محمد المشايخ

عن مدونة مؤاب الثقافية، التابعة لبلدية مؤاب الجديدة في محافظة الكرك، التي يرأسها م. أحمد مهدي الطراونة، صدر أخيرا كتاب الدكتورة نعمات عوض الطراونة (التراث الشعبي الأردني/ في النول).

وتمتاز الكنوز التراثية التي كشفت د.نعمات النقاب عنها في هذا الكتاب، وفيما تنشره في المجلات العربية، وعلى صفحتها على الفيسبوك، بروحانيتها العالية، فمنذ طفولتها، وهي تعيش وتراقب أدق التفاصيل في الحياة البدوية، ولم تكن لتغمض عينيها عما يقوم به البدو بعامة، ونساؤهم بخاصة، في أوجه حياتهم المختلفة، وحين غدت في ريعان الصبا وعز الشباب، تدفـّقت الذكريات والوقائع أمامها، فسعت لتصنيفها ولجمعها ولنشرها»دون مقابل»، فحظيت المكتبة الأردنية بثروة تراثية ومعرفية تشمل عقودا طويلة على صعيد الزمان، إلى جانب مساحات واسعة من المكان الأردني وجمالياته، مكتوبة بروح د.نعمات قبل قلمها.

كثيرون هم الذين عايشوا نشأة وتطوّر وازدهار التراث الشعبي الأردني، وكثيرون هم الذين عملوا على حفظه من خلال المؤسسات المعنية بهذا التراث، والتي تتقدمها وزارة الثقافة، وكثيرون هم الذين ألـّفوا كتبا، ونشروا أبحاثا حول ما عايشوه، يتقدمهم المبدعون: نايف النوايسة، د.هاني العمد، طه الهباهبة، محمود الزيودي، د.أحمد عويدي العبادي، روكس العزيزي، د.حسين طه محادين، حمدة وعيدة الهربيد الزعبي، د.عبد الله رشيد، محمد أبو صوفه، د.عمر الساريسي، محمد أبو حسان، د.أحمد الربابعة، د.محمد الغوانمة، عيسى الجراجرة الضمور، نايف أبو عبيد، نمر سرحان، نمر حجاب، زهرية الصعوب، وغيرهم كثيرون.

أما ما كتبته د.نعمات، فهو يُشبه البث الحي والمباشر من الميدان، لأدق التفاصيل المتعلقة بالحياة الشعبية البدوية، قبل أن تـَـتـَـغوّل الحضارة وتقنياتها، وتجعل البدو وغيرهم، يستبدلون تراثهم وصناعاتهم المادية، بأمور أنجزتها الحضارة الحديثة، مثلما استبدل كثيرون أيضا، وقائع وأغاني العرس البدوي، وغيره من التراث اللامادي، بوقائع وأغانٍ لا علاقة لها بذلك العرس.

وتلفت د.نعمات في بحثها «النول في التراث الشعبي الأردني»، الأنظار لدور المرأة الأردنية في تشييد حضارة من العدم، إذ لم تكن مصانع النسيج قد انتشرت، ولا مراكز التدريب المهني قد أنشئت، كما تلفت الأنظار بشكل غير مباشر، إلى الواجبات التي كانت ملقاة على عاتق المرأة البدوية، في منزلها، وفي مواسم الحصاد والزراعة والعمل الدائم على مدى العام، إلى جانب دورها في ولادة وتنشئة الأجيال، وكل ما يتلق بالأمومة، ولا يمكنني أن أنسى ما حييت، الصورة التي بثتها د.نعمات ضمن بحثها لنساء يشتغلن بالمول ومتطلباته، بينما يحمل أطفالهن أشقاءهم وشقيقاتهن الأصغر منهم سنا، وكلنا يعرف أن الأطفال، إن انشغلت أمهاتهم بأمور غيرهم، يدخلون في بكاء دائم، ولا يصمتون حتى تضمهم في حضنها الدافئ والحنون، وأعني هنا، أن «النول»، كان نقطة في بحر المهام المطلوبة من المرأة البدوية، ولكن د.نعمات أولت تلك النقطة، ما يليق بها من اهتمام، مذكرة أن البدويات كـُنّ يـُعلمن بناتهن كل ما يتعلق بالنول، فتنتقل التعليمات من جيل إلى جيل، والجميل أن د.نعمات كانت تضفي على الأشغال الشاقة للنول، بهجة خاصة، تتبدى في الأحاديث الممتعة، والضيافة النابعة من كرم البدو وجودهم وعزهم وذكرياتهم التي تتخلل العمل، لافتة النظر، إلى توقفه نهائيا، في حالات الوفاة، وعدم العودة له إلا بعد مرور40يوما، وبعد استئذان ذوي المتوفى.

كتبت د. نعمات بحثها بلغة عربية فصيحة، أحالت الكثير من ألفاظ البدو الصعبة وغير المفهومة لدى غيرهم، إلى ألفاظ واضحة عند الجميع.. أعرف أنها واجهت صعوبات جمة لتحقيق هذا الهدف، ولكنها كانت تتدخل كلما تطلب أسلوبها العذب والمـُـشوّق والذي لا يخلو من جذب للقارئ لمتابعة مطالعة بحثها المهم، فتدهشه بعظمة وصفها، وبجماليات صورها البصرية، تقول في أثناء حديثها عن «النيرة»: (فالنسّاجة تتناول الخيوط بيد برؤوس أصابعها من خلف العمود المرتفع، بينما يدها الأخرى تفصل بين الخيوط من اتجاهها، وتُدخل المنحاز بينهما وتترك فراغا تدس الموشع فيه، ثم تستخدم المشقاة لتثبيت خيط السّداة، ثم تنتقل للمرة الثانية، وهكذا)، ويُحمد للباحثة هنا إيرادها بعض الكلمات واضعة خطا فوق الكاف، لتنقل للقارئ رسالة مفادها أن هذا الحرف كان لدى البدو يـُلفظ ch.

وكثيرا ما لجأت د.نعمات إلى الشعر البدوي، فأوردته في أثناء بحثها، في الأماكن التي لا غنى للقارئ وللمعنيين بالتراث عنه، وهو شعر مهم، لأنه يخص الأجداد والجدات، قبل أن يُدير أبناء جيلنا الحالي ظهورهم له، ليستمعوا فقط لأغاني نجوى كرم، ونانسي عجرم، وهيفاء وهبي، وغيرهن.

توقفت د.نعمات طويلا عند «بيت الشّعر» والجهد والمشقة التي كانت تبذلها نساء البدو لانجازه، ليشهد هذا البيت فيما بعد، أهم المناسبات والوقائع في حياة البدو، والحمد لله أن هيأ لهذا البيت، نساء وَفيّات، ذكرنه في أغانيهن، مبرزات أهميته في حياتهن، ورفضهن لما أنجزته الحضارة الحديثة من تجميل وتكييف و...و...تقول المطربة دلال الشمالي، على لسان المرأة البدوية:(لـَهجـُر قصرك وارجع بيت الشعر)، وذلك بعد عقود من قول ميسون الكلبية زوجة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان: (لبيت تخفق الأرياح فيه.. أحب إلي من قصر منيف).

كانت د.نعمات مخلصة لدراساتها وأبحاثها في التراث الشعبي الأردني، وتكمن جماليات ما كتبت، في مزجها بين جوانب التراث، مذكرة بما فيها من خصوصيات معنوية تشبه ما لدى البشر، ومن ذلك قولها إن «القهوة عشـّـاقة»، ولا علاقة لكلمة عشـّـاقة هنا بالعشق، بل بما لدى القهوة من قدرة على امتصاص رائحة أي شيء يجاورها ولا سيما العطور، إذ تصبح رائحة ما امتصّت جزءا منها، وبعكس القهوة، كتابات د.نعمات، لأنها دراسات في التراث الشعبي الأردني، ممزوجة بنكهة عربية وعالمية.

جريدة الدستور الاردنية