لاشك أن متعة مشاهدة الفيلم القصير خاصة جداً ومميزة ومختلفة عما سواها من مشاهدة سائر الأنواع الفيلمية الأخرى، عالم خاص ومكثّف هو عالم الفيلم القصير، تحتشد الأدوات الفنية ومهارات السينمائيين لتقديم “شحنة” تعبيرية عالية خالية من الترهّل والاستطرادات.
فنان الفيلم القصير على درجة عالية من التمكن والإتقان والقدرة على شحذ طاقاته إلى أقصاها ليقدم “لمحة” زمانية ومكانية مكتملة وذات دلالة، فأنّى له ذلك؟
مما لاشك فيه أن إشكالية الفيلم القصير تتسع باتساع المساحة المتاحة للسينمائي للتعبير عن فكرته، فبمجرد الارتقاء بالفكرة إلى حيز القصة السينمائية المتكاملة نكون أمام ذلك الامتداد الشاسع الممثل في أدوات التعبير ووسائله والزمان والمكان والشخصيات وذلك ما يتيح عدداً غير محدود من الخيارات التي تستهوي هذا السينمائي دون غيره,
وعلى هذا وجدنا أن الفيلم القصير من هذه الزاوية يضع جملة من المعطيات التي لابد من حضورها وتأكيدها أبان كتابة المعالجة الفيلمية إذ لا يمكن أن تمضي رؤية السينمائي سائبة في كيفية عرض مادته على أساس ما يتاح له من إمكانات ووسائل تعبير.
الفيلم القصير.. والأنواع الفيلمية الأخرى
ولعل مسألة القدرة على (التعبير) و (التأثير) صورياً هي أولى المسائل الإشكالية التي تواجه صانع الفيلم القصير، ذلك أن ما هو متاح من وسائل تعبير يوفر لفنان الفيلم إمكانية أن (يقول) بطرق متعددة، هذا التعدد في التعبير يشتمل بالطبع (كيفية )ما تتجلّى فيها الصورة محملة بمقومات التأثير في المشاهد العجول الذي يريد أن يرى شيئاً مختلفاً، رؤية واعية وناضجة وموضوعاً يتفاعل معه وهو مالا يقع غالياً بسبب الترهل والرتابة والتكرار الذي يوقع الفيلم القصير في دوامة من الأخطاء.
وعلى هذا الأساس لابد من النظر إلى الفيلم القصير في مرحلة ما قبل التصوير من الزوايا الآتية:
أولاً: أن الفيلم القصير يقع في منطقة مجاورة للأنواع الفيليمة الأخرى المهمة وبقدر تجاوره معها فإنه يأخذ منها، فهو مثلاً يأخذ من الفيلم الوثائقي بعضاً من واقعيته وربما الأماكن والشخصيات الحقيقية التي يستخدمها وتعد خصوصية خاصة به وهو يتفاعل مع الفيلم الروائي الطويل ويأخذ منه السرد الفيلمي والبناء الدرامي وبناء الحدث والفعل وحتى الصراع وتقاطع الإرادات والبيئة السردية.
ثانياً: إن الفيلم القصير إذ يؤطر زمانياً بمساحة محددة صارت تتناقص يوماً بعد يوم إلى أن وصلنا إلى الفيلم القصير جداً، فإن عنصر الزمان يتيح نفاذاً سريعاً إلى الأحداث والأفعال والدراما والصراع، وتتناقص المساحة الزمانية للاستهلال والتعريف بالشخصيات والأماكن.
ثالثاً: إن جماليات الفيلم القصير تتطلب وعياً بمسألة المرور الخاطف والسريع للشخصيات والأحداث مما يتطلب أن تدرس بعناية من كافة النواحي: في التصوير والإضاءة والمونتاج والصوت لكي تملأ المعطيات الجمالية تلك المساحة المحددة زمانياً على الشاشة.
رابعاً: إن كاتب السيناريو في الفيلم القصير يفترض إنه يعي منطقة ومساحة عمله ولهذا فإنه ربما يذكّرنا بقصائد الهايكو اليابانية في كثافتها والشحنة التعبيرية التي تحملها وهو هنا مختلف كلياً عن شعر المعلقات والاسترخاء في التغني بالأطلال واستذكار رقة الحبيبة وجمالها في (فلاش باك) مترهّل لا يخلو من الثرثرة، هذا النظر الثاقب هو الذي يراد أن يتمتع به كاتب سيناريو الفيلم القصير: إن كلماته ومهارته في الوصف تتجلى في كلمات وجمل مشحونة بالتعبير وليس من اليسير الاستغناء عنها أو استخدام بديل لها.
جماليات الشكل في الفيلم القصير
لعلّ الحديث عن جماليات الشكل لا يقل أهمية عن الحديث عن الدراما الفيلمية، والمحمول الفكري (المتعلق بالفكرة) Thematic concept، فالخروج من المحمول الفكري إلى سؤال (الكيفية) هو نقطة حاسمة على طريق إنتاج الفيلم القصير، سؤال الكيفية هو سؤال الشكل الذي ستظهر عليه القصة والسيناريو بكل ما ينطوي عليه من أحداث وأفعال ودراما،
وفي وقت نحرص أشد الحرص على تحذير كاتب السيناريو من مغبة الانزلاق إلى الترهل والإسراف في الحوار الذي يقترب من اللغو ويبتعد كلياً عن تقنية (شعر الهايكو)،
فإننا في المقابل إذ نريد الوصول إلى السيناريو الذي تتوفر فيه الشروط والمقومات الأساسية للفيلم القصير المتميز فإننا نصل إلى نقطة مفصلية تتمّثل في
(الشكل: البناء البصري – الصوتي – الحركي، جماليات التعبير، أسلوب طرح الأحداث وإظهار الأشخاص والأشياء والأماكن، النسيج المرئي الذي يمنح الصورة دلالات تشكيلية في العمق والتكوين وتوازن الكادر والشكل الإضائي وتوازنات اللون والضوء والظلمة وما إلى ذلك)،
هذه الحقائق المرتبطة بالحس الفيزيائي الذي يترجم إلى صور هو التحدي التالي والإشكالية التي لابد من إدراك أبعادها والتوقف عندها بوعي وثقة.
ولعل أحد أكبر تحديات فنان الفيلم القصير هو تحدي الصورة، بالرغم من أن عنصر الصورة هو قاسم مشترك لجميع الأنواع السينمائية الأخرى إلا انه هنا خيار حاسم لا سبيل للبحث عن بديل له بالكلام الطويل.
إنه صورة مترفعة عن المعنى المكرر والسائد وصاعدة في التأثير ومحتشدة بالمعاني والرموز الدالة ولا يلجأ فيها المخرج وقبله كاتب السيناريو إلى اللغة والحوار إلا للضرورات القصوى التي لا سبيل بعدها لإيصال المعنى.
الفيلم القصير والجمهور والفيلم الطويل
إن هنالك مشكلة أساسية في صناعة الفيلم القصير، وهي حقاً مشكلة أولئك الذين يعتقدون – وهم على خطأ فادح بالطبع – أن الطريق إلى الفيلم الروائي الطويل يمر بالفيلم القصير وأن صانع الفيلم الروائي الطويل يجب عليه أن يصنع عدة أفلام تؤهله ليصبح مخرجاً للفيلم الطويل، ربما يصدق ذلك على المهرة والموهوبين وذوي الكفاءة والخبرة،
أن تصبح مرحلة الفيلم القصير في حياتهم محطة على طريق تغيير البوصلة باتجاه نوع سينمائي آخر، كمن ينتقل من الفيلم الروائي الواقعي الاجتماعي إلى الفيلم البوليسي مثلاً، لكن القصة هنا مختلفة، فالفيلم القصير لا يمكن أن يكون محطة تدريبية للسينمائي يجرب فيها بداياته وأخطاءه، قد تكون النتيجة شيئاً يدعى فيلما قصيراً، شكلاً ما ،فيلمياً مليئاً بالثرثرة واللغو، وستصيب السينمائي الشاب في مقتل بعجزه عن توظيف لغة الصورة ولجوئه للتعكز على الحوار بما فيه من ترهّل ورتابة.
. ومن هنا وجدنا أن الفيلم القصير بما هو رسالة اتصالية تعبيرية يحتاج فيما يحتاج إليه إلى مقدرة فائقة في الوصول إلى الجمهور والتأثير فيه، ربما يستكثر البعض زمناً مقداره دقيقتان، هما الزمن الفيلمي كله ويتساءلون مع أنفسهم: يا ترى أليس عيباً أن أشارك في مهرجان عربي أو دولي بفيلم طوله دقيقتان؟ وربما سيخجل من أصدقائه، وذلك نابع حقاً في جانب من الجوانب مما تربينا ونشأنا عليه من إهدار لقيمة الزمن والثقافة الشفاهية والحكواتية الراسخة التي تستهلك الساعات في اللغو وفي الثرثرة على الهاتف عن أي شيء عنوانه اللا موضوع واللا زمن، المسألة هنا وفيما يتعلق بالفيلم القصير مختلفة تماماً، إنها أولاً تتعلّق بركن مهم ألا وهو الإيمان المطلق بأهمية الزمن كعنصر بالغ الفعالية في البناء الفيلمي، الإحساس بالزمن لا يمكن أن يكتسبه الإنسان من دراسة فن الفيلم، بل أن تتوفر لدى المرء قدرة وحس جمالي بالزمن وقدرة على التعبير البصري أو الصوري في أقل مساحة زمنية متاحة.
هذا التضييق على الهاوي والمحترف في أن يخضع نفسه لسقف زمني هو مشكلة من المشكلات المزمنة فيما يتعلق بالفيلم القصير، وإحدى أهم المشكلات والتحديات التي لا يمكن الخلاص منها إلا بتقديم إما فيلم قصير ناجح أو فاشل.. وعلى هذا لا تستغرب أن تجد مئات السينمائيين المحترفين من كل أنحاء العالم وهم يكرّسون حياتهم للفيلم القصير دون غيره ويسافرون إلى المهرجانات الدولية حاملين معهم فيلماً قصيراً طوله دقيقتان،
قد تبدو المسألة فيها فانطازيا وغرائبية ومن الصعب فهمها أمام الجنون الهوليوودي الجامح الذي خلّف ثقافة فيلمية مشوهة، وقدراً كبيراً من تعجيز الآخرين على صنع سينما ذات إنتاج ضخم في وقت تتحول فيه السينما إلى تجارة وصناعة و نزعة استهلاكية لا تقترب كثيراً من (فن) السينما وبساطة التعبير السينمائي الذي ينسحق أمام الآلة الجبارة التي تمثلها مجنزرات هوليوود التي تريد سحق كل شيء من أجل أن تبقى هي الديناصور الوحيد القادر على التحليق مخلفاً وراءه الدهشة والعجز.
اضف تعليقك