قلق الموت في «كما أنت الآن كنت أنا» للشاعر أحمد الخطيب
عرار:
د. محمد عبدالله القواسمة ما يلفت الانتباه في عنوان مجموعة الشاعر أحمد الخطيب «كما أنت الآن كنت أنا» (عمان: دار الجنان، 2012م) أنه مقتبس من نص للشاعر والفيلسوف والنحات الروماني أرابيوس الذي عاش في القرن الرابع الميلادي. والنص محفور على قبره في قرية أم قيس، التي تبعد عشرين كيلومترًا عن مدينة إربد في شمال الأردن، وكانت تسمى عند الرومان جدارا. لقد أسر النص الخطيب فاقتبس جملة منه «كما أنت الآن كنت أنا» وجعلها عنوان مجموعته. لم تأسره الجملة بجرسها الموسيقي الناتج عن تكرار أصوات الحروف فحسب بل أيضًا بمعناها العميق الذي يعكس قلقًا وجوديًا يبعث على التفكير في المصير الإنساني، وهو المعنى الذي يتلاءم مع رؤية الشاعر أحمد الخطيب للحياة وموقفه منها؛ لهذا فلا غرابة أن يورد النص في الصفحة الأولى من المجموعة، وفي نهايته اسم قائله: «أيها المار من هنا كما أنت الآن كنت أنا وكما أنا الآن ستكون أنت أرابيوس» ولا يكتفي الشاعر الخطيب بذلك بل يؤكد أهمية هذا القول، وتجاوبه مع معناه، واعترافه بفضل صاحبه أرابيوس في رؤيته الحياة بأنها منفى، وأنه لا يستطيع أن يعايشها إلا كالمنفي، يقول: أرابيوس ببيت من الشعر علمتني ... أن باب الحياة على برزخ في الصمت منفى( ص5) إن ما تعلمه الخطيب من شاعره الروماني، وما أوحى به النص الذي اقتبسه لتنهض عليه مجموعته التي بين أيدينا، هو أن الحياة تحت الأرض ليست بأفضل من فوقها، فمن فوقها سيدركه الموت لا محالة، سيخضع لقوة المصير الإنساني، وسيوارى تحت التراب؛ فلا داعي للتكبر والغرور.. إنه مثل غمامة وسط صحراء الحياة، ولا مفر من الرحيل والتلاشي. وأنا هنا وهناك أستشفي لأعرج مع لغات قبل رحيلها وأضارع الإنسان: لا تتوسموا في آخر الصحراء ألف غمامة منصوبة تقوى على جسدي..(ص18) يبدو لنا هذا المعنى من خلال استخدام كلمات: أستشفي، الرحيل، الصحراء، الغمام، وهي كلمات في سياقات لا توحي بأي نوع من السعادة، فلا تحمل غير معاني المرض والجفاف والوهن والضعف والغياب، يساندها الإحساس القوي بالأنا التي تواجه كل هذا الخراب بقلق رهيب. كما تعتمد في التعبير عن ذلك كله باستخدام الفعل المضارع الذي يدل على الحاضر المتحرك، و على الجمل الاسمية التي تدل على الثبات والالتصاق الحميم بالأشياء. إن شاعرنا لا يهتم بالماضي؛ فهو يبدأ من الآن، ويجعله الوسيلة لطرح أسئلة الوجود متكئًا على ذات أخرى، استلها من ذاته بوصفه الشاعر، الذي سيلاقي مصيره المحتوم الذي يلمع أمامه. - ههنا ولد كمثلي حارس للشعر يختم ليله مثلي ويرشح عن أقاصي الماء في لُمع المصير(ص28) من الملاحظ أن هذا النص، مثل غيره من نصوص الشاعر في مجموعته، من الصعب اقتطاف معناه؛ فالشاعر مغرم بخلط الصور ،وتداخل المعاني، وتعقيد الموقف الشعوري. لكن تظل الفكرة التي يعبر عنها ماثلة أمامنا بأن كل شيء في الحياة ناقص المعنى، والعمر قصير بائس لا قيمة له؛ فما الحياة إلا سيرة للنهاية، وعدم اكتمال الأشياء. قشة صفراء هذا العمر، الجدل المعِد لسيرة النقصان (ص69) يرى الشاعر أن حركة الأشياء من حوله، وحركة الظواهر الطبيعية كلها تشير إلى هذا المصير. وهو يصور لنا وكأن القيامة قد وقعت، والملائكة يقومون بعملهم بنشاط وحيوية، والإنسان لا يستطيع أن يبقى حيًا في خضم عصف الريح، وحركة الليل المخيفة. الليل يركض غازيًا والخلّص انتبهوا والفجر ممسوك من الأطراف، تحمله الملائكة الذين تسللوا لنهاية الأشياء... هذا النقص مدفوع بأمر الشعر لا تفرج عن الأولاد فالأفلاك قوّامة والليل يركض حافيًا والريح لوّامة (ص75) إن الشاعر موسوس بالزمن، وقلق من هذا المصير الذي ينتظره، والذي أكدته كلمات أرابيوس المنحوتة على شاهدة القبر لكنه يتمنى أن يكون مثل ذلك الرجل الذي فتل في حرب سوريا؛ إنه روح لم يتلبسها الطين؛ لهذا فهو يمدح الرجل، ويمجد عمله مدفوعًا من فكرة الموت التي تؤرقه. أنا الإدلبي وأسأل: هل يقبض الموت روحًا تجلت بأعرافها في الحضور ولم تلْبَس الطين في عرفها جسدًا (ص144) وإذا كانت الفكرة العامة التي تدور عليها هذه المجموعة بأن الموت هو الحقيقة التي يجب أن ينتبه إليها الإنسان، ويسير على هديها، فإن الشاعر يدرك قيمة الموت الذي يكون في سبيل قضية عادلة، فالميت في هذه الحالة هو الحي وغيره هم الميتون، وخير مثال على هذا الشهيد الذي سقط على أرض غزة؛ فاستشهاده ما هو إلا نوم مؤقت، في حين صحونا نحن هو الموت بعينه، إن الناس من حوله هم الموتى وهو الذي شيعهم إلى قبورهم، قبل أن ينام. يا أهل غزة...، إنه الغزي شيعنا ونام (ص164) ومثل هذا الشهيد الغزي شهيد تونس بوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجًا على الظلم الذي وقع فيه، وكان احتراقه شرارة لانطلاق ما يسمى ثورات الربيع العربي. فهو وإن توارى في باطن الأرض فإنه هو الحي، وسيبعث يوم القيامة أميرًا منيرًا. بوعزيزي حصة أولى لهذا الحلم خط على شعاب الأرض بعض رماده، فغدا منيرًا وكانت جذوة المعنى لديه، إذا توارى في تراب الله يبعثه أميرا (ص174) ويظهر بوعزيزي في موضع آخر من القصيدة حيًّا يرزق، وقد عاد إلى أهله سعيدًا بما فعل بعد أن أشعل الثورة في كل مكان. بوعزيزي عاد من رحم الولادة في جوار النيل، واليمن السعيد، وبنغازي، وحاور دمعة العشاق في بردى، وعاد لأهله مسرورًا( ص176) لقد نجح الشاعر الخطيب في إقناعنا بأنه وفي لمعلمه الروماني، ولكنه في الحقيقة غيب عنا بأن معلمه لم يكن مثله مؤرقًا بالموت وحده بل كان منشغلًا بالتمتع بالحياة أيضًا. وظهر هذا واضحًا في نهاية نصه الجنائزي التي تحث بوضوح على التمتع بالحياة؛ لأن الموت قادم لا محالة. فقد جاء في تكملة النص، كما ظهر في النقش على القبر: «فتمتع بالحياة لأنك فان». لقد وقف شاعرنا مبهورًا أمام الجزء الأول من نص الشاعر الروماني الحكيم، إذ لامس فيه هوى من نفسه، وتلاقيًا مع فكره دون أن يبالي بدعوته في الجزء الأخير إلى التمتع بالحياة، فلم يورده في اقتباسه. لم يشأ أن يصل إليه إلا معاني الموت؛ فرأى الحياة مجرد قبر، وأشد ظلامًا من الموت، وأن الأحياء موتى إلا من قضوا في سبيل أهداف نبيلة، كما وجد فيما اختاره من النص ما يخدم توجهه الفني، وما يتلاءم مع فضائه الشعري الذي يكتنفه الغموض، وسط جزالة اللغة، وتداخل الصور، وخفوت الموسيقى، وصعوبة إدراك المعنى.