يستعمل نص الشعري الحديث اللعب باللغة نتيجة حتمية لما يفكر به الشاعر من طموح تجريبي يبحث فيه عن المغامرة وعدم المألوفية ، لذلك كان جاكوب كورك يصف الصيغ التجريبية بأنها عادة تكون (( اعتباطية ، لاصلة لها بالموضوع ، وأغلبها جامدة بصورة غير مفهومه)) ، وبالضرورة وعلى مبدأ اللعب باللغة أو إنتاج ألعاب لغوية سوف يتجه النص من كونه وسيلة لنقل الأفكار إلى كونه وسيلة جمالية .
وفي قراءتنا لمجوعة الشاعر فضل خلف جبر ( من أجل سطوع الذهب ) الصادرة عام 2010 فأن المجموعة شأنها شأن أقرانه من النصوص التجريبية والطليعية في العالم فهي مهووسة باللعب في اللغة ومطالبا بتقديم الجديد وغير المسبوق ، فذلك أوجب عليها أن تحجم عن الضوابط والأسس التي تحكم اللعبة ، إلى حدّ قد تمارس فيه أقصى حالات التغريب ، بل المرفوض والمشوه ، فقد مال فضل خلف إلى انتهاك قواعد اللعب نفسه في خلق ألعاب جديدة لم تبدأ من قبل، و يخترع الشاعر في أطار لعبة اللغوي يوما جديدا يضاف إلى أيام الشهر ويأتي ذلك على زنة أرقام أيام الشهر، إذ يقول :
اليومُ هو النازف عشر من شهر المسكنة
كفى!
لنخرج من قبو المسكنة هذا
لنخرج مرة إلى الأبد .
فالشاعر يحاول تغيير رقم اليوم على وفق لعبه اللغوي ليمحي دلالة الزمن من جهة وليدل على قسوة الخضوع والذل والمسكنة الذي يشعر به.
وتعمل المجموعة على اللعب في بناء النص بأكمله عبر سلسلة من الجمل المتوالدة من بعضها البعض لتنتهي في ختام النص ببدايته وكأنه نوع من الدوّر ، المعبر عنه في الفلسفة أو هو نص يدور داخل حلقة مفرغة من الأحداث كلما وصل إلى النهاية عاد مجددا إلى البداية ، ونلاحظ ذلك في نص ( السلام للعالم أجمع) إذ يقول:
في أعماق عالمٍ منسيٍّ
في قلب قرية ٍ نائيةٍ
في بيتٍ بسيطٍ
على أرضيةِ غرفةٍ خالية ٍ من الأثاث
اهتزَّ مهدٌ فتدحرجت دمية ٌ ملونة ٌ
تدحرجتِ الدمية ُ الملونة فسمعها الطفل الذي كان في إغفاءةٍ
ضحك الطفل فسمعته أمّهُ التي كانت تعدّ وجبة الغداء
ضحكت الأم فسمعها زوجها الذي كان يحرثُ الحقل
ضحك الزوج فسمعهُ الجار الذي كان يروض حصاناً
ضحك الجار فسمعته زوجته التي كانتْ تجلب الماء من البئر
ضحكتْ الزوجة فسمعتها كنتّها التي كانت تكلم بنت الجيران
ضحكت الكنّةُ وبنت الجيران فسمعها فتى كان مارا في الطريق
ضحك الفتى فسمعته نسوة كنّ في الطريق إلى القرية
ضحكت النسوة فسمعهن الباعة والمتبضعون
ضحك الباعة والمتبضعون فسمعهم السوق كله
ضحك السوق فسمعته القرى المجاورة
ضحكت القرى المجاورة فسمعتها قوافل المسافرين إلى المدينة
ضحكت قوافل المسافرين فسمعتهم المدينة
ضحكت المدينة فسمعها البلدُ
ضحك البلدُ فسمعته البلدان المجاورة
ضحكت البلدان المجاورة فسمعها زعماء العالم
ضحك زعماء العالم فسمعهم الزعيم الذي كان يهمُّ بنسف العالم.
فالنص ـ إلى هنا ـ يعمل على أن تكون كل جملة علة في وجود الجملة التي تليها وقد استفاد الشاعر من تكرار الفعل (ضحك) ليبني عليه جميع الجمل ، و لا يخفى ما للتكرار من أثر في إظهار جمالية الفكرة المكررة على أن لا تكون مملة أو تدفع الملقي إلى السأم والضجر من التكرار الرتيب وهذا ما تجنبه النص ، ثم بعد توالد الجمل من التكرار يعود النص من نقطة نهاية أخر حدث إلى الانطلاق بشكل عكسي من الأسفل إلى الأعلى أو من النهاية إلى البداية ،فيقول :
ضحك الزعيم فسمعهُ زعماء العالم
ضحك زعماء العالم فسمعتهم البلدان المجاورة
ضحكت البلدان المجاورة فسمعها البلد

........
اهتزّ المهدُ فتدحرجت دميةٌ ملونةٌ
على أرضيةِ غرفةٍ خالية ٍ من الأثاث
في بيتٍ بسيطٍ
في قلب قرية ٍ نائيةٍ
في أعماق عالمٍ منسيٍّ.
فالشاعر يختار شكله الشعري عبر نمط جديد يخترعه ويسجل براءة اختراعه باسمه من خلال اللعب التجريبي وانتهاك السائد والسعي نحو المغادرة والمغامرة ، و لا يقتصر الامر على هذا اللعب بشكل ، انما يعمل فضل خلف على اضافة صور لنصه الشعر ليعزز المعنى فيوظف صورتين في نصه ( كأنما العراق قُد من أسد) الصورة الأولى للأسد البابلي والثانية خارطة العراق فيجمع النص الصورتين وينطلق منهما ليبين رؤية الشاعر للتلازم التاريخي والحضاري بين الصورتين و ينطلق من رمزية الصورتين ليتساءل عن العلاقة الحميمة بين الأسد والعراق ، ويبن رؤيته لهذا الجمال المتلاحم السحري المفتقد عن كل الأوطان سوى العراق:
كأنما العراقُ قُدَّ من أسدٍ!

أهي المُصادفةُ التي وضعت أحدهما في أهاب الآخر؟
أم قدرٌ أسطوريٌ ذلك الذي جمعهما في جسدٍ واحدٍ!
كأنما العراقُ قُدَّ من أسدٍ!
كأنما أسد بابل قُدَّ من عراقٍ
هكذا كانا
وسيبقيان إلى الأبد
صنوين جاءا من الماضي البعيدِ.
فالصورتان في النص تضفي عليه طاقات إيحائية جديدة، إذ تساهم عين المتلقي في المشاركة في إنتاج الإيحاء التام للنص ، والشاعر يحثُ المتلقي للنظر إلي الصورتين ليكتشف العلاقة التي يتصورها بينهما فيقول:
أنظروا إليهما
تأملوا هما مليا
أرأيتم وطنا أسد مثل العراق
أرأيتم سحرا مثل هذا من قبل؟
من يملك وطنا أسدا مثل العراقي.
فالشاعر فضل خلف جبر شاعر لا تقف امام نصه أي حواجز تقليدية انما نصه ينبثق من رؤيا نحو الانبعاث والخلق لصناعة الشعر على وفق معطيات جديدة تستنطق المهمل والمتروك ، والعاب فضل جديدة تستحق الوقوف عندها وعنده طويلا .