرى منثورة، قبل عقود قليلة من الزمن. فلو طرح السؤال على بعضهم من هو الشاعر أحمد أبو عرقوب، وماذا قرأوا من شعره، فلن يجد الكثيرون منهم ما يقولونه. صحيح أن الشاعر (أبو عرقوب) عُرف بالمقلّ، الزاهد في الشهرة زهْدَهُ في النشر. فلم يصدر في حياته (1936- 2001) إلا ديوانا واحدا وسمه بعنوان « توقيعات على قيثارة الرفض « (1973) ولكنه نشر الكثير جدا قبل ذلك وبعده. فقد دأب على نشر قصائده في « الآداب « البيروتية، وعند ظهور « الأفق الجديد « 1961 المقدسية، تصدرت قصائده الكثير من الأعداد. واحتل فيها موقعا إلى جانب حكمت العتيلي و عيسى بطارسة وأمين شنار وراضي صدوق وأيوب طه وعبد الرحيم عمر وفايز صياغ وسليم دبابنة وتيسير سبول وعز الدين المناصرة، وآخرين. وعند صدور مجلة أفكار (1966) اعتاد الإسهام في الجانب الشعري منها في أوقاتٍ، وأعدادٍ، متباعدة. إذًا من حيث الزمن تعود تجارب الشاعر بنا إلى مرحلة الخمسينيات من القرن المنصرم. وصدور ديوانه الأول 1973 يشير ويؤكد استمراره ومواصلته الكتابة، والتجريب، وتؤيد هذه النتيجة المستخلصة القصائدُ المخطوطة التي عُثر عليها بتوقيعه بعد وفاته في 27 /6 /2001 وهي التي نهض د. مصلح النجار مشكورًا بجمعها، وضبْطها، ونشرها في في مجلد أنيق بعنوان» يخيل أني أراك « (2006) وهي قصائد تمثل في طبيعتها الفنية، والأدبية، شطرًا من تجاربه المبكرة، والمتأخرة، التي اطردت بين ارتقاء، وتأصيل، إلى أن حضرته الوفاة. توقيعات على قيثارة الرفض أما ديوانه « توقيعات على قيثارة الرفض « فقد سبق أن تناولنا شعره فيه، وليس هذا الموضع بالموضع المناسب لتكرار الحديث عنه، وإن كان من اللائق أن نذكّر بملاحظ سريعة ببعْض ما تشير له هذه القصائد. ففي معظمها يتجلى الإحساس بالفاجع، بصفة خاصة في القصائد التي كان قد كتبها في أجواء نكسة 5 يونيو – حزيران 1967 ففي واحدة منها يسخر من مواقف المثقَّفين، والإعلاميِّين، الذين لم يتوقفوا عن الحديث عن ادعاء النصر، أو إدعاء الصمود: المسافات نأت والشمس ما زالت تدور وعلى الأرض النسور خُضِّبت بالدم، والدلّال في سوق المزاد يتغنى بأغانٍ عُرفت من ألف عام وتُعاد والبلاد يتلوَّى الحزن في أعْراقها والنار قد أضحت رماد فهو بموقفه هذا لا يختلف قليلا أو كثيرا عن موقف نزار قباني(1923- 1998) في قصيدته المشهورة « هوامش على دفتر النكسة « غير أن نزارا يقول ما يقوله مباشرة متلذذا بجلد الذات لذا اتسعت شهرة القصيدة. وأبو عرقوب – كنزار- يؤمن بأن هذا الجيل فجع بما كان يخفيه الإعلام المزيف، فقد سمع الناس مرارا التهديدات بإضرام الحرائق بالكيان الإسرائيلي، والقضاء عليه قضاء مبرمًا، وإلقاء الإسرائيليين في البحر ليكونوا طعاما سائغا للأسماك، ولغيرها، وقد كشف الشاعر عن أن هذا كله- لا بعضه- محضُ أكاذيب: كلهم قالوا إذا آن الأوان سترون الأفق نارا ودخان ولقد آن الأوان وافتقدناهم، يكاد الجبن لو قيس بهم يبدو انفجار العنفوان فالشاعرُ لا يجدُ حرجًا في أن يصف الشعراء، والكتاب، والإعلاميين، الذين يحاولون تخفيف الصدمة، والزعم بأن الهزيمة انتكاسة لا غير، بالحذلقة، والرياء، فهو يلتزم بمسؤولية الكلمة، ولذا يأبى أن يكون ممن يراءون: ألفَ عفو أصدقائي يرفض الحرفُ بأن ينعت - ظلمًا- بالمرائي ولم يخلُ الديوان من محاولاتٍ بذلَ فيها الشاعر جهده لارتياد مناخات شعرية حداثية جديدة دون إمعان، أو إفراط. فهذه قصيدة يستوحي فيها من الماضي مراثي مهلهل لكليب وائل .. وتلك قصيدة يعاتب فيها ابن الرومي – الشاعر العباسي المعروف – مشيرا لواحدة من غرره، ونوادره، وهي التي تغزل فيها بالمغنية وحيد قائلا: يا خليلي تيَّمتْني وحيدُ ففؤادي بها معنًى عميدُ وفي قصيدةٍ أخرى يوظف نموذجًا من نماذج البطولة في الشعر العربي، ونعني به سيف الدولة الحمداني(356هـ) في حروبه مع الروم، وما قيل فيه من مديح لشاعره المتنبي (354هـ). وفي أخرى يجتاز تخوم القصيدة ذات الصوت الواحد المنفرد لثانية ذات أصوات متعدِّدة، وهي التي يسميها « حكاية أميم وأخيه «. ففيها يتكئ على بيت شعري للحارث بن وَعْلة يقول فيه (قومي همو قتلو أميم أخي.. ) ومما يلفت النظر في الديوان تلك القصيدة المهداة إلى الأديب د. يوسف إدريس(1927- 1991)، وعنوانها « في انتظار غودو « وهذا العنوان اقتبسه من عنوان مسرحية لصموئيل بيكت (1906- 1989) وهي مسرحية مشهورة تدرج عادةً وتصنف في مسرح العبث، أو اللامعقول(1). فالقصيدة كالمسرحية، كل منهما تصور مآلات الانتظار العبثي الذي لا تعقبه إلا خيبة الأعْيُن المنتظرة: أنا انتظرت مرَّتِ الشهور تقطعت سجادة الصلاة ما يئست لفَّني صمتٌ وكان الهزءُ في منابري وكانت السعير تقتات من أضالعي وما يئست وربما أتيت يا ميلادي الأسير يُخيَّل أني أراك هذه إشاراتٌ نظنُّ فيها ما يفصح عن المزية الإبداعية الجيّدة التي تتصف بها تجربة (ابو عرقوب) المبكرة وحتى المتأخرة. ولكي تكتمل هذه الصورة لا بد من النظر في قصائده الجمة التي عُثر عليها بين أوراقه بعد الرحيل وهي التي جمعها د. مصلح النجار، وضبطها، ونشرها في مجلد أنيق (2006) فيه نحو 60 قصيدة مع مقدمة تقع في أربع عشرة صفحة نوه فيها لمحطات من حياة الشاعر، وعطائه، ذاكرًا أبرز مؤلفاته المنشورة، فإلى جانب الديوان الذي ذكرناه صدر له كتاب عن أدب الأطفال، ورواية للفتيان، وكتاب عن تطور لغة الطفل، وآخر عن النثر الفني القديم، ومجموعة شعرية بعنوان « أطفال المستقبل « صدرت بعيد وفاته بعناية د. عبد الفتاح النجار. وله كتاب مشترك مع د. فخري طملية لم يذكره المحقق بعنوان « تحليل النص الأدبي «. وابتداءً يلاحظ الدارس أن بعض قصائد هذا المجلد لا تخلو من صور، ورؤىً، يُظن أنها من مرحلة توقيعات على قيثارة الرفض. فإحدى قصائده وهي بعنوان « أمة في شارع الموتى « تذكرنا بقصيدة أخرى ساخرة من توقيعات...، مثلما تذكرنا بمواقفه من الواقع السياسي: لي أمة في شارع الموتى أضيق بها.. وقد فقدت صلاة الريح وافتقدت نسيج الذاكرة أطفالها يتربعون على بساط الريح عند الصبح ثم يشاهدون في موكب الشهداء عند العاشرة. وهذه السخرية المتكرِّرَة فيها سرعان ما تتوارى خلف صورة شعرية تبرز فيها بعض الشعارات التي تغيِّب شاعرية المبدع، وتخفي ما في نظمه من ألق: طرْ يا حجر طرْ يا حجر فوق الرؤوس على الشجر طرْ في سماء موطني وقلْ لأعداء البشر لا يفلتُ الفاشِسْتُ من عقابنا ولا التتَرْ هذا عدونا يفرّ وهذه السماء تنْهِمر بوابلٍ منَ الحجر ولو لم يذكر لنا الشاعر تاريخ هذه القصيدة (8 /2/ 1988) لتوقعنا أن تكون قد كتبت في عنفوان ثورة الحجارة وهي الثورة التي أوحت لنزار قباني بقصائد منها أطفال غزة، وأطفال الحجارة، وغيرها من القصائد التي ملأت المشهد الشعري في باكورة الانتفاضة الأولى. وهذا يتكرر في قصيدة له أخرى بعنوان « عصافير بيت لحم « مشيرا بهذا اللفظ للأطفال الذين يتصدّون لمجنزرات الاحتلال بصدورهم العارية إلا من إيمانهم بوطنهم فلسطين. يقولُ- مخالفا قاعدة من قواعد النحو (2): يا العصافير التي في بيت لحم يا العصافير التي في كل حي ومخيم إن تأخرتُ فقد جئتكِ مرفوعًا جبيني أنا أدركتُ .. وقد جادلتُ فيك المرحلة ويتخذ أبو عرقوب، بصفته شاعرا، من نفسه رسولا يبلغ الآخرين رسائل من هؤلاء الثائرين الغاضبين، فلا يفتأ يردد هذه الرسائل التي تحمل الكثير من معاني الصمود، والفخر بهذا الجيل المنتفض: يا رفاق الأغاني عيونُ الحجَرْ حمّلتني إليكم تحياتها واستدارتْ تسافرُ في عرَباتِ المطَرْ وفي شعر أحمد أبو عرقوب مظاهر إبداعية تشهد على صلته الوطيدة بالحداثة، فهو يجمع في بعض قصائدة شخوصًا عدة يتحاورون حوارًا غير مباشر. ويكثر من توظيف النماذج من التراث الأدبي، والثقافي. ولا يخلو شعره من ظاهرة الحضور الصوتي، يقول في قصيدة: على عجلٍ إنها خطوتان ولن يتأخّر إلا جبان على عجلٍ وانتزاع الردى من فم الأفعوان على عجلٍ وانطلاق الأغاني على الخيل في طَلَّة المهْرجان فهذا مقطع استهلاليٌّ يعفينا من الاطناب في الاقتباس. فالشاعرُ كما يبدو حريصٌ حرصًا شديدًا على الموسيقى الصافية في شعره، وعلى تكرار الروي في أداء نسقي لافتٍ للأسماع، وقد فاجأنا أبو عرقوب بعدد من القصائد القصيرة التي لم نكن نظن أن له باعًا طويلا في هذا النوع من الشعر، ومن هذه القصائد قصيدة الكلام ص 155 وقصيدة ضد الموت ص151وقصيدة خبَر ص145 وقصيدة الوطن ص121 والأمنية الضائعة ص113 وهي قصائد جديرة بأن تضيفه إلى شعراء القصيدة القصيرة. وهذا كلُّه، إلى جانب ما ذُكر، يضع الشعر، وصاحبه (أبو عرقوب) في مقام الشعراء المتمكّنين من أعلام الجيل الماضي. هوامش كتب المسرحية صموئيل بكيت وهو إيرلندي بالفرنسية 1948 ثم قام بترجمتها بنفسه إلى الإنجليزية 1949 وقد أخرجها روجر بلين في أول عرض لها عام 1953 وعدت أهم عمل مسرحي بالإنجليزية في القرن العشرين. في النحو العربي لا يجوز نداء المعرف باللام بأداة النداء ( يا ) ولكن النداء يكون بيا أيها أو أيها وحدها. وتعرب أي منادى مبني في محل نصب والاسم الذي من حقه النداء يُعرب بدلا أو عطف بيان من أيّ. الكاتب:
مراقبة التحرير والنشر بتاريخ: الثلاثاء 19-05-2020 12:40 صباحا
الزوار: 735 التعليقات: 0
|