أمير العصور المدلل
منذ قرون عديدة، وهذا الطفل المدلل هو الأمير الذي لم يستطع أحد أن يزيحه عن عرشه أو ينقلب عليه، فكل المحاولات التي حشدت من أجل الإطاحة به باءت بالفشل، وبقي بسلالته الطيبة المتواترة هو الذي يتحدث فيسمع له، ويحضر المجالس فينصت الناس لكلامه، ويخاطبهم باختزال واختصار فيأسرهم ويسحرهم، وصار هو الغائب الحاضر دائماً، ففي غيابه يتمثل ببديع قوله، وأصبحت الحكمة في الغالب منه وبه
عاش كما عرفنا عنه ووصلنا خبره منذ عصر ما قبل الإسلام، وشهد حرب البسوس وما رافقها من أحداث، وسمعناه من الزير وهو يقول عن أخيه:
وإنك كنت تحلمُ عن رجالٍ
وتعفو عنهُمُ ولك اقتدارُ
وتمنعُ أن يَمَسّهُمُ لسانٌ
مخافةَ من يجيرُ ولا يجارُ
وشهد هذا الأمير حرب داحس والغبراء، وكان المتحدث الأبرع الذي استطاع أن يصف بجمال ودهشة ما كان يحدث، وأتى على لسان أحد فرسان هذه الحرب بالقسوة والرقة في وقت واحد، فقال فارس الحرب والحب:
هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم
أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
وَعمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاسلَمي
ومر هذا الأمير بالأمراء فخلد إمارتهم البيانية وسحرهم، ورافق بعضهم وهم يخرجون من القصور محبة له، وأجلسه أمير كندة امرؤ القيس مجلساً عظيماً، وسهر معه الليال الطوال التي ذكرها:
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي
بصبحٍ وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ
ثم حضر معركة ذي قار وما قبلها، وكان مع صناجة العرب يحفز على الوقوف والصبر في الميدان، والعودة بعد الطعن بالأسنة والرماح إلى الوجدان، ليستمعوا إلى حديثه الآسر وهو يقول:
ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ
وهل تطيقُ وداعاً أيها الرجلُ
ثم دخل الإسلام وجلس بين يدي أعظم الخلق وتحدث بحديث جميل كان مما قاله على لسان كعب بن زهير:
بانَتْ سُعادُ فَقَلبي اليومَ مَتْبولُ
مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
وما سعادُ غَداةَ البيْنِ إذ رَحَلوا
إلاّ أَغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ
وتصاعدت شيطنته الآسرة بعد صدر الإسلام لتصول وتجول في العصر الأموي، ثم تتألق وتتأنق في العصر العباسي، وتمر على الأندلسي وتطرب، وعلى الأيوبي فتدخل كلمات هذا الأمير عالم التجلي والتصوف البياني، لتصل إلى عصرنا الحديث بهذا الأمير وهو يجلس على كرسي الإمارة .
الشعر كما أطلق عليه "ديوان العرب" وإذا كان البعض يرى أنه تنازل عن إمارته، فإن حضوره في العديد من المحافل التي لم يستطع أي من الأجناس الأدبية الأخرى التحدث فيها مثل المجالس المختلفة، سواء أكانت مجالس العامة أم الخاصة، والمناسبات الاجتماعية والوطنية والقومية، هذا الحضور منحه مكانة لدى الناس من دون أن ينتقص من حقوقهم، فهو بشطر بيت أو بيت واحد يستطيع أن يوصل رسالة، ويرقق قلب ويقطع وصلاً ويصل قطيعة، وهو حديث العشاق وتسير به الركبان وتشدو به الحناجر، وهو التراث الممتد في عمق التاريخ والذي قلت عنه ذات مقال:
الخلاصة أنه يمكن القول إن التراث العربي نهر جار لا ينضب، وبحر لا ينفد مداد من يستخدمه، وكلما تعاقبت الأجيال على استخدامه كلما ازداد حيوية وإشراقاً في النصوص، وأعطى دلالة على أن الحاضر ينطلق من حضارة راسخة وغير زائفة . محمد عبدالله البريكي
عاش كما عرفنا عنه ووصلنا خبره منذ عصر ما قبل الإسلام، وشهد حرب البسوس وما رافقها من أحداث، وسمعناه من الزير وهو يقول عن أخيه:
وإنك كنت تحلمُ عن رجالٍ
وتعفو عنهُمُ ولك اقتدارُ
وتمنعُ أن يَمَسّهُمُ لسانٌ
مخافةَ من يجيرُ ولا يجارُ
وشهد هذا الأمير حرب داحس والغبراء، وكان المتحدث الأبرع الذي استطاع أن يصف بجمال ودهشة ما كان يحدث، وأتى على لسان أحد فرسان هذه الحرب بالقسوة والرقة في وقت واحد، فقال فارس الحرب والحب:
هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم
أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ
يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
وَعمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاسلَمي
ومر هذا الأمير بالأمراء فخلد إمارتهم البيانية وسحرهم، ورافق بعضهم وهم يخرجون من القصور محبة له، وأجلسه أمير كندة امرؤ القيس مجلساً عظيماً، وسهر معه الليال الطوال التي ذكرها:
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي
بصبحٍ وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ
ثم حضر معركة ذي قار وما قبلها، وكان مع صناجة العرب يحفز على الوقوف والصبر في الميدان، والعودة بعد الطعن بالأسنة والرماح إلى الوجدان، ليستمعوا إلى حديثه الآسر وهو يقول:
ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ
وهل تطيقُ وداعاً أيها الرجلُ
ثم دخل الإسلام وجلس بين يدي أعظم الخلق وتحدث بحديث جميل كان مما قاله على لسان كعب بن زهير:
بانَتْ سُعادُ فَقَلبي اليومَ مَتْبولُ
مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
وما سعادُ غَداةَ البيْنِ إذ رَحَلوا
إلاّ أَغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ
وتصاعدت شيطنته الآسرة بعد صدر الإسلام لتصول وتجول في العصر الأموي، ثم تتألق وتتأنق في العصر العباسي، وتمر على الأندلسي وتطرب، وعلى الأيوبي فتدخل كلمات هذا الأمير عالم التجلي والتصوف البياني، لتصل إلى عصرنا الحديث بهذا الأمير وهو يجلس على كرسي الإمارة .
الشعر كما أطلق عليه "ديوان العرب" وإذا كان البعض يرى أنه تنازل عن إمارته، فإن حضوره في العديد من المحافل التي لم يستطع أي من الأجناس الأدبية الأخرى التحدث فيها مثل المجالس المختلفة، سواء أكانت مجالس العامة أم الخاصة، والمناسبات الاجتماعية والوطنية والقومية، هذا الحضور منحه مكانة لدى الناس من دون أن ينتقص من حقوقهم، فهو بشطر بيت أو بيت واحد يستطيع أن يوصل رسالة، ويرقق قلب ويقطع وصلاً ويصل قطيعة، وهو حديث العشاق وتسير به الركبان وتشدو به الحناجر، وهو التراث الممتد في عمق التاريخ والذي قلت عنه ذات مقال:
الخلاصة أنه يمكن القول إن التراث العربي نهر جار لا ينضب، وبحر لا ينفد مداد من يستخدمه، وكلما تعاقبت الأجيال على استخدامه كلما ازداد حيوية وإشراقاً في النصوص، وأعطى دلالة على أن الحاضر ينطلق من حضارة راسخة وغير زائفة . محمد عبدالله البريكي
الخليج