وللأسف لم يحفظ والدي هذه الصور بالترتيب الزمني ولم يصنفها حسب المواضيع. كانت الصور في حالة فوضى عارمة ألصق بعضا منها بشكل عشوائي في خمسة ألبومات، بينما احتفظ بأغلبيتها في علب من الكرتون، لم تحمل أغلب الصور أي تعريف كتابي أو أي تأريخ. حاولت أن أجمعها وأصنفها حسب ترتيب معين، ولكن في غياب استشارته، خاصة لأنني بدأت عملية التصنيف بعد وفاته، باتت هذه المهمة مهمة صعبة للغاية، حاولت أن أضع الصور في سياق مرجعي وأن أسترجع مقتطفات من المعلومات المتناثرة التي سمعتها من والدي عن بعض الأحداث والاشخاص المتواجدين في الصور، بالمجمل، فقد تضمنت الصور التي اخترتها لإنجاز مشروعي الفني، أفراد العائلة والأصدقاء والمعارف الذين التقاهم والدي عبر السنين، صورا التقتطت في فترات ومناسبات ومواقع مختلفة في فلسطين بدءا من يافا إلى القدس فالخليل، ورام الله، وطبريا وغيرها.
وتوضح تماري، أنها تهدف من تأليف هذا الكتاب إلى توثيق بعض الحكايات الشخصية التي استجمعتها لأفراد عائلتها، في اعقاب القصف العنيف والتدمير الذي تسببت به الميليشيات الصهيونية في عام 1948، والذي أدى إلى تهجير العديد منهم إلى خارج فلسطين؛ ولقد أدى تهجيرهم القسري من بيوتهم ومدنهم ونزوحهم إلى فقدانهم لمصدر رزقهم وممتلكاتهم ومقتنياتهم النفيسة ووثائقهم، وصورهم، وكل ما هو دليل على عقود من تواجدهم في وطنهم، أردت أن أتخيل مشاعرهم وكيف تعاملوا مع تلك الصدمة والمعاناة، بعد تشتتهم وانتشارهم حول العالم. وكيف استطاع الكثيرون منهم من بناء حياة جديدة في المنفى بالرغم من أن الذكرى الحزينة للفقدان، والحنين لوطن مسلوب اصبح كل ما تبقى لديهم.
وتشرح المؤلفة، انتقل والداي، وكلاهما من مدينة يافا، بعد زواجهما عام 1940، إلى مدينة البيرة، المدينة التوأم لرام الله، والموجودة حاليا في "الضفة الغربية"، لهذا نجوا من المصير المأساوي لغيرهم من الفلسطينيين الذي أصبحوا لاجئين إبان حرب عام 1948، كانت عائلتنا محظوظة لأننا كلنا نعيش في منطقة رام الله والبيرة، التي لم تتعرض للحرب المفتوحة والقصف والتدمير الذي ارتكبته عصابات الهاجاناه والأرغون والقوات العسكرية اليهودية قبل وبعد 15 أيار 1948، وهكذا تمكنا من البقاء في بيتنا في البيرة والحفاظ على كل ممتلكاتنا، وكانت الأغلى من بينها مجموعة صور والدي.
وتتابع، ما بهرني وشدني في هذه المجموعة هو الصور العائلية التي عكست الكثير من التفاصيل الدقيقة للحياة في مجتمع الطبقة الوسطى للمدن الفلسطينية، في لقاءاتهم الاجتماعية وأنشطتهم اليومية قبل التهجير، بدأ أفراد العائلة وهم يعيشون حياتهم الطبيعية ويتبعون الإيقاع الاعتيادي اليومي دون أي تعطيل، تنوعت المناسبات لهذه الصورة بعضها احتفالية مثل الأعراس، والمعمودية، والأعياد، والنزهات، وصور أخرى كانت أكثر جدية، منها مجموعة لجنازة إحدى عماتي التي توفيت في مقتبل العمر في القدس، ورغم الأسئلة الكثيرة التي أثارتها هذه الصور وتركتني دون إجابة، إلا أنها وفرت لي خيوطا معرفية جديدة ارتبطت بجوانب معينة من حياة عائلتي من بداية القرن العشرين حتى النكبة.
وتوضح، حين بدأت مشروعي الفني سلسلة "صور عائلية"، غمرني إحساس عميق بوجود رابط مبهم، ولكنه في آن واحد وثيق بيني وبين الأشخاص الذين تمثلهم هذه الصورة، لم أكن أعرف أغلبهم بشكل شخصي، لكني شعرت بدفئهم وحيوية الأنشطة التي جمعتهم في هذه الصور، وكأنني كنت هناك معهم، تخيلت نفسي أقف أو أجلس معهم أمام الكاميرا، بينما يحتفلون بأنشطتهم ومناسباتهم الخاصة، كنت أكاد أسمع أصواتهم وحماسهم وهم يتأهبون ويتجمعون لالتقاط الصورة، فبالطبع، يجلس الأكبر عمرا على مقاعد بشكل رمسي في المقدمة، بينما يقف الآخرون في وضعيات مختلفة من خلفهم، يد أحدهم تعانق كتف من بجانبه، تميل بعض الرؤوس، والابتسامات المفعمة بالسرورة والرضا تعم المكان".
وتتابع القول: "في إحدى تلك الصور هناك امرأة شابة- والدتي تقف وحدها وهي تميل باسترخاء على باب منزلها تفكر في زوجها المقبل ومستقبلها. وقفتها المألوفة تلك جعلتني أشعر بأنه كان بالإمكان أن أكون أنا من تقف هناك.
صورة أخرى أخذت في الاستوديو لشابين، يقفان بشكل تقليدي من اجل التقاط صورة تذكارية لصداقتهما، أعطتني تعابير وجهيهما إحساسا بنوع من الألفة التي تجمعهما. كل صورة من هذه الصورة أطلقت العنان لخيالي واستحدثت الكثير من المشاعر متفحصة أيضا ليس الأشخاص فقط، بل تفاصيل المكان، مثل "الموضة والأحذية، والكماليات، وموديلات الشعر، والعمران، والمشهد الطبيعي، والمقاعد التي يجلسون عليها، والمركبات التي استخدموها للتنقل- وطيفا متنوعا من الأشياء الأخرى التي وثقتها وازدحمت بها الصور، لكن بالإضافة إلى التفاصيل الملموسة، فقد وجدت أيضا رغبة ملحة في داخلي لتخيل نفسي جزءا لا يتجزأ من هؤلاء الأشخاص- عائلتي، أتفاعل معهم وأعيش في تلك الحقبة الزمنية التي عاشوها كمجتمع مزدهر قبل أن تمزقنا مأساة النكبة.
وبتفاصيل أكثر تقول، "قصدت أن يبقى الأشخاص في هذه اللوحات من دون هوية معروفة مع أني كنت أعرف أسماءهم، ولدي علاقة شخصية مع بعض منهم. أردت للشخصيات أن تحمل سمات أكثر شمولية، تعاملت مع خلفية كل لوحة بشكل تصويري وبتفاصيل مجردة ومبسطة للموقع أو الخلفية التي مثلتها تلك المشاهد-شرقة، حديقة، باب منزل، أو بعض الأشجار في مشهد طبيعي، رسمت ولونت أجزاء من تلك الخلفيات باستخدام ألوان الطين الباهتة، مع الاهتمام بأن ذلك لا يشكل تشويشا ويصرف الانتباه عن الأجساد الرئيسية المنحونة في هذا التشكيل، وهي أساسا جوهر الأعمال، بعد ذلك قمت بصنع إطار مزخرف لكل لوحة، أيضا بالطين، بحيث تعطيها تميزا يلائم موضوعها وأجواءها".
انتابني طوال العملية الفنية، بينما كنت أنتج هذه السلسلة من "لوحات عائلية"، شعور بأن الشخصيات في هذه اللوحات تحتاج إلى من يروي قصتها، مما دعاني للتفكير في إضافة عنصر آخر لمشروعي الفني بكتابة قصة قصيرة عن كل لوحة، وعن الصورة الفوتوغرافية القديمة التي استلهمت منها العمل الفني. وهكذا انبثق عن ذلك حوار جميل بين ثلاثة وسائط إبداعية هي "الصورة الفوتوغرافية، والعمل الفني، والنص المكتوب"، وكان ثلاثتهم بالنسبة لي شيئا جوهريا لكي يتكامل المشروع. وفق تماري
اخترت عشر لوحات من تلك التي أنتجتها بالحفر البارز، والصور المرتبطة بها كأساس للنصوص المرفقة في هذا الكتاب، سعيت من خلال السرد القصصي إعطاء حياة للصور، ورواية قصص وحكايات عاشتها شخصياتها الرئيسية، كل التفاصل في هذه القصص حقيقية، وكلها تستنهد إلى واقع، تذكرت أنني سمعتها من أهلي أو عماتي وأنا طفلة، على سبيل المثال، كان موضوع لوحة "نزهة في الخليل"، مستلهما من صورة جماعية لنزهة قامت بها عائلة والدي وأصدقاؤهم في العشرينيات من القرن الماضي في منطقة الخليل، حيث تتوسع الرواية لأصف من خلالها حياة والدي في الخليل حيث كان موظفا شابا، وأتطرق إلى البيئة السياسية في ذلك الحين وأعمال الشغب في عام 1929، والنزاع الذي تلاها بين العرب واليهود أما "امرأة أمام الباب"، فسردت من خلالها قصة شخصية عن والدتي، في هذه القصة أعاد رسم صورة حميمة لأمي، ربما قد تكون صورة رومانسية نوعا ما، لكنها كانت عن فتاة شابة تعيش في يافا وتحمل أحلاما وطموحات غير تقليدية لامرأة من جيلها من ذلك الزمان.
وتقول، إنها مع نشر هذا الكتاب تكون قد حققت حلما طالما روادها منذ زمن بعيد، والذي استلهمته من لوحات الحفر الفخاري البارز وكانت قد أنجزتها منذ اكثر من خمسة وثلاثين سنة- وهو أن أطرح صورا موجزة للحياة الفلسطينية قبل النكبة من خلال تقنيات الفن، والتصوير، والكتابة كنافذة نرى من خلالها رواية متفردة حميمة من حياتنا كفلسطينيين؛ فالسردية الناتجة لا تتعلق بالفقدان والنزوح فحسب، لكنها أيضا تتحدث عن التذكر والتجدد، بشكل أو بآخر هي قصة "العودة"- فمن خلال الذاكرة والذكرى اخترت أن أستحضر الأوجه المختلفة لتجارب عائلة فلسطينية واحدة- عائلتي- قبل التهجير وتشتت أفرادها في أرجاء العالم. ومع المجموعة الفنية للوحات الفخارية المنحوتة تمثل بشكل خاص تاريخ عائلتي في بيئتها الاجتماعية في يافا والقدس والتي استلهمتها من صور أرشيف والدي، إلا أننا قد نجد أيضا في هذه الصور وفي الروايات التي كتبتها أصداء التاريخ الشخصي لمئات الآلاف من العائلات الفلسطينية الأخرى حول العالم.
وتضيف، لقد أتاحت لي كتابة هذه القصص فرصة التأمل في أفكار راودتني منذ الطفولة وما تزال: كيف كانت ستكون عليه الحياة في فلسطين لو نجت من السلب والفقدان المأساوي لأرضها والطرد القاسي لشعبها؟ ماذا لو أتيح لنا ان نستمر في العيش بأمان في بيوتنا، قرانا مدننا، ماذا لو أتيح لنا، كأفراد وأمة، أن نسعى وراء شغفنا وأحلامنا؟ إن هذا الكتاب لم يحررني من هذا الحلم المستحيل، إلا أنه حملني على جناح "عودة"، ذهنية متخيلة إلى يافا وفلسطين المفقودة.