نظمت وزارة الثقافة، مساء أمس الأحد، ندوة بعنوان (الإسلام نمط حياة وثقافة متكاملة) وذلك ضمن موسم الندوات في نسخته الرابعة وأقيمت الندوة بحضور سعادة الشيخ عبدالرحمن بن حمد آل ثاني وزير الثقافة، وجمع غفير من المثقفين والجماهير.

وتحدث خلال الندوة الداعية الكويتي الدكتور عثمان الخميس، وأدارها الداعية الدكتور يوسف عاشير.

وسلطت الندوة الضوء على أسس وقواعد بناء حياتنا وفق منهج وثقافة متكاملة تؤثر في مختلف جوانب الحياة الإنسانية، كما عدة تناولت القيم الأخلاقية والاجتماعية في الإسلام، والإسلام والعلم والحث على الاسهام الحضاري، دور الإسلام في تشكيل الهوية الثقافية، وأثر التعاليم الإسلامية في بناء المجتمعات وغيرها.

أكد الداعية الدكتور عثمان الخميس أن النهضة الحقيقية للأمة الإسلامية لن تتحقق إلا من خلال التمسك بالعلم الشرعي، مشددًا على أن الإسلام أولى التعليم اهتمامًا كبيرًا منذ نشأته، حيث كان المسجد هو المدرسة الأولى التي نهل منها الصحابة علوم الدين والدنيا، موضحا أن الأزمة التي تعيشها الأمة اليوم تعود إلى تراجع مكانة العلم والعلماء، وانتشار الفوضى الفكرية نتيجة الابتعاد عن الفهم الصحيح للنصوص الشرعية.

ركّز الدكتور الخميس على أهمية العلم الشرعي في نهضة الأمم، مبينًا أن الأمة الإسلامية لم تكن في الصدارة إلا عندما تصدّر العلماء المشهد وأصبحت المعرفة محركًا أساسيًا للحياة، مستشهدًا بعصور الازدهار الإسلامي التي كانت تزخر بالعلماء في شتى المجالات، من الفقه والتفسير إلى الطب والفلك والهندسة.

وأشار إلى أن أول آية نزلت في القرآن الكريم جاءت بصيغة الأمر بالقراءة، وهي قوله تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” (العلق: 1)، مما يدل على أن العلم هو مفتاح كل خير، وأن الأمة التي تهمل طلب العلم مصيرها التراجع والتخلف ..

وأضاف الخميس أن العلماء الحقيقيين هم الذين يبنون الحضارات ويحمون المجتمعات من الانحراف، مذكّرًا بأن الحضارة الإسلامية قامت على العلم الشرعي والعقيدة الصحيحة، ولم تكن نهضتها قائمة على التقليد الأعمى للآخرين، بل على الفهم العميق للواقع وفق منهج إسلامي أصيل.

وردًا على بعض الأصوات التي تتهم العلماء بأنهم يعيشون في عزلة عن الواقع، أكد الدكتور عثمان الخميس أن هذه النظرة غير حقيقية وتجانب الصواب، وأن العلماء الحقيقيين يدركون الواقع أكثر مما يُظن، ويستطيعون تقديم حلول قائمة على أسس شرعية راسخة. وأوضح أن الفهم العميق للواقع هو جزء لا يتجزأ من العلم الشرعي،”.

وأضاف أن العلماء عبر التاريخ لم يكونوا مجرد ناقلين للنصوص، بل كانوا أهل اجتهاد وفقه، يعلمون الناس ويفسرون لهم أحكام الشريعة بما يتناسب مع مستجدات حياتهم، مستشهدًا بسيرة الإمام أحمد بن حنبل الذي واجه فتنة خلق القرآن بفهم عميق للسياق السياسي والاجتماعي في زمانه، وكذلك ابن تيمية الذي كان حاضر الذهن في مواجهة قضايا عصره، حيث تصدى للفرق المنحرفة، وقاد الأمة نحو الفهم الصحيح للإسلام.

وأشار الخميس إلى أن هناك العديد من التحديات التي تواجه العلم الشرعي في العصر الحديث، أبرزها التشكيك في دور العلماء ومحاولة فصلهم عن الواقع، وانتشار الفتاوى غير الموثوقة، وغياب الاجتهاد الفقهي المتزن الذي يراعي النصوص والمقاصد الشرعية معًا.

وأضاف أن من أخطر ما تواجهه الأمة اليوم هو الخلط بين العلماء الراسخين الذين يمتلكون أدوات الفهم والاجتهاد، وبين من يكتفي بحفظ النصوص دون إدراك معانيها وسياقاتها، موضحًا أن هذا الفارق هو ما يجعل بعض الفتاوى قاصرة عن تحقيق مقاصد الشريعة في بعض القضايا المعاصرة.

كما حذر من خطورة الاعتماد على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للفتوى، مشيرًا إلى أن هذه المنصات مليئة بالآراء المتضاربة، وأن الأخذ بالفتوى لا بد أن يكون من العلماء الموثوقين، لا ممن يفتون دون علم أو دراية .

وشدد الخميس على ضرورة التمسك بمنهج العلماء الذين يجمعون بين العلم الشرعي العميق والوعي بالواقع، مشيرًا إلى أن العالم الحقيقي ليس مجرد ناقل للأحكام، بل هو من يفقه النصوص ويفهم السياقات التي تطبق فيها، ويستطيع تقديم الفتاوى والحلول التي تراعي مقاصد الشريعة ومصلحة الأمة محذرا من التصدي للفتوي ممن يحفظون نصوصا فقط دون فهم وغير متخصصين في العلوم الشرعية.

وفي هذا السياق أوضح أن هناك فرقًا بين الفقيه الذي يقتصر على ظاهر النصوص دون فهم لروحها ومقاصدها، وبين الفقيه الذي يوازن بين النصوص والواقع، مستشهدًا بقول الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات”: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة”، أي أن العالم لا بد أن ينظر في نتائج الأحكام وتأثيرها على الناس، وليس فقط في نصوصها المجردة.

وأشار إلى أن هذا هو المنهج الذي اتبعه الصحابة والتابعون، حيث لم يكونوا جامدين على ظاهر النصوص، بل كانوا يجتهدون في تنزيلها على واقع الناس بما يحقق مقاصد الشريعة، مبينًا أن هذا هو الفرق بين العالم المجتهد الذي يفهم الدين بعمقه، وبين من يظن أن العلم مجرد نقل دون فهم.

وأكد أن العلم كان وما زال أحد الركائز الأساسية في الإسلام، إذ لم يكن مجرد وسيلة دنيوية، بل كان مطلبًا شرعيًا يرفع الله به درجات المؤمنين، كما ورد في قوله تعالى: “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”. فالتعليم لم يكن مجرد نشاط بشري عابر، بل هو طريق لفهم الدين والدنيا معًا. ولهذا، كان العلماء هم ورثة الأنبياء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “العلماء ورثة الأنبياء”. فالمعرفة في الإسلام ليست حكرًا على فئة دون أخرى، بل هي مسؤولية عامة يجب على الأمة كلها حملها ونشرها.

وعلى عكس ما يروج له البعض من أن الدين كان حجر عثرة أمام التقدم العلمي، نجد أن الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها كانت تقوم على العلم والمعرفة، حيث نشأت المدارس الكبرى في بغداد وقرطبة ودمشق والقاهرة، وبرز علماء مثل ابن سينا والرازي وابن الهيثم، الذين أسهموا في مختلف العلوم من الطب إلى الفلك والرياضيات. ولم يكن هناك صراع بين الدين والعلم، كما حدث في أوروبا خلال العصور الوسطى، بل كان العلم امتدادًا للفهم الصحيح للدين، حيث بدأ الوحي بكلمة “اقرأ”. وهذا يؤكد أن أي اتهام للإسلام بأنه يعادي المعرفة هو قراءة خاطئة للتاريخ والحضارة.

وفي ختام محاضرته، وجّه الدكتور عثمان الخميس رسالة إلى طلاب العلم، داعيًا إياهم إلى تحمل مسؤولية نشر المعرفة الصحيحة وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي تنتشر في المجتمع، مشددًا على أن العلم هو السلاح الأقوى في مواجهة التحديات الفكرية والثقافية التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم.

وأكد أن طالب العلم لا ينبغي أن يكون مجرد ناقل للمعلومات، بل يجب أن يكون صاحب فهم دقيق للواقع، قادرًا على تقديم العلم الشرعي بأسلوب يناسب الناس ويفسر لهم الأحكام بطريقة صحيحة بعيدًا عن التشدد أو التهاون.

كما دعا إلى ضرورة العناية بعلوم المقاصد الشرعية، التي تتيح للعالم أن يوازن بين النصوص والواقع، وتمنع الوقوع في الفهم السطحي للأحكام، محذرًا من خطر الجمود الفكري الذي يبعد الناس عن الفهم الحقيقي للدين، مشددًا على أهمية الرجوع إلى العلماء الثقات، مشيرًا إلى أن هناك محاولات لتشويه صورة العلماء وإبعاد الناس عنهم، وهذا جزء من الحرب الفكرية التي تواجهها الأمة. وأكد أن الأمة لن تنهض إلا إذا رجعت إلى علمائها، وتمسكت بعقيدتها الصحيحة، وعملت على بناء نهضتها بالعلم والفهم العميق للدين والواقع معًا.

جدير بالذكر أن موسم الندوات يختتم غدا الثلاثاء 25 فبراير، بندوة لسعادة السيدة لولوة بنت راشد الخاطر، وزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي، تقام في المبنى الثقافي بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات .

ويقام موسم الندوات بالشراكة مع جامعة قطر والمركز العربي للدراسات، وبمشاركة نخبة من الخبراء والمثقفين والمفكرين والأكاديميين من داخل دولة قطر وخارجها، ويأتي ضمن جهودها المتواصلة ونهجها الراسخ في تأسيس منصة للحوار الثقافي والفكري الجاد والمعمق حول أبرز القضايا الثقافية.